"معضلةُ يوثيفرو" منَ الفهمِ إلى الحلّ!

: اللجنة العلمية

سألَ سُقراط (ت 399 ق م ) محاورَهُ (يوثيفرو) قائِلاً: يا صديقي الصّالح، إنَّ النّقطةَ الرّئيسيّةَ التي عليّ أن أفهمَها بادئَ ذي بدءٍ هي: 

_ إذا ما كانَ التّقيُّ أو المُقدّسُ محبوباً منَ الآلهةِ لأنّهُ تقيٌّ، أو هوَ تقيٌّ لأنّهُ محبوبٌ منَ الإلهةِ ؟! 

_ يوثيفرو: إنّني لا أفهمُ معناكَ يا سُقراط !

 (1)

      جاءَ المقطعُ آنفاً في (المحاوراتِ الكاملةِ لأفلاطون 3/265 ، الأهليّة - ترجمةُ : شوقي تمراز) ويشيرُ لِما عُرفَ فلسفيّا بـ(مُعضلةِ يوثيفرو)، وهوَ مِن أقدمِ ما يُمكنُ الأرخنةُ بهِ للمسألةِ المعروفةِ في المُدوّناتِ الكلاميّةِ بمسألةِ : الحُسنِ والقُبحِ: أشرعيٌّ هو أم عقليٌّ ؟! ومنذُ ذلكَ الوقتِ ظلَّ صدى سؤالِ سُقراط يصكُّ الأسماعَ، ويستفزُّ العقلَ: هَلِ العدلُ خيرٌ لأنَّ اللهَ أمرَ به، أم أمرَ اللهُ به؛ لأنّهُ خير؟! هَل حرّمَ اللهُ السّرقةَ لأنّها قبيحةٌ، أم هيَ قبيحةٌ لأنَّ اللهَ حرّمها ؟!

      إنّه السّؤالُ المُلغّمُ، وفي اِختيار أيٍّ مِن شقّيهِ مغبّةٌ؛ فلَو قيلَ بمذهبِ الأشاعرةِ : إنَّ خيريّةَ العدلِ وشرّيةَ الظّلمِ مُرتهنةٌ بأمرِ اللهِ ونهيهِ ثبتَت إعتباريّةُ القيمِ فمِنَ الجائزِ أن يأمُرَ اللهُ بالظّلمِ وينهى عنِ العدلِ فينقلبُ الظّلمُ عدلاً والعدلُ ظُلماً ! " وتجويزُ ذلكَ يسدُّ بابَ معرفةِ النّبوّةِ، فإنَّ أيَّ نبيٍّ أظهرَ المُعجزةَ عقيبَ اِدّعاءِ النّبوّةِ، لا يمكنُ تصديقُه، معَ تجويزِ إظهارِ المُعجزةِ على يدِ الكاذبِ في دعوى النّبوّةِ " ( الحلّيّ - نهجُ الحقِّ : 84 ) ، ناهيكَ عن مُخالفتِه لبداهةِ العقلِ ومُعطياتِ الواقعِ حيثُ إقرارُ مَن لا يدينُ بدينٍ ولا يلتزمُ بشريعةٍ بحُسنِ بعضِ الأفعالِ وقبحِ الآخرِ " فإنَّ الكُفّارَ كالبراهمةِ وغيرِهم معَ إنكارِهم للشّرائعِ يحكمونَ بذلكَ " ( قواعدُ المرامِ للبحرانيّ : 104)، وهذهِ الأسبابُ وغيرُها دفعَت الإماميّةَ لرفضِ شرعيّةِ الحُسنِ والقُبحِ واختيارِ عقليّتِهما.

     بيدَ أنّ هذا الإختيارَ لا يُخلّصُهم مِنَ الإشكاليّةِ، ولا يُخرجُهم عَن دائرةِ المُعضلةِ، فالقولُ : إنَّ اللهَ أمرَ بالعدلِ لأنّهُ خيرٌ ونهى عنِ الظّلمِ لأنّهُ شرٌّ؛ يستدعي أن يخضعَ الإلهُ لسلطةٍ أعلى لهَا حقُّ تقريرُ ما يحسنُ منهُ وما لا يحسنُ وما يجبُ منَ الأفعالِ وما لا يجبُ ، فبحكمِ اِستقلالِ العقلِ سيقعُ اللهُ تعالى تحتَ طائلةِ التّكليفِ ، هذا ما يُفضي إليهِ القولُ باِستقلالِ العقلِ بمعرفةِ الحسنِ منَ القبيح؛ لِذا قالوا : " مَن زعمَ أَن العقلَ يدلُّ على وجوبِ شَيءٍ يُفضِي بِهِ الأَمر إِلَى إثبَات الوُجُوب على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى " (التّبصيرُ في الدّين 171).

     أضِف لذلكَ أنّه يفتحُ البابَ لقبولِ تبريرِ اللّادينيّينَ في الاِستغناءِ عنِ الدّينِ والشّرعِ بالعقلِ ، مثل البراهمةِ قديماً ومثل المُلحدينَ اليوم ، كتبَ دوكينز في وهمِ الإلهِ : ألا نحتاجُ لوجودِ إلهٍ كَي نكونَ صالحين؟...الأمرُ ليسَ كذلكَ (مُقدّمةُ الكتابِ ص6 ) وأضافَ : الإستنتاجُ الرّئيسُ ..ليسَ هُناكَ أيُّ فروقٍ تُذكرُ بينَ المُلحدينَ والمُتديّنينَ مِن ناحيةِ اِتّخاذِ قرارٍ أخلاقيٍّ ...لسنَا بحاجةٍ إلى اللهِ لنكونَ صالحينَ أو طالحينَ " .(الفصلُ السّادسُ ، ص277) . 

    وإذَن، ثمّةَ مُشكلتانِ رئيستانِ في المنظورِ الإماميّ للمسألةِ:

الأولى:  الوجوبُ على اللهِ .

الثانية : الإستغناءُ عنِ الدّينِ .

 

 

 

 

 

 

(2) 

       إنّ  اِكتشافَ ما كتبهُ اللهُ على نفسِه ، لا ينحصرُ بتصريحهِ تعالى وحسبُ كما في الآيةِ { كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [الأنعام : 54]  وإنّما ثمّةَ طريقٌ آخرُ ، ذلكَ الطّريقُ يبتني على الإيمانِ بقُدرةِ العقلِ على إدراكِ وتمييزِ خيرِ الأفعالِ مِن شرّها ، وقابليّتِه لمعرفةِ حُسنِ بعضَ الأفعالِ وقُبحِ الآخرِ ، العقلُ هُنا لا يُؤسّسُ حُكماً ولا يفرضُ تكليفاً بَل دورهُ الإكتشافُ ، كما اِكتشفنَا عبرَ الوحي للنّبيّ بوصفِه حُجّةَ اللهِ الظّاهرة أنّه كتبَ على نفسِه الرّحمةَ ، نُدركُ أيضاً وعبرَ العقلِ بوصفِه حُجّةَ اللهِ الباطنةَ حُسنَ بعضِ الأفعالِ وقُبحَ بعضِها الآخرِ ، ففي الخبرِ : " إنَّ للهِ على النّاسِ حُجّتينِ: حُجّةٌ ظاهرةٌ وحُجّةٌ باطنةٌ، فأمّا الظّاهرةُ فالرّسلُ والأنبياءُ والأئمّةُ - عليهم السّلام -، وأمّا الباطنةُ فالعقولُ " ( الكافي 1/17) ، وقَد قيلَ أيضاً : العقلُ رسولٌ باطنٌ ، والرّسولُ عقلٌ ظاهرٌ ، إنَّ العقلَ هُنا يستنتجُ ولا يفرضُ بمعنى الإلزامِ ! 

      فمِن عدلِ اللهِ وحِكمتِه وإتقانِه في الخلقِ ودقّةِ قوانينِه في الكونِ وكما قالَ آينشتاين جُملتَهُ الشّهيرةَ : إنَّ اللهَ لا يلعبُ النّردَ ، أقولُ مِن ذلكَ يستنتِجُ العقلُ أنَّ اللهَ لا يعبثُ معنا ولا يخدعُنا فلا يُدخِلُ مُحمّداً نبيّهُ النّارَ وأبا لهبٍ عدوّهُ الجنّةَ ، ولا يُكلّفُنا بالخارجِ عَن وسعِنا ، نعَم ، منَ المُؤكّدِ أنّهُ قادرٌ على كلِّ ذلكَ بَل على كلِّ شيءٍ ، غيرَ أنَّ الحديثَ هُنا عمّا يتناسبُ صدورهُ وما لا يتناسبُ صدروهُ مِن أفعالٍ معَ كمالهِ المُطلقِ.

      والآنَ ما الذي أوجبَ الخلطَ والخبطَ لدى المُعترضِ بمُشكلةِ الوجوبِ على اللهِ؟! إنّها مُفردةُ الوجوبِ بما تحويهِ مِن معنىً شائعٍ درجَ عليهِ المُتشرّعةُ والذي ينطوي على التّكليفِ النّاتجِ عَن أوامرِ الأعلى للأدنى ، لكِن « ليسَ هذا الوجوبُ بمعنى الحُكمِ الشّرعيّ كما هوَ المُصطلحُ عندَ الفُقهاءِ، بَل هذا الوجوبُ بمعنى كونِ الفعلِ بحيثُ يستحقُّ تاركُه الذّمَّ، كما أنَّ القبيحَ بمعنى كونِ الفعلِ بحيثُ يستحقُّ فاعلُه الذّمَّ، و الكلامُ فيهِ هوَ الكلامُ في الحُسنِ والقُبحِ بعينِه ، و العالِمُ القادرُ الغنيُّ لا يتركُ الواجبَ ».(الخواجةُ الطّوسيّ - نقدُ المحصّلِ، ص 342).

 

(3)

       يمكنُ إيجازُ منظورِ مُتكلّمي وفلاسفةِ الإماميّةِ بخصوصِ المسألةِ على نحوٍ تنحلُّ بهِ المُشكلةُ الثّانيةُ (الإستغناءُ عنِ الدّينِ) أو لا مشكلةَ أصلاً فيما يلي : جميعُ الأفعالِ الواقعةِ تحتَ إختيارِ الإنسانِ فيها جانبانِ وقضيّتانِ : جانبٌ موضوعيٌّ ، وآخرُ ذاتيٌّ ، والقضيّتانِ هُما :

الأولى : الإيمانُ بوجودِ قيمةٍ ذاتيّةٍ موضوعيّةٍ واقعيّةٍ خارجيّةٍ للأفعالِ كُلِّ الأفعالِ ، ومِن أجلِ هذا وبناءً عليهِ وحسبَ تلكَ القيمِ التي تنطوي عليها الأفعالُ تدورُ الأحكامُ التّكليفيّةُ الخمسةُ المعروفةُ وتثبتُ لهَا.

الثّانيةُ : الإيمانُ بقُدرةِ العقلِ على اِكتشافِ تلكَ القيمِ في بعضِ الأفعالِ وعجزهِ عن اِكتشافِ البعضِ الآخرِ ، وفرقُ هذهِ القضيّةِ عَن سابقتِها ، أنَّ القضيّةَ الأولى تدورُ حولَ الوجودِ الموضوعيّ للأفعالِ مِن حيثُ هيَ وكما هيَ عليهِ وعَن وجودِ الفعلِ خارجاً عَن ذواتِنا وتصوّراتِنا وأنّ لها قيماً في نفسِها بصرفِ النّظرِ عنّا ، وهيَ أيضاً تتناولُ جميعَ الأفعالِ بينما القضيّةُ الثّانيةُ تثبتُ قُدرةَ عُقولِنا وذواتِنا على معرفةِ حُسنِ أو قبحِ بعضِ الأفعالِ وعدمِ قُدرةِ بعضِه الآخرِ وبحسبِ هذهِ القضيّةِ الثّانيةِ إذَن ، فأفعالُ الإنسانِ على قسمين :

القسمُ الأوّلُ : أفعالٌ يستغني العقلُ فيها عَن غيرِه في معرفةِ حُسنِها أو قُبحِها فيُدركُها بنفسِه ويستقلُّ في الحُكمِ عليها لوحدِه ، إمّا بالبداهةِ مثلَ : إدراكِه لحُسنِ العدلِ والأمانةِ وقُبحِ الظّلمِ والخيانةِ ، أو بُعدِ إنعامِ النّظرِ فيها وتقليبِ وجوهِها : مثل الصّدقِ الضّارِّ والكذبِ النّافعِ كما لو كانَ لأجلِ إنقاذِ نبيٍّ أو وصيٍّ .

القسمُ الثّاني : لا يستقلُّ العقلُ الإنسانيّ للبتِّ فيها حُسناً أو قُبحاً ، مثلَ : الإجهاضِ و أكلِ لحمِ الخنزيرِ ، و الحجِّ والصّلاةِ وهكذا الكثيرُ من الواجباتِ والمُحرّمات ، ولمَّا كانَ هدفُ الدّينِ هوَ تحقيقُ العدالةِ وضمانُ سعادةِ  الإنسانِ وكانَ الإنسانُ قادِراً على تشخيصِ بعضِ ما يُحقّقُ سعادتَهُ بفضلِ ما أُعطيَ مِن عقلٍ (القسمُ الأوّلُ) دونَ البعضِ الآخرِ مِن الأفعالِ ممَّا لا قُدرةَ لهُ على معرفةِ حُسنِها أو قُبحِها وما ينفعُه مِنها وما يضرّهُ (القسمُ الثّاني) ، فأرسلَ لهُ اللهُ الرّسلَ وبعثَ الأنبياءَ ونصّبَ لهُ الأئمّةَ فكانَ الدّينُ .

      الخلاصةُ: ثمّةَ ثلاثُ قضايا مُهمّةٍ إنفتحَ بابُها بما أوجزناهُ في هذا المقالِ :

أوّلاً- فبوجودِ قيمٍ غيرِ مادّيّةٍ لها حقيقةٌ موضوعيّةٌ؛ صارَ بإمكانِنا الحديثُ عَنِ البرهانِ الأخلاقيّ على وجودِ اللهِ الذي تأسّسَ معَ إيمانويل كانت، وأعادَ إحياءهُ سي إس لويس..وتستهدفُ هذهِ النّقطةُ المذاهبَ المادّيّةَ عامّةً.

ثانياً- وبعقليّةِ الحُسنِ والقُبحِ إنفتحَ بابُ معرفةِ الأنبياءِ والجزمِ بصدقِ اِدّعائِهم ، كما ثبتَ بُنيانُ الأخلاقِ وبطُلَت نسبيّتُها، مقابلَ الأشاعرةِ القائلينَ بشرعيّتِهما ممَّا يلزمُ منهُ عدمُ القطعُ بحقّانيّةِ الأنبياءِ ولَو معَ المُعجزةِ !

ثالثاً- وبعجزِ العقلِ عن إدراكِ حُسنِ أو قبحِ بعضِ الأفعالِ ، يثبتُ ألّا مناصَ من الشّرعِ ، وهذا يبطلُ دعوى اللّادينيّينَ كالبراهمةِ مِن أنَّ ما جاءَ بهِ الشّرعُ إن خالفَ العقلَ فلا خيرَ فيهِ وإن أقرّهُ العقلُ فنحنُ في غِنىً عنهُ .

 

المرفقات