سؤال الثابت والمتغير في الحداثة والكلام والفقه

: السيد علي الحسيني

سُئِلَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله): "غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَ لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ"، فَقَالَ (عليه السلام): إِنَّمَا قَالَ (صلى الله عليه وآله) ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الْآنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ.(نهج اللاغة).

 

             يبرز " الثابت والمتغير" كعنوان في أربعة حقول معرفيّة مختلفة: ففي نظرية المعرفة يقسّم العلم إلى كليّ وجزئيّ، والكليّ هو "الثابت"، والجزئي هو "المتغير"، وعلى صعيد الفلسفة حين التعرّض إلى أنّ دائرة الوجود تسع الماديّ، والمجرّد ، وبكلمة بديلة: الوجود منه "متغيّر"، ومنه "ثابت"، وفي قسم الإلهيات بالمعنى الأخص يأتي في سياق إشكالية ارتباط العالم الحادث  بالوجود الإلهي الواجب الثابت، ولا شأن للمقال بهذه السياقات، إنّما شأنه الثابت والمتغيّر (الديني)، الذي دخل ساحة الفقه وأصوله متأخراً؛ استجابة للأسئلة التي فرضتْها الحياة(المتغيّرة) وتطوراتها على فقه الشريعة (الثابت).

 

     سؤال الثابت والمتغيّر

           أظهر الواقعُ المتغيّر للحياة العديدَ من الموضوعات الجديدة، مثل: أحكام البنوك والمصارف والحوّالات، وبيع العملات الأجنبية، والتلقيح الصناعي، وتحديد النسل، والاستنساخ البشري، إلخ من موضوعات جديدة في الطب، والبيئة، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، مما لم يكن وجود صدر الإسلام...في المقابل، يتمسّك الفقه الإسلامي بمسلّمتين:

أولاً- الاستيعاب، فلا شيء يقع في مسرح الحياة إلا وله في الفقه حكم، وقد قيل: ما من واقعة الا ولها حكم.

ثانياً- الدوام، وقد ثبت في الأحاديث: إنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

       وتأسيساً على ذلك، يبرز السؤال التالي: 

كيف تستجيب الشريعة، المحكومة بالثبات(الشمول والدوام) أن تستجيب للمتغيرات؟! والمعني بالإجابة عنه من هذه الزاوية؛ هو أصول الفقه، بيد أنّ لعلم الكلام صلة فيه أيضاً، فيما لو نُظر إليه على أنّه اعتراض يعتور دوام التشريع الاسلامي من حيث الصلاحية لكل زمان ومكان، وعندها يتناوله علم الكلام ليمارس أحد أدواره ممثلاً بدفع الشبهات، وإذن، فالسؤال ذو وجهين: إشكالية أصوليّة، وهو أيضاً شبهة كلاميّة؛ نظراً لاختلاف المجالين في الهدف والغاية.

 

أـ المنظور الحداثي للثبات والمتغير:

            اختلفت الأنظار حيال مسألة: الثابت والمتغير على طرفين، ووسط، فالحداثة لا تؤمن بالثبات مطلقاً، والمنحى الإسلامي التقليدي لا يرضى بالتغير مطلقاً، وبينهما تقع رؤى لمفكرين وعلماء مجددين.

           والحداثة موقف فكري بالدرجة الأولى، إطاره الفكري يضم ثلاثة أُسس رئيسة: العقلانية، والفردانيّة، والتطوّر، وهي غير  التحديث(التطور المادي والاقتصادي والصناعي..)، والتقابل بينهما كما البناء التحتي و الفوقي في الماركسيّة...، وتفهم الحداثةُ الدين في ضوء أُسسها، فتدعو لعقلنته، وأن يكون شأناً شخصياً بين الإنسان وربّه، وعلاوة لعنصر التغير والاستجابة للمتغيرات.

         ومن هذا المنطلق، ترفض الحداثة الدين الذي ينظر لله كغاية، وللإنسان بوصفه عبداً مكلفاً، وللآخرة كمسعى نهائي ينبغي حضوره في حياة الكائن البشري، والأهمّ الآن هو رفضها لعنصر الثبات في الدين، ففي المقابل، وانطلاقاً من تلك الأسس، تؤمن الحداثة بأصالة الأنسان بدلاً عن الله، وتضع الدنيا موضع الآخرة، كما وتنطلق من التطور العام في الحياة و التغيير المطرد لكل شيء لصالح الإنسان !، ضمن ذلك –طبعاً- الدين، نعم، تستثني بعض توجهات الحداثة من مقصلة النسبيّة: القيم الأخلاقيّة، و المقاصد العليا كالعدل، والعقائد الكبرى كالتوحيد والنبوة، وتخص المنظومة التشريعية بالتغيّر والتطوّر. !

 

ب- الثابت والمتغير في الكلام  :

      إنّ الإيمان بختم النبوة و انقطاع الوحي، يعني تناهي مصادر ونصوص التشريع(القرآن والسنة) وثباتها بلا زيادة ولا نقصان، الأمر الذي يولّد فجوة مع الحاجات الصاعدة والمتزايدة المفروضة بحكم تجدد الحياة واتساع رقعة المتطلبات، إنّها مشكلة استيعاب المحدود لـللامحدود، والجمع والتوليف بين الماضي والحاضر، وتجسير العلاقة بين القديم والجديد،  الأصالة والتجديد، هو إذن، سؤال الثابت والمتغير!

      وينطوي الطرح آنفاً على نظرة اختزاليّة، يركّز على جانب، ويهمل آخر لا يقلّ أهميّة عن سابقه، يتمثّل باحتواء الإسلام على مفاهيم عامة، ومبادئ ثابتة، تعالج المتغيرات، وتبثُّ فيه المواكبة على الدوام، وترفده بمتطلبات الاستجابة للجديد، وهي مبادئ داخلية أصيلة، لم يفرضها الواقع المتغير، كما قد يُتخيّل، دونك ثلاثة من أبرزها :

1ـ الإيمان بدور العقل: 

إذ لا يقتصر ذلك الإيمان بقدرة العقل على معرفة المتجاوز للمادة فقد ورد في الحديث:(بالعقل عرف العباد خالقهم)، بل يتجاوزه إلى الإيمان بمرجعيّته في معرفة بعض الأحكام وقدرته على تشخيصها، ومدار ذلك الدور ـ على تفصيلاته المتشعبة ـ يعود للقاعدة المعروفة بالحسن والقبح التي يقرر الإمامية عقليتهما، فمن فروعها : قاعدة البراءة العقلية، وأنّ عدم البيان بيان للعدم أو قبح العقاب بلا بيان، فببركتها يحكم بعدم الوجوب أو الحرمة إلا بدليل، أو قاعدة مقدمة الواجب واجبة، فبها مثلاً يُحكم بوجوب قطع تذكرة الطيران للحج، الذي يعدُّ من الموضوعات الجديدة .

2ـ العمومات الثابتة، والمصاديق المتغيرة :

       توهمتْ الإشكالية أيضاً أنّ تجدد الجزئيات التي لم يكن لها واقع ووجود في زمن نصّ يعني خلو الشريعة من الحكم عليها! وهو توهم فاسد، فحين يوجب القرآن الكريم  الاعداد للعدو، دون أن يحصر مفهوم الإعداد بمظهر معين أو يقصره بمصداق محدد:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال : 60] فهذا يعني شموله لكل مظاهر الإعداد المختلفة حسب الأزمنة والأمكنة ، ففي وقت يقع المفهوم على السيف، وفي آخر على الطائرة ..وهكذا، وعين الكلام يجري في حرمة التجسس، و وجوب معاشرة الزوجة بالمعروف ، المنصوص عليهما في القرآن.

3ـ القوانين الحاكمة، والأحكام العليا :

            يتصدر الدستور في الدول والنظم الحديثة، ويحتل الصدارة في الأنظمة الوضعيّة، ويقع فيها موقع الأبوة والمبدأية، فليست نصوصه [ومواده] قوانين، إنما مبادئ قوانين، تؤخذ  بنظر الاعتبار عند سنّ أي قانون، و تكون لها الحاكمية والمرجعية المقدمة على ما سواه في التشريعات، من ثمّ تتربع النصوص الدستوريّة على عرش المنظومة القانونية وتمثّل الأحكام العليا... 

ويضاهي ذلك ما في الشريعة؛ إذ تستبطنُ أحكاماً عُليا ، ومبادئ حاكمة مسلّطة على غيرها من الأحكام، لها الأولوية والتقديم و تجلس على عرش تشريعاته، وتضخ على الدوام روح التجدد  والمواكبة وترفع سلفاً أيّ افتراض يشي بعدم واقعية أحكام الدين، منها مثلاً: نفي الحرج، والاضطرار، والاكراه... وغيرها من مبادئ  استُلتْ أصولها من نصوص قطعية، من قبيل قوله تعالى:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78] . (للإفاضة، راجع إلهيّات السبحاني).

 

ج ـ الثابت والمتغير فقهياً:

        نتلمّس في الآثار ومن وقت مبكر أمثلةً واضحة على حدوث تبدّل في بعض الأحكام الشرعية، سواء على مستوى النصوص، مثل: نصّ نهج البلاغة في مقدمة المقال، أو على مستوى الاجتهاد أيضاً، نقع على بذور جليّة للمسألة في كلمات فقهاء قدماء...يعلّق الصدوق(ت381هـ) مثلاً على حديث: الفرق بين المسلمين، والمشركين؛ التلحّي بالعمائم، قائلاً:  ذلك في أوّل الاسلام وابتدائه، وقد نقل عنه (صلى الله عليه وآله) أهلُ الخلاف أيضاً أنّه أمر بالتلحّي ونهى عن الاقتعاط .(من لا يحضره الفقيه،ج1/266)، والمقصود بالتلحّي هو أن يضع جزءاً من العمامة (الحنك) تحت لَحْيَيْه وحنكه، والاقتعاط خلافه، أي وضعها على الرأس دون إدارة الحنك، ولعلّ هذه أقدم إشارة واضحة لتغير حكم شرعي.

      وفيما بعد، تناول الفقهاء المسألة بعنوانها تارة، و على نحو متفرق في مسائل الفقه وأصوله أخرى، و بعنوان مختلف تارة ثالثة، كعنوان: تأثير الزمكان على الحكم؛ ذلك أنّ من يرى في الزمان والمكان مدخليّة ودور في الحكم- فهو بالضرورة يُقرّ بثنائية الثابت والمتغير، ويؤمن  بالتغيّر...نعم، يقع الجدل بينهم في مساحة ذلك المتغير، وفيما يلي عرض سريع لثلاثة اجتهادات، قاسمها المشترك هو _ مضافاً إلى الإيمان بثنائية الثابت والمتغير _  أنّها  تُرجع أمر الأحكام المتغيرة لـ(ولي الأمر):

1ـ الصدر، و منطقة الفراغ:

       وتتلخص رؤيته في أنّ كلّ حكمٍ ثبت للشارع فيه إلزام(وجوب أو حرمة) فهو ثابت لا تناله يد التغيّر، وأمّا الأحكام غير الإلزاميّة فأناط الإسلام شأن تغيرها لولي الأمر... يضع فيها من الأحكام ما يتناسب مع واقع الحياة منطلقاً في ذلك من أهداف الدين، وغاياته ومقاصده.

      وقد عبّر عنها الصدر بـ(منطقة الفراغ)، مستدلاً عليها بآية أولي الأمر، نافياً استلزامها النقص أو الإهمال التشريعي، " بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعين نقصا أو اهمالا، وإنما حددت للمنطقة أحكامها يمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع اعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف، فاحياء الفرد للأرض مثلا عملية مباحة تشريعيا بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقا لمقتضيات الظروف..."(الصدر-اقتصادنا،ص689).

2ـ الطبأطبائي، وصلاحيات ولي الأمر:

وأمّا الأحكام المتغيرة فتنتهي إلى أصل في الإسلام وجزء من أحكامه الثابتة وهو : (صلاحيات ولي الأمر) ومن وجهة نظر الطبأطبائي فإنّ " هذا الأصل في الإسلام يلبّي احتياجات الإنسان المتغيرة في كل عصر، ويستجيب للتبدلات في كل منطقة ومكان ومجتمع.." ويقرّب ما لولي أمر المسلمين من سلطة وحق للتصرف في الحياة العامة بما للفرد المسلم في الحياة الخاصة، ولكل منهما في سلطته ضوابط،" فالحاكم يستطيع في إطار التقوى ومع رعاية الأحكام الإسلامية الثابتة أن يتصرف ـ مثلاً ـ في الأموال والبيوت والممتلكات لما يؤدي إلى شق الطرق..." .(الطبأطبائي-الأحكام الثابتة والمتغيرة في الإسلام- ضمن كتاب : مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي ص109).

3ـ الخميني: من التحوّل الموضوعي إلى ولاية للفقيه.

       يؤكّد  السيد الخميني-في هذا السياق- على أصلين:

أ ـ إنّ فكرة التحول في موضوع الأحكام مطروحة عند الفقهاء، فيقبلون تغير الحكم حينما يتحوّل موضوعه إلى موضوع آخر، كما في استحالة الخمر إلى خلّ أو الميّت إلى ملح، بيد أنّ إضافة السيد الخميني تمثلّت في أنّ تبدّل الموضوع قد يحدث  بشكل خفي، ودون أيّ ضجيج، أي قد نرى ظاهر الموضوع ساكناً لكنّ هناك تحولاً يجري خلف هذا السكون الظاهري، وقد يُمثل لذلك بالشطرنج، فهو وإن لم يتغيّر في ظاهره وعنوانه إلاّ أنّه تغيّر في داخله وجوهره، فبعد أن كان أداة للقمار تحوّل إلى أداة للرياضة الفكرية. 

ب ـ الولاية المطلقة للفقيه، فهو يرى أنّ الحكومة المتفرّعة عن ولاية رسول الله – المطلقة؛ هي أحد الأحكام الأوّلية للإسلام، ومقدّمة على جميع الأحكام الفرعية.. فالحكومة قادرة على منع الحجّ، الذي هو من الفرائض الإلهية المهمّة، مؤقتاً، إذا كان في ذلك صلاح البلد الإسلامي.(المبلّغي- الثابت والمتغير في الفقه الإسلامي، بتصرف بسيط )

 

المرفقات