السُنّة بين الثابت والمتغير

: الشيخ معتصم السيد احمد

‎مقدمة:

‎لا أنوي الحديث عن حجية السنة فقد تكفلت كتب الأصول ببيان ذلك، وإنما أختصر مقالي بوضع تصور عام يستهدف تصنيف السنة بين ما جاء منها على نحو القضية الحقيقية، أي ما كان مؤسساً لمبدأ عام غير مختص بفترة زمنية، وما جاء على نحو القضية الخارجية، أي ما كان يستهدف معالجة وقتية لحادثة تاريخية.

‎يبدو أن تباين المنهجيات في التعامل مع السنة هو المسؤول عن معظم الاختلافات التي حدثت بين المذاهب الإسلامية، فبينما تطرف البعض إلى درجة أنه حرم كثيراً من منتجات العصر بحجة أن الرسول لم يفعلها، نجد البعض الاخر اعتبر السنة تجربة خاصة بالرسول لا يمكن إعادة انتاجها في هذا العصر، وهكذا يدور الامر عند بعض التوجهات بين الإفراط والتفريط، وفي ظني أن المنطقة الوسط التي تحقق التوازن في التعامل مع السنة هي رسم الحدود الفاصلة بين الثابت منها والمتغير.

‎ومع أن ذلك مشروع غير يسير إلا أنه لو تحقق سيكون مساهماً في ضبط المسار الفكري في الإسلام، فما وقع من اختلافات في الوسط الإسلامي يعود بشكل كبير إلى التباين المنهجي في التعامل مع النصوص، فمثلاً الاختلافات الكلامية كالتي وقعت بين المعتزلة والحنابلة، أو الاختلافات الفقهية كالتي حدثت بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، تعود إلى الاختلاف حول المساحة المتاحة للعقل في قبال النصوص، وبخاصة نصوص السنة لكونها أكثر اتساعاً وأكثر ملامسة لتفاصيل الحياة الإنسانية، فبينما يرى البعض أن الشريعة معقولة المعاني أي أن العقل يمثل المحور الذي تدور حوله النصوص، يرى أخرون أن النص هو المحور حتى لو كان مخالفاً للعقل، وعليه تصبح ظواهر النصوص هي التي تمثل الحقيقة الإسلامية، وقد صوّر ابن رشد جانباً من هذا الصراع، بين دعاة النص والوقوف عند ظواهره، وبين دعاة العقل.

‎معنى السنة في اللغة والمصطلح:

‎يُراد بكلمة سُنّة الطريق أو المسلك أو المنهج، والسُنن هي الطُرُق والمسالك، فيقال للطريقة المتبعة سنة سوى كانت تلك الطريقة محمودةً أم مذمومة فقد روي عن النبيّ (ص): (من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

‎وقد وردت الكلمة في القرآن في قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (62 الاحزاب). وقوله تعالى: (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (43 فاطر). مما يؤكد على أن السنة هي الطريقة.

‎كما يفهم من السنة التسهيل مثل سن الطريق أي عبده وكذلك ماء مسنون أي يجري بسهولة.

‎أما السنة في الاصطلاح فيقصد بها قول وفعل وتقرير المعصوم، ومع أن كلمة سنة في القرآن لا تحمل هذه المعاني إلا أنه جرى التعبير بهذا المعنى على لسان العلماء والفقهاء، وإذا حاولنا أن نقارب بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للكلمة يمكننا القول إن السنة هي منهج المعصوم وطريقته بما يشمل مواقفه واخلاقه وآدابه واسلوبه في ادارة الحياة، وبتعبير اخر السنة هي السمة العامة التي نستشف منها منهج المعصوم في الحياة، وبذلك تصبح أقواله وافعاله وتقريراته هي نماذج لتلك السمة ومصاديق لتلك الطريقة، كما لو قلنا منهج فلان، فانه يشمل جملة سلوكياته، وليس مفردات سلوكه، وهذا التفسير للسنة ينسجم مع موقف المسلمين من السنة حيث اتبعوا بعضها وجعلوا البعض الاخر خاصا بحياته، مما يدل على أن معنى السنة عندهم لم يكن كل ما اتصل بحياة الرسول بنحو الاستغراق، بل جملتها بنحو الشمول.

‎الثابت والمتغير من السنة:

‎اقسام السنة فيما يتصل بالثوابت والمتغيرات يمكن تقسيمها إلى خمسة اقسام، بحسب الوظائف التي كان يؤديها النبي الاكرم (ص)، فمن الطبيعي أن يكون لكل وظيفة خصوصية تقتضي موقفاً خاصاً يتناسب معها، فوظيفة تبليغ الدين تختلف عن وظيفة تحديد الموقف من حادثة ظرفية، وعلى هذا الأساس تكون السنة من النوع الأول ثابتة بينما تصبح السنة من النوع الثانية متغيرة.

‎ومن المعلوم أن النبي له وظيفة لها علاقة بشؤن الرسالة وله وظيفة أخرى لها علاقة بشؤن القيادة والإدارة للمرحلة التاريخية التي كان فيها. فمن وظائف الرسالة تفسير القرآن، وتأويل الوحي، وتزكية الناس، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (44 النحل). وقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (2 الجمعة). فتفسير آيات القرآن مثل بيان الحقائق الغيبية أو تفصيلات العبادات أو بيان الحدود التي تطبق من خلالها الشريعة، أو كل القضايا التي لا يستقل العقل في إدراكها تصبح من مختصات المعصوم، والسنة التي جاءت بهذا الخصوص تكون ثابتة لا مجال للاجتهاد في قبالها.

‎وهذا بخلاف تأويل الوحي إذا كان التأويل يعني تحديد المصداق الخارجي وإنزال معاني الوحي على الواقع المتغير، وفي هذه الحالة يستفاد من السنة بنحو المجموع لا بنحو الأفراد، فمثلاً إذا اول المعصوم آية الاحسان بعتق رقبة لا يعني أن تصبح سنة ثابتة وإنما يجوز للعقل أن يحدد الوسيلة المناسبة للحسان بحسب الظرف الذي يعيشه، وهكذا بقية القضايا التي طبق فيها المعصوم حقائق الشريعة على الواقع المتجدد. والتأويل بهذا المعنى يكون وسيلة من وسائل التفسير إلا أن التفسير يحدد المفاهيم والقيم الثابتة أما التأويل فيقوم بدور إنزال هذه القيم على ارض الواقع، وحينها لا يجب أتباع التأويل حرفياً لأنه مجرد مثال للحقيقة، ويسمى هذا التطبيق العملي في اللغة بالفتيا وهي بيان حكم قضية معينة ضمن دائرة الواقع استناداً على حقيقة كلية.

‎وهكذا الحال فيما يتعلق بالتزكية؛ لأنها تخضع للظروف الموضوعية حيث لكل نفس مرضها ولكل امة انحرافها ولكل ظرف منهجه الذي يناسبه، ومن هنا تتمايز المجتمعات عن بعضها في المنهج المطلوب لتربيتها، بل حتى الفرد الواحد تختلف احواله من وقت لآخر، ولذلك كانت دعوة الرسول قائمة على اساس الحكمة التي تعني رعاية الظروف والحالات المختلفة واختيار الحسنى، قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (125 النحل)، ولكون الحِكمة تقتضي مراعات مقتضيات المرحلة لا يمكن اتباع سنة المعصوم في التزكية على نحو التطبيق الحرفي وإنما تتم الاستفادة منها من خلال الكشف عن الطريقة العامة التي انتهجها المعصوم في الجملة، وذلك بمعرفة الطريقة والمنهج والعبرة من مجمل السنن التي جاءت في هذا الباب، فقد نجد مثلاً اختلاف بين سنة الرسول في مكة عن سنته في المدينة، أو بين سنته مع خاصة أصحابه عن سنته مع عامة الناس فان ذلك يهدينا إلى الحِكمة العامة في منهج التربية عند الرسول (ص).

‎اما القسم الأخر هو السنة الصادرة عن المعصوم فيما له علاقة بالشأن العام مثل القيادة والقضاء وإدارة شؤون الناس، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (65 النساء). ومن الواضح أن احكام القضاء تتعلق بموضوعاتها الخارجية، وبالتالي لا يمكن تحويل السنة الواردة في باب القضاء إلى ثوابت؛ لأن حقيقة القضاء هو تطبيق المبادئ والقواعد العامة على الحوادث، ومن هنا يكون الاستنان بما جاء عن النبي في القضاء هو من باب كونها سابقات قضائية، مثل ما يبحث القاضي في ملفات الاحكام السابقة حتى يتعرف على سنة القضاة السابقين ولا يعمل على إعادة احكامهم السباقة كما هي، أي اتباع المنهج بعد تجريد الوقائع من خصوصياتها.  

‎وفي المحصلة هناك سنة تعبر عن دور القيادة والإمامة أو كما يسمى بالأوامر الولائية، ويصطلح عليها القانون الحديث بالأحكام الدستورية، والسنة الواردة بهذا الخصوص تشكل نهجاً عاماً يستن به المؤمنين اقتداءً بالمعصوم، أي أن فائدتها تنحصر في التعرف على الأسلوب والطريقة؛ وذلك لكونها من المتغيرات أو كما يسمى قضايا في واقعة.

‎من الواضح أن هذه الأقسام الخمسة للسنة تشكل الإطار العام وتبقى معضلة التحديد والتمييز بينها، والخوض في هذا الامر موكول لأهل الفن والاختصاص ومن لهم خبرة بلحن القول ومعاريض الكلام، فكثرة التدبر والالتصاق بالروايات والعيش معها فترة طويلة من الزمن تكسب الإنسان مهارة خاصة للتمييز بينها. ومع أننا نسلم بصعوبة هذه المهمة إلا أن هناك أحاديث تكشف بظاهرها أنها متعلقة بالأمور الحياتية اليومية، أو أنها تكليف خاص للسائل أو حكم لظرف محدد، مثل قول الرسول (من دخل دار ابي سفيان فهو أمن). وفي قبال هذا النوع من الأحاديث الظاهرة في الأمور الظرفية هناك أحاديث ظاهرة في أنها غير مختصة بوقت، مثل الأحاديث التي لها أصل قرآني كالأحاديث التي أسست قاعدة (لا حرج في الدين). وكذلك الحال فيما كان له أصل في عمومات السنة.

‎ولا يخفى أن الوصول إلى معايير منضبطة للتميز بين أقسام السنة له فائدة كبيرة، ويبدو إن إشكالية التمييز دفعت البعض إلى ضرورة العمل بكل ما جاء في السنة بدون الحاجة للتمييز بين ما هو خاص بزمانه وما هو عام، وحجتهم في ذلك هو وجوب الطاعة مطلقاً لرسول الله، كما دفعت أخرين في الاتجاه المعاكس وبنسب متفاوتة، فمنهم من أبطل العمل بها ومنهم من حصر الاستفادة منها في دائرة ضيقة جداً، والطريق الوسط بين الاتجاهين هو الاستفادة من السنة والعمل بها لكن لا بحرفيتها وإنما بعد حذف خصوصياتها التاريخية، ومن ثم ردها إلى الأصول العامة التي تشكل الثوابت الدينية.

‎ومن الواضح أن دلالة الألفاظ على العموم لا تكون يقينية إلا بعد الاطمئنان بعدم وجود المخصص، الامر الذي يدعوا لدراسة كل واقعة بشكل منفصل ومن ثم مقارنة الأدلة ببعضها للخروج من الظن إلى دائرة اليقين. وقد تطرق السيد الخوئي في كتابه أجود التقريرات للميرزا النائيني لهذا الامر بقوله: (ان ثمرة البحث انما تظهر في شمول الحكم للغائبين بل للمعدومين بنفس الخطاب بناء على عدم اختصاص الخطاب بالمشافهين واما إذا قلنا باختصاصه بهم فنحتاج في تسرية منهم إلى غيرهم إلى التمسك بذيل قاعدة الاشتراك في التكليف وهي انما تجرى مع الاتحاد في الصنف فلو احتملنا اختصاص الحكم بالحاضرين مجلس الخطاب أو الموجودين في المدينة أو في عصر النبي صلى الله عليه وآله لما أمكننا تسرية الحكم منهم إلى غيرهم نعم احتمال الاختصاص بالحاضرين في المسجد أو المدينة في غاية البعد ولكن احتمال الاختصاص بالموجودين في زمان الحضور بمكان من الأماكن فنحتاج في تسرية الحكم منهم إلى غيرهم إلى التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف التي لا تجرى مع الاختلاف في الصنف... ثم يقول: إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام يقع تارة في القضايا الخارجية التي حكم فيها على اشخاص مخصوصين واخرى في القضايا الحقيقية التي حكم فيها على الموضوعات المقدر وجودها (اما القضايا الخارجية) فالحق فيها ان يقال باختصاص الخطاب بالمشافهين فان خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية وظهور الخطاب في أنه بلا عناية دفع احتمالها (واما القضايا الحقيقية) كما هو محل الكلام فالصحيح فيها هو القول بعموم الخطاب للمعدوم والغائب والحاضر على نهج واحد فكما ان الحكم في القضايا الحقيقية بحسب مقام الثبوت يعم الغائبين والمعدومين كذلك الخطاب في مقام الاثبات يعمهما أيضا ضرورة أن توجيه الخطاب إلى الغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود وهذا التنزيل انما هو مقوم كون القضية حقيقية لا انه أمر زايد عليه ليكون مدفوعا بالأصل)

‎وعليه إذا كانت دلالة العام لا تشمل كل الافراد إلا بعد التأكد من عدم وجود المخصص، فكذلك الحال في عمومات السنة إذ كيف تكون شاملة للجميع وفي كل الأوقات مع علمنا بوجود ما هو خاص بظرفه التاريخي؟ ومن هنا فإن تعميم السنة موقوف على الاطمئنان بعدم اختصاصها بالمعاصرين للمعصومين عليهم السلام، أو أن يكون لسانها من الأساس نحو القضية الحقيقية، مثل قوله-صلى الله عليه وآله- لا ضرر ولا ضرار، أما ما كان على نحو القضايا الخارجية فلا يمكن تسريتها إلى غيرهم أو كما عبر المحقق النائيني بقوله: اما القضايا الخارجية فالحق فيها ان يقال باختصاص الخطاب بالمشافهين، فان خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج الى تنزيل وعناية، وظهور الخطاب في انه بلا عناية يدفع احتمالها. واما القضايا الحقيقية فالصحيح فيها هو القول بعموم الخطاب للمعدوم والغائب والحاضر على نهج واحد).

‎والظاهر أن أكثر الأحاديث ذات خطابات مباشرة، أي أن لها علاقة بالقضايا الخارجية، وبالتالي لا يمكن تعميمها للآخرين إلا على ضوء قاعدة الاشتراك في التكليف، وهي قاعدة مشروطة بعدم الاختلاف في الصنف كما يؤكد الميرزا النائيني.

‎وقد فصل الميرزا مهدي الاصفهاني في كتابه (المعاريض) الكلام في أنواع السنة وقد قسمها إلى صنفين، الأول: أصول تمثل جوامع العلم والحِكمة، وهي أحاديث عابرة للأزمان بوصفها قواعد كلية، والثاني: هي السنة التي تمثل الفتاوى الزمنية وهي مختصة بظرفها التاريخي، وقد اعتمد في هذا التقسيم على الفرق بين مقام التعليم ومقام الافتاء، فالمعصومين (عليهم السلام) يميزون في أحاديثهم بين المتعلم وبين من يبحث عن تكليفه الخاص. وقد بسط الكلام في هذه المسألة من بعده أحد تلاميذه وهو المرجع السيستاني في درسه الخارج الذي قام بتقريره السيد هاشم الهاشمي، تحت عنوان (تعارض الأدلة واختلاف الحديث)، وقد جاء هذا المبحث من الكتاب تحت عنوان (في بيان ما يتعلق بفهم النصوص الشرعية والإحاطة بمداليها). ولأهمية هذا المبحث ولعلاقته المباشرة فيما ابحث عنه سأقوم بتلخيصه هنا على أن أذكر اهم النقاط التي تمهد الطريق للفصل بين الثابت والمتحول في السنة.

‎يُرجع السيد السيستاني سبب توهم البعض في وجود اختلافات بين روايات الائمة (عليهم السلام) إلى الخلط بين الأحاديث التي تكون على نحو القضية الحقيقية وبين الاحاديث التي تختص بظرفها التاريخي، حيث يعتقد أن التوهم الذي يقود البعض للاعتقاد بوجود تعارض بين روايات أهل البيت (عليهم السلام) ناتج من التوهم بإن أقوال الائمة جاءت على نحو التعليم دون غيره، في حين أن هناك أقوال انتهجت أسلوب أخر له علاقة بتحديد الوظيفة العملية دون التعليمية، ولذا تصور البعض أن هناك تعارض بين روايات الأئمة لعدم فهمهم لهذه الخصوصية، فبينما تهتم أحاديث التعليم ببيان الأصول العامة وقواعد الأحكام الكلية لتفقيه الأفراد الذين اعدوا لحمل علوم الشريعة، تهتم أحاديث أخرى بالفتاوى التفصيلية التي تتعلق بحكم المكلف ضمن ظرفه الخاص، يقول: (ونسمي الأول بأسلوب التعليم، والثاني أسلوب الإفتاء الذي يعني مساعدة الشخص الذي لا يتمكن من معرفة حكمه الشرعي من خلال تطبيق الكبريات الكلية على الموضوع...إلى أن يقول: وقد جاء في الحديث ما يؤكد هذا الأسلوب من عرض الأحكام، فقد روى الحديث الشريف "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع، وجاء ايضاً في قول الأمام (عليه السلام) "إذا شككت فابن على اليقين قلت هذا أصل؟ قال: نعم". ويعني بالأصل: القاعدة العامة، وهكذا معرفة القواعد الثانوية أمثال قاعدة نفي الضرر والحرج، ورفع الاكراه والاضطرار وغيرها)

‎وفيما يتعلق بالأسلوب الثاني يؤكد السيد السيستاني على أن أحاديث الإفتاء لا يجوز تعميمها على قير موردها، فيقول: (فهناك أحاديث صدرت من الأئمة عليهم السلام، في مجال الإفتاء لا التعليم، وقد لاحظ الإمام فيها خصوصيات حالة السائل وغيرها مما لها تأثيرها في الحكم، وربما يخفى كثير منها على السائل، ولا يجوز له ولا إلى غيره أن يطبق الحكم على غير مورده بمجرد التشابه الصوري بنهما. نعم يتمكن الفقيه من تشخيص الخصوصيات الدخيلة في الحكم وغير الدخيلة، وبالنتيجة يتمكن من انتزاع الكبرى الكلية من الفتاوى الخاصة في حين أن العامي يلتبس عليه ذلك)

‎الخلاصة:

‎1- أن الملاحظة الأولية التي تهدينا إلى تحديد الثابت والمتحول من السنة هي الرجوع إلى الدور الوظيفي للرسول، ويمكن تحديده في خمسة مهام وهي التفسير والتأويل والتزكية مضافاً القضاء وإدارة شؤن الناس، وقد تبين أن تفسير القرآن هو وحده من بين الخمسة لا يكون خاصاً بزمانه مثل تفسير الرسول للآيات المشتملة على الأمور الغيبية أو المشتملة الأحكام العبادية. أما الأقسام الباقية لا يمكن حملها على القضايا الحقيقية إلا بعد تجريدها من خصوصياتها الظرفية.

‎2- تنقسم السنة بحسب المخاطب إلى قسمين وهم العلماء وعامة الناس، والسنة الواردة في حق العلماء تشكل الأصول العامة والقواعد الكلية التي يستفيد منها العلماء تحديد الاحكام المتعقلة بالمسائل المستحدثة، أما السنة الواردة في حق العامة فهي احكام تفصيلية وفتاوى لها علاقة بظرفها التاريخي، ومن هنا كان القسم الأول من السنة ثابتاً بينما يعد القسم الثاني متحولاً لا يجوز تعميمه، حتى بقاعد الاشتراك في التكليف لأنها تشترط وحدة الصنف كما عبر النائيني.

‎3- نفهم من خلال بحث السنة أن الثوابت هي الكليات والقواعد العامة والقيم الكبرى بينما المتغيرات هي تطبيق هذه القواعد والكليات على الحوادث الزمانية.