عبد الكريم سروش وإشكالية الوحي

: الشيخ ليث العتابي

 

    إن عبد الكريم سروش لا يهتم بتأويل النص القرآني وفق منهج التأويل الصحيح، وذلك لأنه لا يعتبره نصاً موحى، ذلك أن ما حصل عليه النبي محمد (ص) ـ وبحسب مدعى سروش ـ هو مضمون الوحي، فصاغه للناس في إطار يتوافق مع مستوى أفهامهم بأدواته الخاصة وبأسلوبه الخاص !  كما وأن النبوة ـ بحسب أطروحة سروش ـ تزداد كلما ازدادت التجربة والخبرة والسنوات والمعلومات(1)! كما ويقول: بأن البيئة هي التي تحدد مظهر الدين(2). وبذلك فإن الدين ـ أي دين ـ يعيش حالة محلية بعيدة عن الطرح الإنساني العالمي، وذلك بحسب طرح سروش حول ذلك ؟!

      إن أطروحات عبد الكريم سروش مجرد (تأويلات) مشوهة أخذت من المسيحية والبوذية والبراهمية والزرادشتية الشيء الكثير، مع صياغات أخذها من هنا وهناك في خلط ما بين (حسي)، وآخر (عقلي)، و ما بين (نزعة مادية) من جانب، ونزوع (عرفاني) من جانب آخر!

     إن تلك الأفكار التي طرحها سروش ما هي إلا خليط عجيب، فما ذلك الخليط العجيب الذي صنعه سروش؟ إنه بحق (فرانكنشتاين) هجين ومشوه أكثر من (فرانكنشتاين) الحقيقي، بل هي بحق (فرانكنشتاينات سروشية) لا تنتهي، وسببها العداوة أو التسقيط والعناد، الذي نبع عن نقد ولربما حقد لمنظومة اختلف معها سروش، لينقلب على كل ما هو مشابه ومشاكل لها !

     إن من الدوافع التي دفعت دعاة التماهي مع النظريات الأوربية كأمثال عبد الكريم سروش هو عدم انسجام مضمون (الإنجيل) مع الإكتشافات العلمية الحديثة، كما وإن الطرح العلماني انطلق في أوربا بسبب هيمنة الكنيسة على أفعال الناس في أخص خصوصياتهم.

     إن هناك جملة من دعوات عبد الكريم سروش التي أطلقها، ففي دعوى (تاريخية الفهم) التي تبناها سروش يتبين لنا أنها دعوى نادى بها (النسبيون) الذين قالوا بتاريخية الفهم، وأنكروا وجود الفهم المستقل وغير التاريخي، ولهذا نالت جميع القراءات عندهم مرتبة الرسمية، وأنكروا إمكان المقايسة بين الأفهام والقضايا في الحقل المعرفي الواحد، وترجيح بعضها على البعض الآخر، فلا يوجد لديهم شيء اسمه (صدق) أو (حق) أو (معتبر) أو (باطل)(3).

      إما دعوى سروش بمنح جميع الأطراف المشكوكة درجة التساوي، مضافاً إلى دعوى قبول كل الأفهام المتعددة؛ فهي ممتنعة، وذلك بحسب القاعدة العقلية المنطقية (النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)، فلا يمكن أن يكون الشيء موجوداً وهو في نفس الوقت ليس بموجود، ولا يمكن أن تكون الورقة بيضاء وسوداء في نفس الوقت.

      كما وإن عبد الكريم سروش يقتبس من الهرمنيوطيقيا الشيء الكثير في بناء نظريته حول (القبض والبسط) وفق منهج هرمنيوطيقي تأويلي وابستمولوجي مستمد من أطروحات (عمانويل كانط)، كما ولا يخفى استفادة سروش من نظريات (غاستون باشلار) في مفهوم القطيعة، ونظريات (غروفيتش) حول الأطر الإجتماعية للمعرفة، وما طرحه (توماس كون) حول الباراديغم، وكذلك ما أخذه من (غادامير) من كون الإنسان موجوداً تاريخياً، وما انتحله من أفكار وطروحات (هايدجر)، كما وإن سروش يؤسس لتصور عن الدين بطابع فردي متأثر بالتحولات التي طرأت على الفكر اللاهوتي المسيحي وفق تصورات (تليش) التي اقتبس سروش منها الشيء الكثير.

     نعم، إن المفكر سروش دخل في إعادة ترتيب المكونات الفكرية للرواية الإسلامية، ليوجد فسحة لمثل تلك النظريات جون لوك، وروسو، ودارون من جهة، وأوغل في تفاصيل نقد البنى الفكرية الإسلامية، لا سيما في الفقه والأصول، ليرتب مساحة تستقر عليها الليبرالية في التفكير الإسلامي، ويؤسس إما لدين علماني، أو لتفكير علماني للدين)(4).

     إن مصطلح (النقد الثقافي) هو من أطروحات (فنسنت ليتش) التي سرقها عبد الكريم سروش وتبجح بها، من دون إشارة لصاحبها لا من قريب ولا من بعيد، فنجد ـ على سبيل المثال ـ أن ميجان الرويلي وسعد البازعي يؤرخان لمصطلح (النقد الثقافي) ويذكران رواده، ومنهم كذلك المفكر الألماني (تيودور أدورنو) في مقال له نشره عام (1949م) حينما شن هجوماً على الثقافة الأوربية حينها(5).

     يمكن لنا ـ تتبعياً ـ اكتشاف الكثير من الإنتحالات والسرقات في كتابات عبد الكريم سروش كـ(المجتمع المدني)، و(الليبرالية)، و(نظرية الحق الطبيعي)، و(الطبيعة البشرية)، والتجريبية)، والحتمية التاريخية).

     إن جون لوك (1632 ـ 1714م) هو صاحب نظرية (تحليل الطبيعة البشرية)، ويعتبر من أشهر المفكرين الذين نظروا لنظرية (الحق الطبيعي)، مضافاً إلى ما أخذه عبد الكريم سروش من أفكار باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677م)، ومن توماس هوبز (1588 ـ 1679م)، ومن رينيه ديكارت (1596 ـ 1650م)، وغيرهم.

      كما وإننا نجد عبد الكريم سروش يسرق مصطلح (الحتمية التاريخية)(6)، والذي أخذه من أفكار كارل ماركس (1818 ـ 1883م)، وكذلك المادية التاريخية، والطرح (التاريخاني)(7).

     إن عبد الكريم سروش وفي جميع طروحاته التي يتبجح بها، قد حاول صناعة بديهيات مغشوشة لكي يتسنمها نحو مبتغاه، من دون الإشارة للآراء المخالفة لها أو الناقدة أو المغايرة. (وهكذا جاءت نظرية الحق الطبيعي، المرتكز على تحليل الطبيعة الإنسانية في الفكر الليبرالي كمعارض لنظرية الحق الإلهي، والتكاليف الإلهية، ودائرة حق الطاعة للمولى تبارك وتعالى، التي تعتقد بالثوابت الفطرية والأبعاد الأخلاقية عند الإنسان، وإن الإنسان مطالب بالإرتقاء والتكامل والمطابقة مع هذه الثوابت، وإن المعرفة هي طلب الحقيقة والمطابقة معها، وليس الحقيقة هي في المنفعة واللذة وتجنب الآلام)(8).

     أما الحتمية التاريخية فقوله بها قد (تضمن حتمية مبالغ فيها، ولا تصح بهذه الصرامة، قالها الرجل لغاية في نفسه ليستخدمها سيفاً مسلطاً وقانوناً دامغاً لنزع الصفة الإلهية عن دين الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان)(9).

      لقد وصف عبد الكريم سروش الوحي القرآني بأنه (منتج وحياني من النبي)(10)، في تجنٍ واضح على شخص النبي الأكرم (ص)، وفي دلالة واضحة على أن عبد الكريم سروش إما لم يقرأ القرآن الكريم، أو لا يفهمه ولا يعرف ما جاء به، ذلك أن القرآن الكريم فيه (جرس ألفاظ) يحتاج إلى أذن (عربية خالصة) لكي تحدد وتميز كلماته التي تشابه باقي الكلمات بالأحرف، وتختلف عنها بوقعها وبلاغتها وتذوقها وجرسها لفظاً وسمعاً.

      إن هناك الكثير من آيات القرآن الكريم قد أكدت أن النبي الأكرم (ص) عبد لله تعالى، وأن القرآن من عند الله وحياً وكلاماً ونزولاً.

1ـ قال تعالى: ((وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )) سورة الشعراء، الآيات (192) ـ (195).

2ـ قال تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ )) سورة الحاقة، الآيات (40) ـ (52).

3ـ قال تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) سورة يوسف، الآية (3).

      والعشرات من الآيات القرآنية التي أكدت على أن القرآن الكريم وحيٌ من عند الله تعالى، أنزله على النبي محمد (ص)، ولم يأت به النبي محمد (ص) من عند نفسه أبداً، ولم يأخذه من بشر عادي، ولا من ديانة سابقة، ولا من كتاب سابق، وليس هو عبقرية أو حالة نشوة مطلقاً.

     إن دعوى عبد الكريم سروش ليست جديدة حول الوحي، فعلى سبيل المثال قد أجاب عن مثلها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (ت1948م)، بقوله: (وقد أسفّ بعض الناس، فزعم أن جبرائيل كان ينزل على النبي " ص " بمعاني القرآن , و الرسول يعبر عنها بلغة العرب. و زعم آخرون أن اللفظ لجبرائيل , و أن الله كان يوحي إليه المعنى فقط . و كلاهما قول باطل أثيم , مصادم لصريح الكتاب , و السنة , و الإجماع , و لا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به)(11) .

     إن عبد الكريم سروش يعيد اشكالات (اليهود)، و(المشركين)، و(الملحدين)، و(المستشرقين)، ومن شاكلهم من جديد، بل هو يردد كالببغاء، متماهياً مقولات الآخرين. لنجد بعد ذلك سفسطة واضحة منه حين يقول: (عندما نقول: إن هذه الأمور ترتبط بشخصية النبي، فليس معنى ذلك أن النبي هو مخترع هذا الكلام، بل معناه أن هذا الكلام يرتبط بقدرته ورصيده المعنوي والمعرفي)(12).

     إنها بحق سفسطة ما بعدها سفسطة، وخليط متداخل، وتشويش كبير على عقول الآخرين، فمن جانب يقول: (إن الوحي يرتبط بشخصية النبي)، ومن جانب آخر يقول: (ليس معنى ذلك أن النبي هو مخترع هذا الكلام)، ليضيف ثالثاً قوله: (إن هذا الكلام يرتبط بقدرة النبي ورصيده المعنوي والمعرفي)، فهل هناك سفسطة أكبر وأكثر من هذه التي بنيت على تعمدٍ في تشويه شخصية النبي الأكرم (ص) من خلال اختراع (بديهيات) لا أصل لها، يريد مصادرتها على الآخرين، وتصويرها على أنها بديهيات.

     ثم نقرأ قوله: (ولكن بما أننا نعتقد ....)(13)، وقوله: (فإنني أعتقد أن النبي هو المشرع للأحكام الفقهية...)(14)، فمتى كان اعتقاد عبد الكريم سروش حجة ؟ ومن هو ليعتقد أو لا يعتقد ؟ ثم من هو ليفرض اعتقاده على الآخرين ؟ وهل بالإعتقادات الشخصية الفردية للناس العاديين تقرر الحقائق ؟!

     إما (تاريخانية) عبد الكريم سروش فهي واضحة المعالم في قوله: (الهاجس الأساس في أمر التقنين هو أن هذه الأحكام والقوانين لا بدّ أن تكون عادلة في أجواء زمانه، وتبتعد عن الظلم في عرف ذلك الوقت، لا أنها تمثل العدالة المطلقة وفوق التاريخية، بمعنى أن النبي عمل على إصدار قوانين وتشريعات كانت تقترن بالعدل في مفهوم تلك الأجواء وتلك الأذهان، وبعيدة عن طبيعة الظلم والجور في ذلك الزمان)(15).

     إن هذا ليس بالمدعى الجديد، فهو يتكرر في كل زمان ومكان، وأساسه مبني على (عدم صلاحية القرآن لكل زمان)، فإن القول بـ(تاريخانية القرآن)، ووقتية أحكام القرآن، وعدم صلاحيته لكل زمان، من الدعوات التي تتكرر كل يوم، حتى جاء أدعياء الفكر المادي بلباس جديد لهذه الشبهة هو (التاريخانية).

     إن هذه الدعوى الموجهة للقرآن الكريم ليست جديدة، فلقد سبق وأن تبناها فلاسفة ما يسمى بعصر التنوير الغربي، وقادة الفكر العلماني في نقدهم للتوراة والإنجيل، فاستوردها بعض المستشرقين، ثم أخذها منهم بعض اللاهثين وراءهم ليطبقوها على القرآن الكريم، وذلك لإثارة الشبهات حوله، والهدف من وراء ذلك ـ كله ـ هو عـدم الأخذ به بحجة انتهاء صلاحيته!

     إن محاولات اختزال ظاهرة الوحي إلى نوبات هستيرية أو ممارسات شعوذة أو إفادات من التراث الديني، هي محاولات تنطلق على أساس رؤية مادية للوجود... إن أية مواقف تريد أن تحترم الحقيقة، لا بدّ لها أن تتأسس على معطيات علمية دقيقة وموثوق بها.  إن ظاهرة الوحي تفلت من دائرة المحسوس، ولا يمكن إخضاعها اليوم لأية اختبارات تجريبية علمية... وفي الإتجاه نفسه يحاول البعض الإلتفاف على حقيقة الوحي من أجل القول: إن الوحي الذي يتحدث عنه القرآن ليس إلا وحياً داخلياً وذاتياً، ونوعاً من حديث النفس كان يمارسه النبي)(16).

     إن سروش وبخصوص (الوحي) يتبنى نظرية (وحدة الوجود العينية) التي تقول: إن الله والعالم شيء واحد، وهذا على طريقة (جلال الدين الرومي) الذي كان يقول: إن اتحاد النبي بالله مثل صب مياه المحيط في الدورق(17)، الذي يعتبر من مصادر أفكار سروش المهمة، وكذلك ما استشهد به سروش من قول لـ(مولوي)، وهو كون القرآن مرآة ذهن النبي(18)، في نحو تجاه الصوفية الطاغي على جملة من أفكار سروش.

     إن مقولة إن القرآن الكريم مجرد تجلٍ في شخصية النبي (ص)، فهو مجرد تكرار لمقولة (الوحي النفسي)، التي كان يتبناها المستشرقون من أمثال (نولدكه)، و(درمنغام)(19).

      إن الإيمان بوحدة الوجود على طريقة سبينوزا، واعتبار الذات الإلهية حالة في جميع جزئيات هذا الكون بما في ذلك الإنسان، لا يمكن إلا أن تؤدي إلى هذه النتيجة. ولذلك نجد سروش يستشهد ببعض المقولات المنسوبة إلى بعض العرفانيين والمتصوفة من أجل تبرير موقفه، والدفاع عن نفسه ضد هجمات بعض رجال الدين)(20).

____________

(1) ظ: بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش، ص15.

(2) ظ: بسط التجربة النبوية، ص147.

(3) ظ: قراءة في تعدد القراءات، الكربابادي، ص113.

(4) قراءات في الفكر الإسلامي المعاصر، عبد الأمير زاهد، ص121.

(5) ظ: دليل الناقد الأدبي، الرويلي والبازعي، ص306.

(6) بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش، ص181 ـ 182.

 (7) بسط التجربة النبوية، ص120.

(8) مباني الدين التجريبي، غالب الناصر، ص157.

(9) نقض كتاب بسط التجربة النبوية، خالد كبير علال، ص5.

(10) بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش، ص95 ـ 96.

(11) مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني , ج 1 , ص 49 .

(12) بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش، ص137.

(13) بسط التجربة النبوية، ص138.

(14) بسط التجربة النبوية، ص120.

(15) بسط التجربة النبوية، ص120.

(16) تكوين النص القرآني، قاسم شعيب، ص45.

(17) ظ: تكوين النص القرآني، ص50.

(18) ظ: تكوين النص القرآني، ص51.

(19) ظ: تكوين النص القرآني، ص52.

(20) تكوين النص القرآني، ص53.