هَلِ التَّوَسُّلُ بالأَئِمَّةِ ﴿ع﴾ هُوَ تَفْويضٌ لَهُمْ ؟!!

‌‎:Hatem مرحبا.. الكَثِيرُ مِنَ المُؤمِنِينَ يُشْكِلُونَ عَلَى دُعاءِ التَّوَسُّلِ مِنْ حَيثُ المَتْنِ والسَّنَدِ ، ويَرُونَهُ تَفويضَاً لِلأَئَمَّةِ ﴿ع﴾ يُخالفُ رُوحُ التَّوحِيدِ الأَفْعَالي، فمَاذا تُجيبُونَ؟ أَفِيدُونَا مَأجُورِينَ

: اللجنة العلمية

الأَخُ المُحْتَرَمُ:

السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ ٱللهِ وَبَرَكَاتُهُ:-

 التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ والأَئِمَّةِ الأَطْهَارِ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾ مِنْ حِيثُ هُوَ جَائِزٌ سَائِغُ، دَلَّتْ عَلَيهِ النُّصُوصُ القُرآنِيَّةُ والنَّبَويَّةُ وَكلماتُ جُمهُورِ فُقَهَاءِ المُسْلِمِين.

فَفِي القُرْآنِ الكَريمِ تَجِدُ قولَهُ تعالى في سُورةِ النِّسَاءِ، الآيَةِ 64: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ ٱللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾.

فَهِيَ قَدْ دَلَّتْ بشَكلٍ واضِحٍ وصَرِيحٍ عَلَى أَنَّ تَوبةَ ٱللهِ ورَحمَتَهُ مُتَوقِّفةٌ عَلَى مَجيئِهِم لِرَسولِ ٱللهِ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ وَطَلَبِ التَّوَسُطِ عِندَهُ بالٱسْتِغفَارِ لَهُمْ، وَهَذا تَوَسُّلٌ وَتَوَسُّطٌ صَرِيحٌ يُريدُ ٱلله﴿ﷻ﴾ مِنَّا أنْ نَقُومَ بِهِ حَتَّى نَنَالَ تَوبتَهُ وَرَحمَتَهُ.

قدْ تَقُولُ هَذِهِ الآيةُ خاصَّةٌ بحَياتِهِ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ ولا تَشمُلُ حَالةَ مَا بَعدَ المَمَاتِ؟

نَقُولُ: يُجِيبكَ عَلَى سُؤالِكُ هَذَا أَهْلُ اللُّغَةِ والأُصُولِ والفِقْهِ. قالَ العَلَّامَةُ الغِمارِيّ في كِتابِهِ "الرَّدُّ المُحكَمُ المَتينُ":

 ((هَذِهِ الآيةُ عَامَّةٌ تَشْمُلُ حَالةَ الحَياةِ وحَالةَ الوَفَاةِ، وتَخْصِيصُها بأَحدِهِمَا يَحتاجُ إِلى دَليلٍ وَهُوَ مَفقودٌ هُنَا، فإِنْ قِيلَ مِنْ أَينَ أَتَى العُمُومُ حَتَّى يَكونَ تَخْصِيصُها بِحَالةِ الحَياةِ دَعوَى تَحتاجُ إِلى دَليلٍ؟ قُلنَا مِنْ وقُوعِ الفِعلِ فِي سِياقِ الشَّرطِ والقَاعدةُ المقرَّرَةُ فِي الأُصُولِ، أَنَّ الفِعلَ إِذا وَقعَ فِي سِياقِ الشَّرطِ كَانَ عَامَّاً؛ لأَنَّ الفِعلَ فِي مَعنَى النَّكِرَةِ؛ لِتَضَمُّنِهِ مَصْدَراً مُنكَرَاً، والنَّكِرَةُ الواقعةُ في سِياقِ النَّفيِ أَوِ الشَّرطِ تُفيدُ العُمِومَ وَضْعَاً)). إِنْتَهَى [الرَّدُّ المُحكمُ المَتِينُ: 44]

وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّيخُ أَحْمَدُ بْنُ زَينِي دِحْلَان مُفتِي الشَّافِعِيَّةِ فِي مَكَّةَ المُكرَّمَةِ فِي كِتابهِ "الدُّرَرُ السُّنِيَّةِ": ((إِعْلَمْ رَحِمَكَ ٱللهُ أَنَّ زِيارَةَ قَبرِ نَبِيِّنَا ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ مَشرُوعةٌ مَطلوبةٌ فِي الكِتابِ والسُّنَّةِ وإِجمَاع ِالأُمَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَولُهُ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ دَلَّتِ الآيةُ عَلَى حَثِّ الأُمَّةِ عَلَى المَجيءِ إِلَيْهِ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ والإِسْتِغفَارِ عِندَهُ وٱستِغفَارُهُ لَهُمْ وهَذَا لَا يَنقطِعُ بمَوتهِ ( إِلى أَنْ قَالَ ) والآيةُ الكَرِيمة ُوإِنْ وَرَدَتْ في قَومٍ مُعيَّنينَ في حَالِ الحَياةِ تَعُمُّ بعُمُومِ العِلَّةِ كُلَّ مَنْ وُجِدَ فيهِ ذَلِكَ الوَصْفُ فِي حَالِ الحَياةِ وبَعدَ المَمَاتِ، ولِذَلكِ فَهِمَ العُلماءُ مِنْهَا العُمُومَ لِلجَائينَ)).إِنْتَهَى [الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ: 5].

وإِذَا رَاجَعتَ "المُغْنِي "لٱبْنِ قُدَامةَ الحَنبَليّ [الَّذِي يَصِفُهُ ٱبنُ تَيمِيَّة نَفسُهُ بأَنَّهُ مَا دَخَلَ الشَّامَ بَعدَ الأَوزَاعيّ أَفْقَهُ مِنِ ٱبْنِ قُدامَةَ] تَجِدُهُ يَذكُرُ ٱسْتِحبابَ أَنْ يَقُولَ الزَّائرُ عِندَ تَوَجُّهِهِ لِلقَبرِ الشَّريفِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلتَ وَقَولَكَ الحَقُّ: ﴿ولو أنَّهم إذ ظلمُوا أنفُسَهُم جاءُوكَ فاستغفرُوا ٱللهَ وٱسْتَغْفَرَ لهُم الرَّسولُ لوَجَدُوا اللهَ تواباً رحيماً﴾ وقد أتيتُكَ مُستَغفِراً مِنْ ذُنوبِي مُستَشفِعاً بِكَ إِلى ربّي، فأسالكَ يا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِيَ المَغفِرةَ كَمَا أَوجَبتَها لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَياتهِ. [المُغنِي 3: 590].

وَهَذا البَيَانُ مِنِ ٱبْنِ قُدامَة يَدُلُّ عَلَى فَهْمِهِ للعُمُوم ِمِنَ الآيةِ الكَريمةِ، وأَنَّها لا تَختصُّ بِحالِ حَياتهِ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ فقط!

وَمِنَ السُّنَّةِ الشَّريفةِ، فَقَدْ أَخرَجَ الطَّبْرَانِيّ فِي المُعجَمِ الكَبِيرِ، الجُزءِ التَّاسِع برقمِ 8311: عن عُثمَانَ بْنِ حُنَيف:

أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَختلِفُ إِلى عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ(رض) فِي حَاجةٍ لَهُ، فَكَانَ عُثمَانُ لَا يَلتَفتُ إِليهِ، ولا يَنظِرُ في حَاجتهِ، فَلَقِيَ عُثمَانَ بْنَ حُنَيف فَشَكَا ذَلِكَ إِليهِ، فَقَالَ لَهُ عُثمَانُ بْنُ حُنَيف:إِئْتِ المَيضًأةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ ٱئْتِ المَسجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكعَتَينِ، ثُمَّ قُلْ: اللًّهُمَّ َإِنِّي أَسألُكَ وأَتَوجَّهُ إِليكَ بِنَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ – ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ – نَبِيِّ الرَّحمَةِ، يا محمدَ إني أتوجهُ بِكَ ِإلى رَبِّكَ – جَلَّ وَعَزَّ – فَيَقضِي لِي حَاجَتِي، فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ عُثمَانُ، ثُمَّ أتَى بابَ عُثمَانَ، فَجَاءَ البَوَّابُ حَتَّى أَخَذَ بيدهِ، فأدخَلَهُ عثمان بن عفان فأجلسهُ مَعَهُ على الطَّنْفَسَةِ، وَقَالَ: حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ حَاجتَهُ، فَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا ذَكَرْتَ حاجتُكَ حَتَّى كانتْ هَذِهِ السَّاعَةَ، وُقالَ: مَا كانتْ لَكَ مِنْ حَاَجةٍ فَأَتِنَا، ثُمَّ أَنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِندِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيف، فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ ٱللهُ خيراً! مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتي وَلا يَلتَفِتُ إِليَّ حَتَّى كَلَّمتُهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثمانُ بْنُ حُنَيف: واللهِ ! مَا كَلَّمْتُهُ، وَلَكِنَ شَهِدتُّ رَسُولَ ٱللهِ – ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ – وأَتَاهُ ضَرِيرٌ، فَشَكَا إِلَيهِ ذُهابَ بَصَرِهُ، فَقَالَ لَهُ النبيُ – ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ – : " أَفَتَصْبٍرْ ؟ " ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ ٱللهِ ! إنَّهُ لَيسَ لِي قائدٌ، وَقَدْ شُقَّ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ – : " إِئْتِ المَيضَأَةَ، فَتَوَضَّأ، ثُمَّ صَلِّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ ٱدْعُ بِهَذه ِالدَّعَوَاتِ ".

قَالَ عُثمانُ: فَوَٱللهِ! مَا تَفَرَّقْنَا وَطَالَ بِنَا الحَديثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَينَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضَرَرٌ قَطُّ (12).

وَهَذَا الحَديثُ صَحَّحُهُ الطَّبْرَانِيّ نَفسُهُ، والبَيهَقِيّ ّفِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ ج 6 ص 167، والحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ ج 1ص ج 1 ص 526 عَنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيب عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَذكُرْ القِصةَ، وسَلّمَهُ الذَّهَبِيّ، وَأَقَرَّ الحَافِظُ المُنذِرِيّ تَصْحِيحَ الطَّبْرَانِيّ لَهُ فِي التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ ج 1 ص 273، والحَافظُ الهَيثَمِيّ فِي مَجْمَعِ الزَّوائِد ج 2 ص279 .. وفِيهِ تَوَسُّلٍ صريحٍ بالذَّاتِ المُقَدَسًةِ لِلنَّبِيِّ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ بَعدَ مَمَاتِهِ؛ لَأَنَّ المُتَوَسِّلَ هُوَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ عُثمانَ بْنِ عَفَّان.

وأَيضَاً هَذَا النَّوعُ مِنَ التَّوسُّلِ أَجَازَهُ جُمْهُورُ الفُقهاءِ مِنَ المَذاهِبِ السُّنيِّةِّ الأربعةِ. حَيثُ جَاءَ فِي المَوسُوعةِ الفِقهيَّةِ الصَّادرةِ عَنْ وَزَارةِ الأَوقَافِ والشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ الكُوَيتِيَّةِ، مَا نَصُّهُ: (( د - التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ بَعدَ وَفَاتِهِ: إِخْتَلَفَ العُلماءُ فِي مَشرُوعِيَّةِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ بَعدَ وَفَاتِهِ، كَقَولِ القَائِلِ: اللّهُمَّ إِنِّي أَسألُكَ بِنَبِيِّكَ أَو بِجَاهِ نَبِيِّكَ أَو بِحَقِّ نَبِيِّكَ، عَلَى أَقوَالٍ:

القَولُ الأَوَّلُ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ اَلفُقهاءِ - المَالِكِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ ومُتأَخِّرُوا الحَنفيّةِ وَهُوَ المَذهَبُ عِندَ الحَنَابِلةِ - إِلى جَوَازِ هَذَا النَّوعِ مِنَ التَّوَسُّلِ سَوَاءٌ فِي حَياةِ النَّبِيِّ ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ﴾ الله عليه وسلم أَو بَعدَ وَفَاتِهِ )). إِنْتَهَى [المَوسُوعَة ُالفِقْهِيَّةُ 14: 156]

فالتَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ، أَمْرٌ جَائِزٌ سَائِغٌ، قُرْآناً وسُّنَةً وفَتوَى، وأَمَّا دَعوَى التَّفوِيضِ بِالمَعنَى الَّذِي يَتَّهِمُنَا بِهِ البَعضُ فَهُوَ مِنَ الكَذِبِ عَلينَا والٱفْتِرَاءِ المَفْضُوحِ، ولَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الشِّيعةِ الإِمَامِيَّةِ، وإِليكَ أَقوالُ عُلمائَناَ صَريحةٌ في ذَلِكَ، بَلْ رُوَاياتُ أَئِمَّتُنَا﴿عَلَيهُمْ السَّلَامُ﴾.

قَالَ العَلَّامَةُ المَجلِسِيُّ فِي "بِحَارِ الأَنوارِ": (أَمَّا التَّفْويضُ فَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، بَعضُها مَنْفِيٌ عَنْهُمُ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾، وبَعضُهَا مُثْبَتٌ لَهُم، فالأَوَّلُ التَّفويضُ فِي الخَّلقِ والرِّزقِ والتَّربِيةِ والإِمَاتّةِ والإِحياءِ، فإِنَّ قَومَاً قَالُوا: إنَّ ٱللهَ تعالى خَلَقَهُم وَفَوَّضَ إِليهِمُ أَمْرَ الخَلقِ، فَهُمْ يُخْلِقُونَ ويُرْزِقُونَ ويُمِيْتُونَ ويُحْيُوْنَ، وهذا الكلامُ يَحتَمِلُ وجهينِ:

أَحدَهُمَا أنْ يُقالَ: إِنَّهُم يَفعَلُونَ جَميعَ ذَلِكَ بَقُدْرَتِهِم وإِرادَتِهِم وَهُمُ الفَاعِلُونَ حَقيقةً، وهذا كُفْرٌ صَرِيحٌ دَلَّتِ عَلى ٱسْتِحَالتِهِ الأَدِلَّةُ العَقليَّةُ والنَّقليَّةُ، ولا يَسْتَرِيبُ عَاقلٌ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ بِهِ.

وثَانِيهُمَا: أَنَّ ٱللهَ تعالى يَفعَلُ ذَلِكَ مُقارِناً لِإرادَتَهِمُ، كَشَّقِ القَمَرِ وإِحْيَاءِ المَوْتَى وقَلْبِ العَصَا حَيَّةً، وغيرَ ذَلِكَ مِنَ المُعجِزَاتِ، فإِنَّ جَميعَ ذَلِكَ إِنَّما يَحصَلُ بَقُدرَتِهِ تعالى، مُقارِناً لِإرادَتِهِم؛ لِظُهورِ صِدْقِهِم، فلا يَأبَى العقلُ عَنْ أَنْ يكونَ ٱللهُ تعالى خَلَقَهُم وأَكْمَلَهُم وأَلْهَمَهُم مَا يُصْلِحُ فِي نِظامِ العالمِ، ثُمَّ خَلَقَ كُلَّ شيءٍ مُقَارَناً لإِرادًتِهُمُ ومَشِيئَتِهُمُ، وَهَذا وإِنْ كَانَ العَقلُ لا يُعارِضُهُ كِفَاحاً لكنَ الأَخبارَ السُّالِفةَ تَمنَعُ مِنَ القُولِ بِهِ فِيَما عَدُا المُعْجِزاتِ ظاهراً بَلْ صَرَاحاً، مَعَ أَنَّ القَولَ بِهِ قَولٌ بِمَا لا يُعْلَمُ إِذْ لَم يَرِدْ ذَلِكَ فِي الأَخبارِ المُعتَبَرةِ فِيمَا نَعْلَمُ. وما وَرَدَ مِنً الأَخبارِ الدَّالًّةِ عَلَى ذَلِكَ كَخُطبَةِ البَيَانِ وأَمثَالُهَا فَلْمْ يَوَجدْ إِلَّا فِي كُتُبِ الغُلاةِ ووأَشْبَاهِهِ، مَعَ أَنَّهُ يُحتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرادُ كَونَهُمُ عِلَّةً غائِيَّةً لإِيجادِ جَميعَ المُكَوِّناتِ، وأَنَّهُ تعالى جَعَلَهُمُ مُطاعِينَ في الأَرضِينَ والسَّمَاوَاتِ، ويُطِيعُهُم بإذنِ ٱللهُ تعالى كُلُّ شيءٍ حَتَّى الجَمادات، وأنَّهُم إِذا شَاؤوا أَمراً لا يَرِدُّ ٱللهُ مَشِيئَتَهُمُ، ولكنًّهُم لا يَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ ٱللهُ.

وأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ الأَخبارِ فِي نِزُولِ المَلائِكةِ والرُّوحِ لِكُلِّ أَمرٍ إِليهِم، وأَنَّهُ لا يَنزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّماءِ لأَمرٍ إِلَّا بَدأَ بِهِم، فَلَيسَ ذَلِكَ لِمَدْخَلِيَّتِهِم في ذَلِكَ ولا الإِسْتِشَارة بِهِم، بَلْ لَهُ الخَلقُ والأَمرُ تعالى شَأنَهُ، ولَيسَ ذَلِكَ إِلَّا لِتَشرِيفِهِم وإِكرامِهِم وإِظهارِ رِفعَةِ مقامِهِم). [ بِحَارُ الأَنوارُ 3: 143].

وجَاءَ عَنْ الشَّيْخِ المُفيدِ رحِمهُ ٱللهُ: (والمُفَوِّضَةُ صِنْفٌ مِنَ الغُلاةِ، وقُولُهُم الَّذِي فَارَقُوا فِيهِ مَنْ سِواهُمُ مِنَ الغُلاةِ ٱعْتِرافُهُم بحُدُوثِ الأَئِمَّةِ وخَلْقِهِمُ ونَفْيِ القِدَمِ عنهُمُ وإِضَافَةِ الخَلقِ والرِّزقِ مَعَ ذَلِكَ إِليْهِمْ، ودَعْواهُمُ أَنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى تَفَرَّدَ بِخْلقِهِمُ خَاصَّةً وأَنَّهُ فَوَّضَ إِليهِمْ خَلْقَ العَالَمِ بِمَا فِيهِ وجَميعَ الأَفعَالِ). [تَصْحِيحُ ٱعْتِقَادَاتِ الإِمَامِيًّةِ: 134]

ومِنَ الرُّواياتِ الَّتِي نَفَتْ التَّفويضَ بالمَعنًى الَّذِي يَتًّهِمُنا بِهِ البَعضُ كَذِبَاً وَزُورَاً:

نَقَلَ العَلَّامَةُ المَجلِسيُّ فِي "مِرْآةِ العُقُولِ" عَنْ زُرَارةَ أَنَّهُ قالَ: قُلتُ لِلصَّادقِ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾: إِنَّ رَجُلًا مِنْ وِلْدِ عَبدِ ٱللهِ بنِ سِنان يَقولُ بالتَّفويضِ، فقالَ: ومَا التَّفويضُ؟ قُلتُ: إنَّ ٱللهَ تَباركَ وتعالى خَلَقَ مُحمّداً ﴿صَلَّى ٱللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ﴾ وعَلياً ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ فَفَوَّضَ إِليهِمَا، خَلقاً ورِزْقاً وَإِمَاتةً وإِحياءً، فقالَ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾: كَذَبَ عَدُوُّ ٱللهِ إِذا ٱنْصَرَفْتَ إِليهِ فَٱتْلُ عَليهِ هَذِهِ الآيةَ مِنْ سُورةِ الرَّعدِ: *﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾* فٱنْصَرَفْتُ إِلى الرَّجُلِ فأخبَرتُهُ، فكأَنِّي أَلْقَمْتُهُ حَجَرَاً، أَو قَالَ فَكَأَنَّمَا خَرَسَ. [مِرآةُ العُقُولِ 3: 147].

وَجَاءَ فِي كِتابِ "الغَيْبةُ" لِلطُوسِيِّ: إِختَلفَ جَماعةٌ مِنَ الشِّيعةِ فِي أَنَّ ٱلله﴿ﷻ﴾ فَوَّضَ إِلى الأَئِمَّةِ ﴿صَلَوَاتُ اللهِ عليهِم﴾ أَنْ يَخْلِقُوا ويَرْزِقُوا فقالَ قومٌ هذا محالٌ، لا يَجوزُ عَلَى ٱللهِ تعالى؛ لأَنَّ الأَجسامَ لا يَقْدِرُ عَلَى خَلقِهَا غَيرُ ٱلله﴿ﷻ﴾ وقَالَ آخرُونَ: بَلِ ٱللهُ تعالى أَقْدَرُ الأَئِمَّةِ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾ عَلَى ذَلِكَ، وفَوَّضَهُ إِليهِمُ، فَخَلقُوا وَرَزَقُوا وتَنازَعُوا فِي ذَلِكَ تَنازُعًا شّديداً، فَقَالَ قائلٌ: مَا بالُكُم لا تَرجِعونَ إِلى أَبي جَعْفَرَ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَان العِمرِيّ فَتَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ فَيُوضِحُ لَكُم الحَقَّ؛ فإِنَّهُ الطَّريقُ إِلى صَاحِبُ الأَمرِ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾، فَرَضِيَتِ الجَمَاعةُ بأَبي جَعْفَرَ، وَسَلَّمَتْ وأَجَابتْ إِلى قَولِهِ، فَكَتَبُوا المَسْألةَ وَأَنْفَذُوها إِليهِ، فَخَرَجَ إِليهِم مِنْ جِهَتِهِ توقيعٌ، نَسَخْتُهُ (إِنَّ ٱللهَ تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الأَجسَامَ وقَسَّمَ الأَرزاقَ؛ لأَنَّهُ لَيسَ بجسمٍ، ولا حَالٍّ فِي جسمٍ، وَلَيسَ كمِثلهِ شيءٌ، وَهُوَ السَّميعُ العليمُ، وأَمَّا الأَئِمَّةُ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾ فإِنَّهُم يَسأَلُونَ ٱللهَ تعالى فَيَخلُقُ وَيَسْألُونَهُ فَيرزِقُ إِيجَابَاً لِمَسْأَلتِهِمُ وإِعظاماً لِحَقِّهِمُ). [ الغَّيبة: 294، وصَحًّحَهُ المَجلِسيُّ فِي رَوضَةِ المُتًّقِينَ: 215].

وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ