لمَاذا يَختلِفُ المُجتهِدونُ إذا كَانتْ مَصادِرُهم التَّشرِيعيةُ وَاحِدةً؟!!

إذا كَانتْ مَصادِرُ التَّشرِيعِ والأدلَّةُ عندَنا وَاحِدةً فلِماذَا نَرى الإخْتِلافَ الكَبِيرَ بينَ المُجتهِدينَ بالْآراءِ الفِقهِيةِ والعَقدِيةِ؟

: اللجنة العلمية

     الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه. 

     الأدلَّةُ الشَّرعِيةُ لَيستْ كلُّها على نمطٍ وَاحدٍ، ففِيها النصُّ الذي لا يَحتمِلُ مَعنى آخرَ، كما في قَولِه تعالى: (حُرِّمتْ علَيكم أمَّهاتُكم) النساء: 23، فهذِه الآيةُ نصٌّ في الحُرمةِ ولا تَحتمِلُ أيَّ مَعنى آخرَ يُمكنُ حَملُها علَيه.

     وفيها الظَّاهرُ، وهو اللَّفظُ الذي يَحتمِلُ مَعنَيينِ أو أكثرَ، ويَستَظهِرُ الفَقيهُ أنَّ أحدَهما أظْهرُ مِن غَيرِه، كقَولِه تعالى: (أقَيمُوا الصَّلاةَ) الأنعام: 72، فهنا قد يقُول فَقيهٌ بأنَّ الصَّلاةَ وَاجِبةٌ علَيكم، مع أنَّه لا تُوجدُ كَلمةُ "أوْجبتُ علَيكم الصَّلاةَ"، أو "تَجبُ علَيكم الصَّلاةَ"، في الآيةِ الكَرِيمةِ.. فمِن أينَ اسْتفادَ الفَقيهُ وُجوبَ الصَّلاةِ مِن هذِه الآيةِ الكَرِيمةِ؟!!

     اسْتفَادَه من ظُهورِ صِيغةِ (إفعل) في الوُجوبِ، والتي جَاءتْ كَلمةُ (أقم) على وِزَانِها، مع احْتِمالِ أنْ يَستفِيدَ فَقيهٌ آخرُ مِن صِيغةِ (إفعل) مُطلقَ الطَّلبِ (يعني الأعمُّ منَ الوُجوبِ والإسْتِحبابِ) فلا يقُولُ بوُجوبِ الصَّلاةِ، فيَحتاجُ إلى دَليلٍ آخرَ للإفْتاءِ بالوُجوبِ غيرِ الآيةِ المَذكُورةِ.

     وهذا هو أحدُ أوجُهِ الإخْتِلافِ بينَ الفُقهاءِ في اسْتنباطَاتِهم للْأحكَامِ، ونَعني به عَالمَ الظُّهورَاتِ اللَّفظِيةِ. 

     كما تُوجدُ أمُورٌ أخرَى تُؤدِّي بالفُقهَاءِ إلى الإخْتِلافِ في الفَتوى، وهي المَبانِي الرِّجالِيةِ والحَديثِيةِ، فرُبَّ فَقيهٍ يَرى وَثاقةَ راوٍ ما مِن خِلالِ تَجمِيعِ القَرائنِ لإثْباتِ وَثاقَتِه، بينَما فَقيهٌ آخرُ لا يَرى ذلِكَ، وإنَّ هذِه القَرائنَ التي يقُولُ بها غَيرُه لم تَبلُغْ دَرجةَ الإطْمِئنانِ لدَيه للقَولِ بالوَثاقَةِ.

     وهكذا في جَانبِ الحَديثِ، فرُبَّ فَقيهٍ يَرى حُجيَّةَ الخَبرِ المُوثَّقِ (وهو الحَديثُ الذي يَرويهِ الثِّقةُ من غيرِ الإمَامِيةِ)، بينَما فَقيهٌ آخرُ لا يَرى حُجيَّةَ مثلِ الحَديثِ المَذكُورِ، وهكذا.

     وهذا الإخْتِلافُ في المَبانِي الرِّجالِيةِ والحَديثِيةِ تَترتَّبُ علَيه آثارٌ كَبِيرةٌ من حيثُ قَبولُ الأحَادِيثِ ورَفضُها، وبِالتَّالِي تَختلِفُ فَتاوَى الفُقهاءِ مِن فَقيهٍ لآخَرَ.

     ولكنَّ الذي يُخفِّفُ الوَطءَ على المُقلِّدينَ من هذِه النَّاحيةِ أنَّ تَقلِيدَ هؤلاءِ العُلمَاءِ الذينَ اجْتمَعتْ فيهِم شَرائِطُ الإسْتِنباطِ والفَتوَى، هو مُبرئٌ للذِّمةِ أمامَ اللهِ، كما دَلتْ عليْه الأدلِّةُ العَقلِيةُ والنَّقلِيةُ الكَثِيرةُ، فلا مُشكِلةَ شَرعِيةً من هذِه النَّاحيةِ.  

     ودُمتُم سَالِمينَ.