كيف نقرأ ظاهرة الإلحاد؟

:

ينقسم الفكر الإنساني في رؤيته الكونيّة إلى تيارين أساسيين، يرى الأول في العالم الطبيعي إبداعاً مبهراً قائماً على قوانين صارمة ويحتاج إلى مبدع؛ لأنّه من غير المعقول أن يكون قد وجد صدفة؛ لأنّ الصدفة لا تتكرر بينما تتكرر مظاهر الإبداع بكثرة، ولا يمكن أن يكون قد أبدع نفسه؛ لأنّ في ذلك تناقض مفاده أنّ الكون أبدع نفسه بينما كان مجرد عدم. 

وينكر الثاني وجود مبدع لهذا الكون إمّا انسياقاً وراء مسلّمات إيديولوجية وفلسفية ذات اتجاه مادي لا يؤمن بما وراء المحسوس، أو من أجل التغطية على حالات نفسية وأخلاقية معينة.

لا يكفي أن يكون الإنسان عالما فيزيائيا أو فلكيا أو طبيبا، حتى يؤمن أنّ لهذا الكون صانعاً ومبدعاً، وأنّ هناك شيئاً وراء الطبيعة والمادة. بل يحتاج أن يتحول إلى مفكّر، أو فيلسوف حقيقي قادر على التحليل والاستنتاج فيما يتعلق بما وراء المادة. 

يتكئ بعض الماديين أحيانا على (أرسطو) الذي تبنّى اتجاهاً واقعياً في الفلسفة مقابل الاتجاه المثالي الأفلاطوني من أجل القول إنّ طريق الإلحاد وجد ضالته فيه. غير أنّ (أرسطو) نفسه كان يتحدث عن المحرّك الأول. ورغم نزعة التعطيل لديه إلاّ أنّه لا ينفي الصانع والمحرك؛ لأنّه مقتنع بحاجة العالم إلى علة وسبب.

تاريخ فكرة أزلية المادة

في الرؤية الكونية يتبنى الإلحاد فكرة أزليّة المادة. وهذه فكرة قديمة تتبناها بعض الأديان التي تؤمن بوحدة الوجود. فالله تعالى والعالم عندها شيء واحد وما دام الله تعالى قديم، فإنّ العالم قديم أيضا.  وهذه الأديان تنتشر في الشرق الأقصى لاسيما في الهند والصين وكوريا وحتّى روسيا. ومن الطبيعي أن نجد في هذه البلاد أكبر عدد من الملحدين في العالم. بل إنّها كانت هي حاضنة الإلحاد من خلال تأسيس أكبر دولتين له في العصر الحديث وهما الصين والاتحاد السوفيتي.

وفكرة أزليّة المادة انتقلت من الأديان الشرقية إلى الغرب عن طريق اليونان. ففي الفلسفات ما قبل السقراطية، كانت المدرسة المَلَطِيّة ممثلة (بطاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس) تقول بأزليّة عنصر مادي معين كالهواء أو النار ويتفرّع من هذا العنصر أو ذاك جميع الموجودات.

كما أنّ المدرسة الذرية عند (ديمقريطس)، تذهب إلى أنّ الوحدات الأصغر في الكون التي لا تقبل القسمة هي في حقيقتها أزليّة لا بداية لها، وفي حالة حركة عشوائية دائمة تسبب تشكّل الموجودات. 

ولم يختلف موقف (أبيقور) عن موقف أستاذه (تيودوس) الإلهي الذي كان ملحدا، وقال إنّ العالم قديم لكنّه كان أقل وضوحاً في التصريح بإلحاده من معلّمه. وحتّى (أرسطو) رغم تسليمه بوجود المحرّك الأول، فإنّه لم ينفِ أزليّة العالم وتحدّث عن قدم الهيولى وهي المادة الأولى كما يقول. وبشكل عام كانت فكرة أزليّة العالم هي المهيمنة لدى الإغريق.

وبعد سقوط أثينا عام 88 ق.م. على يد الرومان توقفت الفلسفة وتراجعت فكرة أزليّة المادة، خاصة بعد أن دخلت المسيحيّة إلى الإمبراطورية الرومانيّة، وأصبحت الديانة الرسميّة للدولة في القرن الرابع الميلادي، واختفت فكرة أزليّة العالم وأفكار الإلحاد. وفي المقابل انتشرت عقيدة خلق العالم من عدم التي تقر بها الأديان التوحيديّة رغم أنّ المسيحيّة تعرضت إلى كثير من التلاعب على يد (بولس والكنيسة).

عودة الإلحاد في سياق الحداثة

بعد الثورة الفرنسية وانتشار دعوة العلمانية ومقولات العقد الاجتماعي ومدنيّة الدولة عاد الدين للانكماش، وبدأ ينسحب تدريجيا من الحيّز العام والثقافة الاجتماعية ومناهج التعليم. بدأ الغرب منذ تلك المرحلة، في انجاز "حركة علمية" سيكون لها بلا شك تأثيرها الكبير على مسار الفكر والفلسفة وسائر "العلوم الإنسانية". وبدأت فكرة استغناء الكون عن وجود الإله تتحرك في الساحات الفكرية والثقافية منذ أن سأل (نابليون لابلاس): "كتب نيوتن عن الإله في كتاباته.. لكنّي لا أرى في فرضياتك إشارة ولو مرة واحدة لدور الإله في خلق الكون؟ فأجاب لابلاس: لم أحتج إلى هذه الفرضية يا سيدي". ربما لم يكن لابلاس ملحدا غير أنّ كثيراً من الملحدين وجدوا في فكرته تبريرا لإلحادهم.

يحاول الملحدون استغلال حقيقة أنّ الكون يتحرك على أساس قوانينه، للقول إنّه لا يحتاج لوجود الله تعالى، لكنّهم يتناسون ضرورة طرح السؤال عمن وضع تلك القوانين؟ وكيف وجد العالم من الأساس؟ ومن يؤمِّن عمل تلك القوانين في الوجود؟ 

كان فَهْم النظام الكوني همّا علميا وفكريا لدى الغربيين، غير أنّهم سقطوا في متاهة عندما وصل كثير منهم إلى فكرة أزليّة المادة، أو العالم، كما فعل الجيولوجي الأسكوتلندي (جورج هاتون)، في كتابه "نظرية للأرض" عندما قال: (إنّ الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية)، ثم كرر ذلك (إراسموس داروين)، جدّ (تشارلز داروين)، الذي قال: (إنّ الكرة الأرضية كانت، وستظل، أزليّة).

لكن نظرية (هاتون) لم تدم طويلًا، بعد أن نجح (نيوتن) في صهر فلسفة (ديكارت)، وقوانين (كبلر وغاليليو) في بوتقة واحدة والخروج بنظريته للجاذبية ومفهومه عن النظام الشمسي، دون التخلي عن نظرية الخلق رغم أنّه ادّعى أنّ الخالق اكتفى بخلق الكون وتركه لحاله يعمل بشكل آلي تمامًا كصانع الساعة. وهي نظرية تعيدنا إلى فكرة توراتية تقول: (إنّ الله خلق الكون في ستة أيام ثم استراح). لا شك أنّ ترْك الكون يعمل بشكل آلي ليس وجيها؛ لأنّ العالم يحتاج تدبيراً مستمراً، وخلقاً مستمراً، وقد أراد الله تعالى أن يدبّر الكون من خلال تلك القوانين التي تحتاج من يقوم عليها، ويحميها تماماً كما يحمي أحدنا ساعته حتّى لا يتدخل عنصر خارجي فيوقف عملها، أو يتسبب خلل داخلي في ذلك. إنّ الله تعالى هو من خلق الكون، وهو من يجعله يعمل باستمرار. 

الدين الطبيعي والإلحاد

ظهرت فكرة الدين الطبيعي لدى مجموعة من مفكري "عصر التنوير" مثل (جون لوك، وديفيد هيوم، وجان جاك روسو). وكان ذلك الدين نقطة انطلاق لانتشار الالحاد. فعندما يتم إقصاء الدين من الحياة، والاكتفاء بالإيمان بوجود إله لا يتدخل في شؤون خلقه سواء كان الأمر يتعلق بالكون الأوسع أو بالإنسان، فإنّ النتيجة هي الغاء الإله من حياة الناس الذين لن يفكروا بعد ذلك إلا في حياة آنية وأنانية وضيّقة. 

كانت البداية بفرضيّة مسيحيّة لا تشبه مسيحيّة المسيح، من أجل تمرير ممارسات باسمه وباسم الله تعالى بينما هي في واقعها لا تزيد عن آراء بشريّة مغمّسة بكثير من الأفكار السائدة الموروثة غالبا من الديانات القديمة في الشرق الأقصى. وربط الناس بطبقة من الكهنة، كان خطوة من أجل فك ارتباطهم بالدين بعد أن ذهب في ظنهم أنّ أولئك الكهنة كانوا يمثّلونه. وبذلك يصبح من السهل إبعادهم عن الدّين من خلال إقصاء أيّة تشريعات أو قيم دينية. وهذا ما أشار إليه (بليز باسكال) الذي رأى أنّ الدين الطبيعي لن يتسبب إلا في إلحاد الناس. وهو ما قاله أيضا الفرنسي الآخر (بارون دي هولباخ) الذي كان ملحدا والذي أكّد أنّ كل الذين حاولوا "إنقاذ الإله" عبر اعتناق الدين الطبيعي كانوا في الحقيقة ملحدين مُقنَّعين(1).

 الإلحاد يبني دولة

استمر الاعتقاد بأزليّة المادة وإنكار الإله عقيدة خافتة طوال القرن الثامن عشر. وحتى الفلاسفة والمفكرون مثل (بيكون وبويل ونيوتن وديكارت) لم يناقشوا بديهية وجود الخالق، فالإلحاد كان يعني نبذ التفسير المنطقي والعقلاني المقنِع للعالم في تلك المرحلة(2).

كانت أصوات الإلحاد متخفية في الزوايا إلى أن ظهرت الماركسية في القرن التاسع عشر بنزعتها المادية الصارمة، واستطاعت أن تؤسس أكثر من دولة تتبنى فكرها. جعلت هذه الإيديولوجيا للمادة أسبقية على كل شيء؛ الفكر والوعي والحياة.. بعد أن استعادت بقوة فكرة أزليّة المادة.

وتزامن صعود الماركسية مع ارتفاع أسهم (تشارلز داروين) بسبب نظريّته حول الانتقاء الطبيعي التي أزاحت فكرة العناية الإلهية. لكنّها لم تتحول أبدا إلى حقيقة علمية، ومع ذلك احتفى بها (ماركس) بشكل كبير في رسائله لأصدقائه.

 أعطت نظريّة التطور قوة دفع للتيار المادي، وأصبح الكثيرون من المحسوبين على العلم يصرّحون بإلحادهم وينكرون علنا وجود الله تعالى. وكانت تلك نقطة انطلاق لظهور اتجاهات علنية بين "العلماء" تميل نحو الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى. بل إنّ ما اعتبر علما تحول إلى أداة تم توظيفها في سياق إيديولوجيا الماديّة الجدليّة وهو ما يؤكد أنّ العلم الطبيعي لا يتخذ مواقف إيديولوجية أو عقائدية، وإنّما يتم توظيفه في هذا الاتجاه أو ذاك.

الكون وقوانينه

يتحرك هذا الكون بشكل دائم على أساس قوانين صارمة، وأي تغيير مهما كان صغيرا في أي من قوانينه سيلغي أيّة إمكانية لتطور المجرّات والإجرام، واحتمال أن يكون ذلك التطور عشوائيا غير وارد. بل إنّ تغيّر القوانين يعني اختلالاً في الكون قد يؤدي إلى دماره. وهذا ما يؤكّده الاتجاه الآلي الذي يعتبر الكون آلة كبيرة والذي ظهر في مقابل الاتجاه الغائي.

فمثلا يحدد قانون الجاذبية (لنيوتن) مقدار الجاذبية بين كتلتين بحاصل ضرب الكتلتين بثابت الجاذبية مقسوما على مربع المسافة بينهما. ولو لم يكن هذا القانون على ما هو عليه لما كان هنالك كون، فقوانين الكون محددة بدقة هائلة لضمان وجوده واستمراره، وأي تغيير مهما كان بسيطا سيؤدي إلى اضطرابه أو حتّى انهياره، بل إنّه دون تلك القوانين ما كان لينشأ ويستمر. 

تؤكد الفيزياء المادية أن الكون ليس أزليا، بل إنّه نشأ من العدم اعتمادا على العوامل التالية:

-إنّ الفراغ المطلق يحتوي قدراً معيّناً من الطاقة تُسمّى طاقة الفراغ.

-إنّ حالة الطاقة الدنيا للفراغ هي وضع غير مستقر، كما جاء في أطروحات الفيزيائي الياباني (يوتشيرو ناموبو) في سياق ما يسمّى بالانهيار التلقائي للتجانس.

-إنّ جسيمات افتراضية متعاكسة الشحنة تتخلق من الفراغ المطلق تستهلك بعضها عند التحامها في ما يسمى "تأثير كاسيمير" - نسبة إلى العام الهولندي الذي أثبتها عمليا - ويمكن في حالة نادرة أن تتباعد عن بعضها قبل الالتحام فتتحول إلى جزيئات حقيقية.

   -بعيد واحد من الانبعاثات السابقة حدث تمدد تلقائي متسارع أدى إلى نشوء الكون.

وبذلك تكون نشأة الكون نتيجة طبيعية ومنظمة ومخطط لها. فقد توفّرت شروط متعددة يؤدي أي خلل فيها إلى تبعثر هذا الكون بمجراته وأجرامه وأرضه وسمائه. وهذا يلغي احتمال أن يكون خلق الكون حدث بشكل عشوائي. 

وقد أظهرت فيزياء (الكم) أنّ الواقع الملاحظ لا يتعدى كونه موجة احتمالية لا يتجسد في موقع وشكل محدد إلا إذا تم رصده، وبالتالي لا يمكن فصل بنية الواقع عن الإدراك المعنوي له، وفي نفس هذا السياق تتحدى ظواهرُ معينة، مثل (الماحي الكمي، والترابط اللحظي) الأسسَ التي قامت عليها العلوم الماديّة التقليديّة.

يعترف الماديون أنّ الكون في تطوره مبني على قوانين الفيزياء، لكنّهم لا يحددون مصدر تلك القوانين. وإذا كانت في فراغ الخواء المطلق الذي سبق تشكّل الكون، فإنّها بلا شك كانت عدما مثل الكون، ومع تسليمهم بأنّ هذه القوانين هي الإبداع الأكثر ملاءمة للكون، فإنّ السؤال الذي يُطرح هو: كيف حدث ذلك؟ ولماذا كانت على هذا المستوى من الدقّة؟

يتساءل  (أينشتين) "كيف يُعقَل أن تكون الرياضيات، والتي هي نتاج الفكر البشري المجرّد معْتَمَدة من قِبَل الطبيعة"؟ لكن العقل الإنساني ليس هو الذي أنتج الرياضيات كما يتصور (أينشتين)، بل اكتشفها؛ لأنّها قوانين طبيعية موضوعيّة قائمة خارج الذهن تحكم الكون. فمثلاً متتالية (فيبوناتشي) والنسبة الذهبية - وهذه مفاهيم رياضية بحتة - يمكن ملاحظتها متجليّة في جوانب كثيرة من الطبيعة الماديّة، كأعداد بتلات الزهور وقشرة القواقع وحتى تفاصيل جسم الإنسان.

   الانفجار العظيم وحدوث المادة 

مثلت فكرة أزليّة المادة مدار التفكير الفلسفي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. غير أنّ تسارع البحوث العلمية أثبت وجود نقطة بداية للكون، وهو ما شكّل ضربة قوية للأساس النظري للإلحاد القائم على فكرة أزلية المادة.  

افتتح (جورج لومتر والكسيندر) في عام (1924) رؤية مختلفة للكون تؤكّد أنّ النجوم والمجرات في حالة تمدّد بدلا من النموذج السائد الذي يفترض أنّ الكون ثابت. وفي عام (1929) رصد الفلكي (إدوين هابل) تباعد المجرّات، وتزايد سرعة التباعد كلما اتسعت المسافة الفاصلة بينها. وفي سنة (1946) جاء (جورج جاموف) وافترض أنّ فتونات الضوء تصدر إشعاعا يفترض وجوده مع تمدد الكون وهو ما تم اكتشافه صدفة على يد (أرنو بنزياس وروبرت ويلسون) وهو الإشعاع الذي بات يُعرف بإشعاع الخفيّة الكونية الفائقة الصغر، وأصبح يمثل واحدا من أقوى الأدلة على "نظريّة الانفجار العظيم" Big bang وبسببه حصلا على جائزة نوبل عام 1978(3).

 مثّلت هذه الآراء الجديدة التي اعتبرت اكتشافات علمية صدمة كبيرة بالنسبة لمجتمع الملحدين. فقد كانوا يتصورون أنّ الكون غير محدود في الزمان والمكان، وأنّه لا يوجد خالق ولا إله لهذا العالم. لكن نظرية الانفجار العظيم أسقطت تلك الأفكار القائمة على نظرية الكون المستقر التي تبنّاها الماركسيون وأعادت إلى الطاولة ذلك الجدل حول وجود الله تعالى وموقف العلم منه.

ويشير (ستيفن هوكينغ) إلى تلك الصدمة التي جعلت القائلين بأزليّة المادة يقاومون الفكرة الجديدة بقوله: "كثيرٌ من الناس كانوا غير سعداء بفكرة أنَّ الكون له بداية؛ لأنَّها أبدت أنَّها تعني وجود موجود "فوق طبيعي" خلق الكون. لقد فضّلوا أن يؤمنوا أنَّ هذا الكون والجنس البشري أزليان"(4).

وقد كان (آينشتين) نفسه مؤمناً بفكرة أزليّة المادة كما حكى عنه الكيمائي (نري شافر)، لكنّه تراجع عن ذلك واعترف بخطئه، وتقبّل على مضض وجود نقطة بداية للكون، ومن ثَمَّ وجود قوة مبدعة ومهيمنة في هذا العالم دون أن يقبل بتسميتها، تماما كما فعل (ستيفن هوكينغ)(5) الذي نسب إليه الالحاد!(6). ورغم محاولات بعض العلماء ذوي النزعات التجريبية إنكار نظريّة الانفجار العظيم وإحياء مبدأ أزليّة المادة، إلا أنّ محاولاتهم باءت بالفشل.

يقودنا الكون بأعاجيبه وقوانينه وحركته الدقيقة إلى القول: إنّ الواقع المادي لم يوجد اعتباطا، ولا هو قديم بلا بداية، فهو متغيّر ومتحول، والمتغيّر لا بد أنّه كان معدوما قبل أن يوجد. وهذا يعني أنّ الإلحاد لا يستطيع أن يبرر نفسه منطقيا وعقليا. وهو يعاني من قصور ناتج عن العجز عن رؤية ما وراء المادة وقوانينها. إنّنا عندما نرى سيّارة مثلاً ونسأل هل صنعت نفسها؟ ستكون الإجابة بالتأكيد بالنفي. والبديهي أن نقول: إنّ لها صانعا. ولا يمكن أن تكون الطبيعة ذلك الصانع؛ لأنّها مفهوم كلي ولا يوجد في الكون إلا أجزاءه من جمادات وكواكب ومجردات وجراثيم وحيوانات وبشر. ويبقى بعد ذلك القول إنّ السيّارة وجدت صدفة، لكن الصدفة لا تصنع نماذج متعددة بالملايين من السيارات التي تحكم حركتها قوانين واحدة. ولا مفر حينئذ من الاعتراف بوجود مصنع يديره مهندس أو مهندسون يملكون من العلم والخبرة والحكمة ما مكنهم من صنع سيّارة واستعمالها في غايات محددة.

هذا المثال ينطبق بدرجة أقوى على الإنسان والكون الأكثر تعقيداً. لا أحد يمكنه القول إنّ الكون صنع نفسه أو أنّه وجد صدفة. ولا أحد يمكنه أن يبرهن أنّ الكون قديم بلا بداية. فالمادة لا بد لها من بداية؛ لأنّها مركبة ومتحركة، والمركَّب يحتاج مركِّبا؛ لأنّه لا يمكنه أن يركّب نفسه. ولا بد للكون تبعا لذلك من صانع ومبدع عليم وحكيم وخبير.

ويبقى السؤال: هل خلق الكون وفق مثال سابق؟ وبكلمة أخرى هل كان العالم المادي مسبوقا بمثال على طريقة أفلاطون؟ يجيب (جان بول سارتر) أنّ الإنسان هو الكينونة الوحيدة التي حددت غاية وجودها بعد أن وجدت، فالوجود المادي سبق عالم المثال أو المعاني الذي ابتكره خيال الإنسان حسب قوله. غير أنّه ليس صحيحا قياس العقل الإنساني على العقل الإلهي المطلق، والقدرة الإلهيّة اللامتناهيّة. فإذا كان لدى الإنسان نوع من التراخي بين الفكرة والإنجاز، فإنّ الله تعالى لا يوجد لديه مثل هذا التراخي أو الفاصل، وإرادته هي نفسها فعله وخلقه وإبداعه.

الأسباب الموجبة للإلحاد

بعد أن اتضح أنّ العلم والمنطق يفرضان التسليم بوجود الخالق الأزلي للكون المُحِدث بالضرورة، لم يعد ممكنا تفسير ظاهرة الإلحاد إلا من خلال أسبابٍ ذاتية لا علاقة لها بالعلم والمعرفة والعقلانية. والعامل الذاتي يعني أنّ الإلحاد تتنوع أسبابه الخاصة وتتعدد بتعدد الأفراد والبيئات. 

وبحسب بعض الدراسات فإنّ العامل الاقتصادي سبب مهم في مضاعفة منسوب الإلحاد ونسبة الملحدين، فهي تقول إنّ نسبة الإلحاد ترتفع بين الأثرياء والطبقة المرفّهة(7). لا شك في تأثير العامل الاقتصادي. غير أنّه من المهم السؤال كيف يكسب هؤلاء الناس تلك الثروات الهائلة؟ لا يمكن أن يحدث ذلك بالطرق الطبيعية البعيدة عن الوسائل القذرة كالغش والتهريب والاحتكار وخيانة الأمانة والكذب.. وهذا حاصل على الأقل في بداية تجميع الثروة باستثناء حالات نادرة. 

ولا شك أنّ الممارسات الخاطئة والأخلاقيات المعوجّة تؤدي بشكل آلي إلى إنكار الحساب والعالم الآخر وحتى ادّعاء الإلحاد. وفي الحقيقة هذا ما أكّده القرآن في بعض آياته: "ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ"(8). لا يولد الإنسان ملحداً، بل إنّه يكتسب ذلك بسبب أعماله المضادة للقيم والمستسلمة للأهواء.

 وبسبب الممارسات الخاطئة والانحرافات المتدفقة، فإنّ الإلحاد ينتشر أيضا بين المرضى والفقراء والجهلة. فما يعانيه بعض الناس من ظلم اجتماعي، أو تشوه معرفي، أو استبداد سياسي يجعلهم يفكّرون بطريقة مقلوبة وعوض أن يلوموا أنفسهم ويتهموا ظالميهم، فإنّهم يتجهون إلى التساؤل عن وجود الله تعالى وسبب سماحه بتعرّضهم لكل تلك المعاناة.

لا يمكن تصنيف التفسير المادي للوجود، والتوقّف عند ظاهر نظريات تطور الكون خارج خانة القصور المعرفي والمحدودية الفكرية والفهم الجامد لقوانين الطبيعة. ورغم وضوح عقم هذا التوجه الفكري إلاّ أنّ الكثيرين يرون فيه الخيار الأكثر جاذبية؛ لأنّه يرفع عنهم أية التزامات قيميّة أو أخلاقية، ويرتفع بهم إلى مستوى النخبة المثقفة التي تأنف من متابعة الجمهور الذي يقال عنه عادة أنّه مجرد قطيع يتم سوقه نحو الفكر السائد. فالإلحاد يأتي في كثير من الأحيان من أجل التغطية على حالات (سيكوباترية)، أو أخلاقيّة لا يمكن تبريرها إلاّ من خلال تبني فكر لا يؤمن بمقولتي الخير والشر العقليين والموضوعيين، ويجعل من القيم مسائل نسبية يراها كل فرد من زاويته وحسب ما تقتضيه مصالحه وشهواته.

يبدو لنا أنّ انتشار الإلحاد عملية مصنوعة ومخطط لها من خلال نشر ثقافة التحلل الأخلاقي والقيمي، من أجل إبعاد الناس عن أديانهم تمهيدا لإدخالهم في دين جديد هو جزء من "النظام العالمي الجديد"، الذي يريد بناء حكومة عالمية واحدة وقوانين واحدة وجيش واحد وبرلمان واحد، وإنهاء مؤسسة الأسرة وتدمير الأديان والأنظمة العلمانية ليحكم الناس دين واحد يتم العمل على نشره منذ عقود. ولا شك أن المشرفين على هذا المشروع، الذي لا نشك في فشله في النهاية، يستخدمون التعليم والإعلام والثقافة وهم يحاولون الوصول إلى كل الناس بقطع النظر عن أوضاعهم الاقتصادية والنفسية والدينية.

ولأجل ذلك فإن بعض المراكز والمؤسسات التابعة لتلك الجهات تشارك في نشر الإلحاد من خلال تنسيب الأخلاق والتشكيك في جدوى القيم ونشر إحصائيات حقيقية أو وهمية؛ للإيحاء بأنّ الإلحاد صار ظاهرة اجتماعية تتمدد كل يوم. وهو ما يشجع الكثير من البسطاء أو أنصاف المثقفين على تبني هذا الفكر(9). 

كيف أصبح الإلحاد دينا؟

يعني الإلحاد بالمعنى المعاصر إنكار الأديان والإله والعقائد والكتب المقدسة والأنبياء (عليهم السلام) والعالم الآخر. غير أنّ الإنسان عندما ينكر دينا، أو فكرا، أو عقيدة، فإنّه يعتقد بمجموعة أخرى من العقائد التي تشكل دينا، بمعنى ما، مهما حاول التنصل من ذلك. فمثلا، الرجل الشيوعي الذي ينكر الأديان والنبوات والكتب المقدسة هو في الحقيقة يعتقد بماركس وكتبه ونظامه الشيوعي الذي يعد به. 

وهذا يعني أنّ فكرة المقدّس كامنة في أعماق النفس الإنسانية ولا يمكن التنصّل منها. ويعني أيضاً أنّ الإنسان لا يتوقف عن البحث عن الدين الذي يملأ الفراغات الكامنة في نفسه. غير أنّ تلك الأديان والعقائد تختلف باختلاف السياق التاريخي والأيديولوجي. 

يدّعي الملحدون أنّهم  يحاربون الدين، غير أنّهم يكررون أساليب الدين ذاتها. فهم يخترعون شخصيّة مقدّسة تدور حولها كل أفكارهم، وعادة ما تكون تلك الشخصيّة هي نفسها شخصيّة المؤسس للأيديولوجيا أو الفكرة. بل إنّ الإلحاد يقدم رؤية كونية بديلة ونظاما تشريعيّاً بديلاً، كما يقدّم رؤية اقتصادية وسياسية واجتماعية. وهذه كلها خصوصيات دينية؛ لأنّ الأنبياء(عليهم السلام) هم أول من جاء بنظام متكامل لحياة الناس ولم يهملوا شيئا رغم أنّ أكثرهم لم يحكم فعليا. 

ولعل المفارقة الكبرى التي لا يوجد تفسير فلسفي لها، هي قلق الملاحدة الذين طالما نظّروا لأزليّة المادة من حقيقة أزليّة الذات الإلهيّة. فهم يقبلون بفكرة أزليّة المادة لكن أزليّة الخالق لا تعجبهم. وهذا يعني أنّ المشكلة ليست معرفية، أو منطقيّة تخص نظريّة الخلق ووجود الله تعالى وأزليتّه، بل هي بالأساس مشكلة سيكولوجية تتعلق بوقائع نفسيّة حقيقيّة لدى هذه الفئة. فالإلحاد يتمترّس عادة وراء أفكار إيديولوجية وسياسية تعتقل صاحبها داخل رؤى لا دليل عليها ولا تفسير لها، سوى الدوغما والعادة والألفة والصدمات النفسيّة المبكّرة الناتجة عن فقد عزيز كأحد الوالدين، كما تقول دراسة أمريكية كشفت أنّ نصف المستطلعين من الملحدين فقدوا قبل سن العشرين أحد والديهم(10). وعند مراجعة سيرة كبار الملاحدة الغربيين يتبين أنّهم عانوا صدمات ومشاكل نفسية وأمراض بدنية في طفولتهم وشبابهم، مثل (آرثر شوبنهاور وفريديريك نيتشه وبرتراند راسل وجان بول سارتر وفولتير وبارون دي هولباخ، وكارل ماركس) الذي كان طائشا في بداية حياته، وكان يعاني من صداع الرأس والتهاب العين وآلام المفاصل والأرق ومشاكل الكبد والمرارة، بالإضافة إلى أعراض الاكتئاب. ولم ينفّذ الخدمة العسكرية بسبب "ضعف صدره" الناتج عن سهره الكثير في الحفلات والتدخين وشرب الخمر بكثرة، وكان على خلاف كبير مع عائلته وبشكل خاص مع والده الذي مات بالسل ولم يحضر جنازته..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كارن آرمسترونج، الله لماذا؟ مسعى البشرية الأزلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، ص311.

(2) م.ن، ص331.

(3) عبد الله العجيري، شموع النهار، دار تكوين، لندن، 2006.

(4) باسل الطائي، صيرورة الكون: مدارج العلم ومعارج الإيمان، الأردن، 2010.

(5) ستيفن هوكينغ هو عالم فلك وفيزياء بريطاني. هذا الرجل كان مثيرا. لا يتحرك ولا ينطق. وبالتالي كان فاقدا للقدرة على التواصل مع العالم. 

قالوا إنّ شركة انتل Intel الأمريكية طوّرت كمبيوترا خاصا به وبالحالات المماثلة لحالته. ومن خلال ذلك الكمبيوتر كان يكتب عبر إشارات يطلقها بعينيه ثم خده. لا ندري مدى دقة هذا الكلام. ومبدئيا هو كلام غير قابل للتصديق. قالوا عنه أنّه ملحد. وقالوا إنّه عبقري؛ لأنّه تحدث عن فكرة الثقوب السوداء. وهي شموس ميّتة ذات كثافة كهرومغناطيسية عالية تبتلع الأجسام التي تقترب منها كما يدّعي..

المهم في الأمر ربط العبقرية بالإلحاد. وهنا مربط الحمار.. فكل تلك البروباغندا لم يكن هدفها إلا التسويق للإلحاد بطريقة ماكرة بينما لم يكن هوكينغ لا عبقريا ولا ملحدا بل مجرد جثة هامدة طوال أكثر من أربعين سنة!

(6) Schaefer, Big Bang, p225.

(7) نجد مثلا، الجمعية العلمية "سيجما إكس آي" قامت باستطلاع رأي في أميركا الشمالية، انتهت فيه إلى أنّ مستوى دخل الفرد عندما يصل إلى 50 ألف دولار سنويًا فإنّ نسبة الإلحاد تزيد. ويؤكد ذلك (إدوارد لارسون) في بحث له منشور في مجلة "الطبيعة" Nature المشهورة؛ حيث استقرأ أنّ الأفراد الذين يزيد دخلهم عن 150 ألف دولار سنويًا ينتشر بينهم الإلحاد بشكل كبير.

(8) الروم، 10.

(9) يؤكّد تقرير مركز "وين/جيا غالوب" WIN/Gallup International البحثي على أنّ 5% من السعوديين ملاحدة؛ أي أنّ هناك ما يقرب من 300.000 ملحد في السعودية. بينما يعلن مركز "ريد سي" Red C التابع لمعهد "غلوبل" Global أن مصر هي الأولى عربيًا في نسبة الإلحاد بعدد 866 ملحدًا فقط، ويدّعي "مركز بيو للأبحاث" Pew Forum الأميركي أنّ الشرق الأوسط وحده يحتوي على مليونين ومئة ألف ملحد.

(10) عمرو شريف، الإلحاد مشكلة نفسية، القاهرة: نيوبوك، 2016م، ص124.