لِمَاْذا وُجهتْ سهاْم الأعْداء للتَشيع؟

: الشيخ ليث العتابي

لقد ابتلى الشيعة على طول الزمان بمحاولات الأعداء التأثير عليهم، وخلق الأكاذيب والأساطير حولهم وحول معتقدهم، حتّى وصل الشطط بالأعداء إلى أشياء لا يتقبلها العقل البشري مطلقاً.

فـ(الذي عليه معظم مؤرخي الفرق الإسلامية، وأصحاب الملل والنحل، أنّ التشيع بشكل عام ـ في المجال العقدي أو التشريعي، ظل محلاً للبدع ومأوى للضلالات الوافدة)(1).

يقول(طه حسين): (إنّ خصوم الشيعة لا يكتفون بما يسمعون عن الشيعة، بل يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وسمعوا. ويظل خصومهم واقفون لهم بالمرصاد يحصون عليهم ما يقولون وما يفعلون، ويضيفون إلى ذلك أشياء كثيرة، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ومع مرور الزمن وذهاب أصحاب المقالات يزداد الأمر إشكالاً، وبعد كل هذا التراكم البغيض تدخل الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون)(2).

كما ويقول المستشرق الألماني (فرانز روزنتال): (إنّ تأليف الكتب التاريخية كان من واجب الشخصيات السياسية الكبرى, ومعنى ذلك أنّ هناك من رجال الدولة من كان واجبه الأساسي هو تدوين التاريخ...)(3).

وإليك بعض النماذج البسيطة لرواةٍ كان لهم دور خطير في تحريف، وتزييف أحداث التاريخ، ومن هؤلاء:(شرحبيل بن سعد الحطمي المدني) مولى الأنصار، يقول عنه علماء الرجال: إنّه عندما أصابته حاجة كانوا يخافونه إذا جاء إلى الرجل يطلب منه الشيء فلم يعطه أن يقول له: لم يشهد أبوك بدراً(4).

والنموذج الثاني فيما فعله (ابن هشام) بالسيرة المروية عن (ابن إسحاق)، من خلال قصقصتها بحسب المراد، وتحت مسمّى (تهذيب السيرة)، ولو قرأنا مقدمته لعرفنا ما فعله، وكيف، وما سبب ذلك؟ إذ يقول: (وأنا مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل... والاختصار إلى حديث سيرة رسول الله، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها... وأشياء بعضها يشنع الحديث له، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به)(5).

ونموذج آخر هو (محمد بن شهاب الزهري)، والذي اعتمد عليه البلاط الأموي في كتابة السيرة والأنساب والمغازي، فقد نال حظوة كبيرة عند حكام بني أمية، فنرى ــ مثلاً ــ (عمر بن عبد العزيز) الأموي يكتب كتاباً إلى عماله في الأفاق نصه: (عليكم بابن شهاب هذا، فإنكم والله لا تلقون أحداً أعلم بسنة ماضيه منه)(6).

يضاف إلى ذلك الرواة الزبيريين، وما كان لهم من أثر في تشويه أحداث، ومجريات التاريخ على وفق أهوائهم، وكذلك الحال لو تطرقنا -على سبيل المثال- إلى مؤلفات (ابن كثير)، (وابن خلكان)، (وابن سعد)، (والذهبي)، (وابن حجر العسقلاني)، (وابن حجر الهيثمي)، (وابن خلدون)، (وابن تيمية)، (وابن قيم الجوزية)...الخ، فهؤلاء وضمن منهج ايديولوجي تملقي وعدائي راحوا يؤلفون ويكتبون المكذوبات على مذهب التشيع، ويخترعون الروايات الّتي يضاف ويضاف لها في كل عصر كلمات، وعبارات، وأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان.

إنْ كان العداء الذي نشأ في بادئ الأمر ضد الشيعة قد كان من (ملئ قريش) وجملة من حلفائهم من يهود ومنافقين، فإنّ العداء قد تطور بعد وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ليكون له مركز داخل المدينة المنورة مضافاً إلى مكة، ثم تطور ليكون له مركز في الشام، بل إنّ مركزه الأساس قد تحول إلى الشام عند ابن كبير ملئ قريش ألا وهو (معاوية بن أبي سفيان)، وبمجرد تسلمه السلطة ووجود الأموال والمغريات عنده، بدأت الحملة التشويهية ضد نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله)، وضد أهل بيته(صلوات الله عليهم)، وضد الشيعة في كل مكان، وحتّى يومنا الحاضر.

فمثلاً نجد بأنّ مصطلح الرافضة، هو مصطلح سياسي استخدمه طواغيت بني أمية وأتباعهم على كلّ معارضيهم، والثائرين على ظلمهم، وخصوصاً شيعه أهل البيت(عليهم السلام) الذين رفضوا ظلمهم واستبدادهم, ثم تطور مصطلح الرافضة مع الزمن ليشمل شيعة أهل البيت بالخصوص. 

ولقد سُئل السيد (هبة الدين الشهرستاني): إنّ بعض الناس يسمون الشيعة (رافضة) فما المقصود من ذلك، وما حقيقة الأمر فيه؟

فأجاب: (لا يخفاكم أن الشيطان قد نزغ بين فرق المسلمين الأقدمين, ونشر بينهم العداوة والبغضاء بعد ما فرّقهم شيعاً, فصارت كلّ فرقة تعبّر عن خصومها بألقاب الذم, بينما تعبّر عن نفسها بعبارات المدح, فكان الشيعة الأولون يعبّرون عن جماعتهم بالمؤمنين أو الخاصة, بينما كان خصومهم يسمونهم في عهد معاوية (شيعة أبي تراب)، وكانوا يسمونهم في عهد الحجاج (علوية)، ثم من بعد قضية(زيد الشهيد)أخذ المتعصبون ضدهم يسمونهم (الرافضة) مع أن جمهور الشيعة نصروا زيداً, ولم يرفضه سوى شرذمة قليلة من فرق (الكيسانية والسبئية), وطوائف قد انقرضت, ولم يبق منهم باقية, ولكن خصوم الشيعة عمموا أسم الرفض حتّى على(الجعفرية)للكناية بهم، والتحقير في حين أنّ الجعفرية في الكوفة كانوا أنصار زيد وشهداء بين يديه)(7).

من خلال ما تقدم يتبين أنّ مصطلح الرافضة يُنبز به من يقدم علياً(صلوات الله عليه), وأكثر ما يستعمل للتشفي والانتقام, وإذا هاجت هائجة العصبية لم يُتوقف في إطلاقه على كل شيعي, وقد أدى حب الانتقام إلى اختلاق الروايات في ذلك عن صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله) في حق محبي أهل بيته ومواليهم، وقد نص على أنّهم اوصياؤه وخلفاؤه, وجعلهم أحد الثقلين اللذين لا يضل المتمسك بهما.

إن تبني اطروحة (التشيع الفارسي)، أو كون (الفرس) هم من صنع التشيع، وأنّ (التشيع) هو فارسي الأصل والمنشأ؛ مقولة قد رددها الكثيرون من أعداء التشيع، وأصبحت شبهة ترمى على الشيعة في كل زمانٍ ومكان، حتّى نجد من تلقفها من المستشرقين متعكزين عليها في أبحاثهم عن قصدٍ أو عن جهل!!

فمثلاً نجد الكاتب الأمريكي (كارل إيرنست) يكتب وفق منهج، وفكر اقصائي للشيعة, حتّى أنّه وصفهم بالطائفية, ووصفهم أنّهم فرقة خارجة عن الإسلام, ودخيلة عليه, وليست منه, وأنّها من الفرق الّتي أسسها غير العرب (الفرس)، ولا ندري على أي أسس وأدلة أقام قوله هذا؟

كما ويقول (كارل إيرنست) واصفاً الشيعة بالطائفية بلا دليل ولا برهان إذ يقول: (ولا يقل الوضع صعوبة بالنسبة للتعريفات الّتي يعرف الإسلام من خلالها, فلا بد لها من التصادم مع كل من الحركات الطائفية مثل الفرق الشيعية المتعددة)(8).

إنّه قد قرر وحدد وحكم بأنّ الشيعة طائفيون, لكنّه وفي صفحة أخرى يقول: (إنّه من السخافة أن يحاول شخص ليس له أي صلة بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد تحديد التأويل الأجدر بالشرعية)(9)، فكيف حدد (كارل إيرنست) أنّ الشيعة طائفيون, أليس ذلك من السخافة!؟

في الواقع أنّ رأي (كارل إيرنست) حول الشيعة لم يأتِ من فراغ, بل هو نتاج أفكار, وحصيلة تراكمات من الكتابات الغربية حول الشيعة والتشيع، ومن ثم فهو يبين نظرة الغرب -العامة- للشيعة، خصوصاً أنّ كتابه (على نهج محمد) قد كتبه بعد أحداث (11 سبتمبر).

إن أسس البناء الفكري عن الشيعة والتشيع في أوربا والعالم الغربي قد بنته أفكار المستشرقين المتأثرة بالسياسة، وأفكار العصور الوسطى، والحروب الصليبية, والروايات الموضوعة من قبل وعاظ السلاطين وأعداء الشيعة.

يقول الدكتور (عبد الجبار ناجي): (إن الكثير من المستشرقين عند الكتابة في ميادين من التاريخ الإسلامي، ولاسيما بالنسبة إلى الجيل الأول منهم يصرون - بسبب سيادة الرواية الأموية والعباسية- على إقصاء عقيدة التشيع, أو إقصاء الحركات الشيعية من أحداث التاريخ الإسلامي... ولهذا تصور، لا بل تيقن عدد من المستشرقين القدامى أنّ حركة التشيع ما هي إلاّ حركة منعزلة، وذات تأثير ضئيل في التاريخ الإسلامي)(10).

وعلى وفق ذلك سار المستشرق الإنكليزي (كولن تيرنر) في كتابه: (التشيع والتحول في العصر الصفوي)(11)، والذي وجه فيه الانتقادات للشيعة، وكذلك في كتابه (الإسلام)، الذي كتبه بعد أحداث (11 سبتمبر)، بل إنّ هناك كثرة من المستشرقين يرون بأن التشيع فارسي بصورة أو بأخرى.      

إنَ البحثَ عما يَشغلُ الأمةَ الإسلامية, أو ما يجمعُها, أو ما يُفرقُها أمرٌ بغايةِ الصعوبةِ من أن نُحيطَ بهِ, وذلكَ لمِا يكتَنِفُ الأُمة من صِراعاتٍ ونزاعاتٍ فرّقتها وشتتها, وجعلتها شيعاً وأحزاباً ومللاً ومذاهب متفرقة. ففي اليوم الأول الذي ألتحق به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى اِنبثقت أول بذرات الخلاف ألا وهي: هل أنّ النبي محمد(صلى الله عليه وآله) نَصَبَ خليفةً، وإماماً وقائداً من بعده أم ترك الأمر إلى الأمة؟

في الحقيقة كان هذا السبب هو فاتحة اِختلاف الأمة الإسلامية وتَشتُتها, والأساس لبثّ الفُرقة وبذور الطائفية المقيتة، فكانت قضيةُ الإمامة والخلافة هي الأساس في الافتراق والتنازع ما بين رافضٍ ومؤيدٍ, لذا يقول (الشهرستاني) في كتابه الملل والنحل: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة, إذ ما سُل سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان)(12).

وهل اكتفى المخالفون بهذه القضية فقط؟

في الحقيقة الجواب هو: كلا لم يكتفوا, بل كانوا في كل لحظة، ومع كل مصلحة يبتدعون شيئاً جديداً يُثير في الأمة الحروب، والنزاعات، والانقسامات حتّى وصل التشتت والخلاف والتمزق إلى داخل العائلة الواحدة.

وبالحقيقة أنّ هذه الخلافات لم تنشأ بسبب غموض التعاليم الإسلامية؛ لأنّ الإسلام أبعد ما يكون عن الغموض.

ولا بسبب عدم وجود من يوضح، ويبين التعاليم الإسلامية؛ لأنّ الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) قد بيّن ووضّح الأساس الحقيقي في الفهم، ألا وهو الرجوع إلى كتاب الله تعالى, وإلى العترة الطيبة الطاهرة متمثلة بأئمة أهل البيت المعصومين(عليهم السلام).

إنما كان السبب الأول والرئيسي في هذا الخلاف هو الدافع السياسي المادي المصلحي, والذي أدى إلى أن يتسلط على الأمة من هو ليس أهلاً لذلك, بل تسلّط على الأمة الإسلامية أعداء الأمس القريب, ومحاربوها ومريدي السوء بها. 

ولأجل مصلحة هؤلاء الأعداء المتسلطين, ولأجل بقاء تسلطهم, كمموا الأفواه, وأعملوا السيف, وحرفوا وزوروا التعاليم، والسنن، والأحاديث، والتواريخ بما يلائم أغراضهم ومصالحهم, ويقوي سلطانهم, ومن جراء ذلك تكونت منظومة تراثية إسلامية متناقضة، ومتشتتة سهلة الاختراق من قبل أعداء الإسلام ومنافسيه, ليكون الزيف والتناقض والتخلف من أهم معالمها الأساسية البارزة, ويكون أَتباعُها مُسيرين خاملين متقوقعين ومتخاذلين, متمسكين بالقشور, ومبتعدين عن حقيقة الدين الإسلامي وتعاليمه السمحاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محنة التراث الآخر، إدريس هاني، ص 46.

(2) الفتنة الكبرى، طه حسين، ص 173.

(3) علم التاريخ عند المسلمين, فرانز روزنتال, ص 79.

(4) ينظر: تهذيب الكمال، المزي، ج12، ص 416.

(5) السيرة النبوية، ابن هشام، ج1، ص 19.

(6) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرازي، ج8، ص 72، وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج4، ص 77 ـ 179، سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص 326.

(7) الدلائل والمسائل, السيد هبة الدين الشهرستاني، ص23.

(8) على نهج محمد، كارل إيرنست، ص 82.

(9) على نهج محمد، كارل إيرنست، ص 85.

(10) التشيع والاستشراق، عبد الجبار ناجي، ص 15ـ16.

(11) التشيع والتحول في العصر الصفوي، كولن تيرنر، ص 131.

(12) الملل والنحل, الشهرستاني, ج 1, ص 24.