الإِرَادَةُ وَجِهَةُ صِفَتَيْهَا.

قُتَيْبَةُ السَّلَّمَان: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.. لَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى العَدِيدِ مِنْ كَلِمَاتِ عُلَمَائِنَا الأَجِلَّاءِ (أَقْصِدُ عُلَمَاءَ الشِّيعَةِ حَفِظَهُمْ اللهُ تَعَالَى) فِي كُتُبِهِمْ حَوْلَ صِفَاتِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَوَجَدْتُهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ صِفَةَ الإِرَادَةِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلهِ (عَزَّ وَجَلَّ) وَلَيسَتْ صِفَةً فِعْلِيَّةً، لَكِنَّنِي عِنْدَمَا اطَّلَعْتُ عَلَى رِوَايَاتِ أَهْلِ البَيْتِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) وَجَدْتُ كَلِمَاتِهِمْ الشَّرِيفَةَ تُخَالِفُ هَذَا المُعْتَقَدَ تَمَامًا وَتَنْفِيهِ جُمْلَةً وتَفصِيلًا، بِحَيْثُ وَصَلَ الأمْرُ إِلَى تَصْرِيحِهِمْ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) بِأَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الإِرَادَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَأَثْبَتُوا (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) بِأَنَّ صِفَةَ الإِرَادَةِ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، فَمَا هُوَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ؟ أَعْنِي: مَا هُوَ السِّرُّ فِي اعْتِقَادِ عُلَمَائِنَا بِعَقِيدَةٍ شِرْكِيَّةٍ مَعَ وُجُودِ النُّصُوصِ المُحَذِّرَةِ مِنْهَا وَالنَّاهِيَةِ عَنْهَا، وَ مَا هُوَ سِرُّ مُخَالَفَةِ العُلَمَاءِ لَهُمْ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)؟!!!

: اللجنة العلمية

        وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

      أَوَّلًا: أنَّ لِلإِرَادَةِ مَعْنَيَيْنِ: الأَوَّلُ: لُغَوِيٌّ. وَالثَّانِي :اصْطِلَاحِيٌّ.

      وَكُلُّ لَفْظٍ وَرَدَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لِتَأَخُّرِ المَعْنَى الإصْطِلَاحِيِّ عَنْ زَمَانِ النَّصِّ.

      وَعَلَيْهِ، فَمُقَايَسَةُ مَا مَوْجُودٌ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا مَوْجُودٌ فِي كَلِمَاتِ العُلَمَاءِ تَقْتَضِي بَيَانَ المَعْنَى اللُّغَوِيِّ أُوَلًا، ثُمَّ الإصْطِلَاحِيِّ ثَانِيًا، وَبَيَانَ النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الإسْتِظهَارِ.

      وَثَانِيًا: نَسْأَلُ الأَخَ السَّائِلَ عَنْ مِلَاكِ الإسْتِظهَارِ مَا هُوَ؟

      وَثَالِثًا: ذَكَرَ العُلَمَاءُ أَنَّ الإِرَادَةَ بِالمَعْنَى المُصْطَلَحِ لَهَا مِصْدَاقَانِ:

       الأَوَّلُ: الإِرَادَةُ فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ.

      الثَّانِي: الإِرَادَةُ فِي عَالَمِ التَّشْرِيعِ. 

      فَمَا هُوَ مُرَادُ السَّائِلِ مِنْ دَعْوَى التَّنَافِي، هَلْ هُوَ الأَوَّلُ أُم الثَّانِي؟ 

      وَرَابِعًا: يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الإِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بلِحَاظٍ، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ بلِحَاظٍ آخَرَ.

      فبِلِحَاظِ كَوْنِ الإِرَادَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالقُدْرَةِ - مَثَلًا - تَكُونُ الإِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، لِأَنَّ القُدْرَةَ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتعَلَّقُها كَذَلِكَ. وَهَذَا المَعْنَى قَدْ وَرَدَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَاحِظْ قَوْلَ الإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ حِينَ سَأَلَهُ: لَمْ يَزَلْ اللهُ مُرِيدًا؟ فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): إِنَّ المُرِيدَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُرَادٍ مَعَهُ، بَلْ لَمْ يَزَلْ اللهُ عَالِمًا قَادِرًا ثُمَّ أَرَادَ. "مُخْتَصَرُ بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ" ص140 كِ المَطْبَعَةُ الحَيدَرِيَّةُ.

      فَالإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالعِلْمِ أَوْ بِالقُدْرَةِ، وَكِلَا الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ.

      إِذَنْ: الوَارِدُ عَنْهُمْ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بِأَنَّ الإِرَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ حَتَّى يُتَّهَمَ فُقَهَاءُ الأُمَّةِ وَأُكَابِرُهَا بِالشِّرْكِ لِمُجَرَّدِ عَدَمِ التَّصَوُّرِ. 

      وَمَا كَلَامُ العُلَمَاءِ إِلَّا تَدْقِيقٌ فِي تِلْكَ المَعَانِي الدَّقِيقَةِ الوَارِدَةِ فِي كَلِمَاتِهِمْ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى تَأَنٍّ وَبُعْدِ نَظَرٍ وَمُمَارَسَةٍ طَوِيلَةٍ لِهَذِهِ المَفَاهِيمِ، فَهِيَ لَيْسَتْ شِرْعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ، حَتَّى يُتَّهَمَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ بِالتَّنَافِي لِمُجَرَّدِ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الحَالِ.

      وَلِمَزِيدِ تَفْصِيلٍ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ رَاجِعْ "الإِلَهِيَّاتِ" لِلشَّيْخِ جَعْفَرٍ السُّبحَانيِّ ج1 ص176 تَحْتَ عُنْوَانِ (الإِرَادَةُ فِي السُّنَّةِ).

      وَخَامِسًا: قَالَ المُحَقِّقُ البَحرَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي "قَوَاعِدِ المَرَامِ" ص225 ط العَتَبَةُ الحُسَينِيَّةُ (فَمَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا هُوَ عِلْمُهُ باشْتِمَالِ الفِعْلِ عَلَى المَصْلَحَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى إِيجَادِهِ).

      فَوَصْفُهُ تَعَالَى شَأْنُهُ فِي مَقَامِ الذَّاتِ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُخْتَارٌ.

      وَوَصْفُهُ فِي مَقَامِ الفِعْلِ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُوجِدٌ وَمُحْدِثٌ. سَأَلْتَ فَافْهَمْ الجَوَابَ! 

      وَسَادِسًا: انْظُرُ إِلَى قَوْلِ المُحَقِّقِ الطُّوسِيِّ فِي التَّجْرِيدِ فِي بَحْثِ الإِرَادَةِ وَتَأَمَّلْ قَولَهُ: (... كَانَتْ القُدْرَةُ وَالعِلْمُ وَالإِرَادَةُ شَيْئًا وَاحِدًا فِي ذَاتِهِ مُخْتَلِفًا بِالإعْتِبَارَاتِ العَقْلِيَّةِ).

      وَسَابِعًا: لَوْ فَرَضْنَا جَدَلًا وَسَلَّمْنَا الأَمْرَ مَعَ السَّائِلِ، فَإِنَّ وَصَفَ الشِّرْكِ لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا، لِأَنَّ الشِّرْكَ هُوَ جَعْلٌ ثَانٍ مَعَ وَاجِبِ الوُجُودِ تَعَالَى شَأْنُهُ، فَلَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الصِّفَةِ.

      فَذِكْرُ الشِّرْكِ فِي مَحَلِّ الكَلَامِ مِنْ الجَهْلِ بِاسْتِعْمَالَاتِ المَفَاهِيمِ وَمَوَارِدِهَا.

      ثَامِنًا: قَالَ أَبُو العَلَاءِ المَعَرِّي فِي السَّيِّدِ المُرْتَضَى حِينَ سَأَلَهُ أَحَدٌ: مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ: 

      يَا سَائِلِيْ عَنْهُ لَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُهُ. 

                أَلَا هُوَ الرَّجُلُ العَارِي مِنْ العَارِ. 

       لَوْ جِئْتَهُ لَرَأَيْتَ النَّاسَ فِي رَجُلٍ.

                وَالدَّهْرُ فِي سَاعَةٍ وَالأَرْضُ فِي دَارِ.

       وَالقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سيارٍ هُوَ مَنْ لَقَّبَ الشَّيْخَ المُفِيدَ بالمُفِيدِ.

       وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ المَجِيدِ سَلِيمٌ شَيْخُ الأَزْهَرِ أنَّه كَثِيرُ الإِعْجَابِ بِفِقْهِ الشِّيعَةِ، خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ كِتَابُ "المَبْسُوطِ" للطُّوسِيِّ.

        وَالدُّكْتُورُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبدِ القَادِرِ بلفَقِيهِ العَلَوِيِّ مُفْتِي لِجْنَةِ الإِفْتَاءِ الشَّرْعِيِّ، وَرَئِيسُ مَعْهَدِ دَارِ الحَدِيثِ، وَعَمِيدُ كُلِّيَّةِ المُعَلِّمِينَ فِي مَالانج بِأَنْدُونِيسْيا فِي رِسَالَتِهِ إِلَى المُؤْتَمَرِ الأَلْفِيِّ لِلشَّيْخِ الطُّوسِيِّ: الشَّيْخُ الطُّوسِيُّ هُوَ مِنْ الأَفْذَاذِ الَّذِينَ قَلَّ أَنْ يَجُودَ الدَّهْرُ بِأَمْثَالِهِ.

      وَالأُسْتَاذُ سَعِيدٌ أَحْمَدُ أَكْبَرُ آبَادِي عَمِيدُ كُلِّيَّةِ الدِّينِ، القِسْمُ السُّنِّيُّ بِالجَامِعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي عليگره بِالهِنْدِ، فِي كَلِمَتِهِ إِلَى المُؤْتَمَرِ الأَلْفِيِّ :لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِتَارِيخِ النُّبُوغِ الفِكْرِيِّ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ شَيْخَنَا شَيْخَ الطَّائِفَةِ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ الطُّوسِيَّ كَانَ مِنْ أَمْثَالِ أُولَئِكَ الأَعْلَامِ المُجْتَهِدِينَ المُجَدِّدِينَ الَّذِينَ يتأسَّى بِهِمْ العُلَمَاءُ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ الحُكَمَاءُ. وَمِمَّا لَا مسَاغَ فِيهِ لِلشَّكِّ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مَوْهُوبًا، وَعَلَمًا فَرْدًا، وَآيَةً مِنْ آيَاتِ اللهِ البَالِغَةِ، وَحُجَّةً مِنْ حُجَجِهِ الكَامِلَةِ.

        فَهَلْ مِنْ الإِنْصَافِ أَنْ يُنْعَتَ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ بِالشِّرْكِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا، وَالسَّائِلُ لِوَحْدِهِ فَهِمَ وَتَفَطَّنَ، مَعَ الفَارِقِ الكَبِيرِ، بَلْ عَدَمُ مُقَارَنَتِهِ بِأَمْثَالِهِمْ!.

          ودُمتُمْ سَالِمِينَ.