هل ارادة الله بأن لا يستلم أمير المؤمنين الإمام علي "الخلافة"؟

هل صحيح أن نقول "هذا ما أراده الله بأن لا يستلم أمير المؤمنين الإمام علي الخلافة"؟ وهل حقاً هذا حاصل؟ رغم توصيات الرسول (ص) للإمام (ع) هل كان لا بد من أن تتغير مجريات الأمور؟ فمثلاً لا بأس بأن نتخيل أن الإمام علي ع استلم الخلافة منذ شهادة الرسول، فلا شك أن الأمة ستكون بأحسن أحوالها..ولا وجود أصلاً للبدع والمذاهب في الإسلام... والمقصد من كل هذا.. هل كان من "الممكن" أن تسير الأمور على نحو الصراط المستقيم دون الإنحرافات التي وقعت؟ أم أن ما حدث أمر محتوم علينا أن يسود الفساد والإنحراف في الأمة الإسلامية؟!

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

منَ الواضحِ أنَّ اللهَ تعالى ليسَ هوَ المسؤولَ عَن إنحرافِ الأمّةِ، وإنّما جهلُ الأمّةِ بقيمةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) هوَ المسؤولُ عَن ذلكَ، فقَد بيّنَ اللهُ ورسولُه فضلَ أهلِ البيتِ ومكانتَهُم واختارَهُم أئمّةً وقادةً للمؤمنينَ، ولكنَّ الأمّةَ تعاملَت معَهُم بالقتلِ والتّشريدِ، فكانَ أوّلُهم الإمامُ عليّ بنُ أبي طالبٍ (عليه السّلام)، الذي شهدَ البشرُ جميعاً بفضلِه ومنزلتِه، فبدلَ أن يلتفُّوا حولَه، ويستنيروا بهدايتِه، وينعمُوا بالعدلِ تحتَ ظلِّه، عملُوا على مُنابذتِه وحربِه، إلى أن وقعَ صريعاً في محرابِه، مُخضِّباً شيبتَهُ الشّريفةَ بدمِ رأسِه، ثمَّ ابنُه الحسنُ (عليه السّلام) الذي قُتلَ مسموماً، بعدما إنفضَّ مِن حولِه أكثرُ المُسلمينَ، مُفضّلينَ دُنياهُم التي كانَت عندَ معاويةَ، ومِن ثمَّ الحُسينُ (عليه السّلام) وفاجعةُ الطّفِّ، التي تصوّرُ عُمقَ المظالمِ التي جرَت على أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، ومن ثُمَّ الأئمّةُ مِن ولدِ الحُسينِ الذين شُرِّدوا في البلادِ، وقُتلوا وقُتلَ شيعتُهم، ولَم يبقَ منهُم إلّا آخرُهم، وهوَ الحُجّةُ بنُ الحسنِ، الذي تُملأ الأرضُ عدلاً على يديه. 

نحنُ قد لا نفهمُ الحِكمةَ مِن جعلِ الأئمّةِ إثني عشرَ دونَ زيادةٍ، ولكنّنا لا نفهمُ أيضاً أن يكونَ عددُهم غيرَ مُتناهٍ، فطالما جاءَت الأخبارُ مُؤكِّدةً على كونِ الأئمّةِ مِن بعدِ الرّسولِ (صلّى اللهُ عليه وآله) إثني عشر، بما صحَّ عندَ كلِّ الفرقِ والمذاهبِ، فإنَّ رحمةَ اللهِ تقتضي الحفاظَ على آخرِهم، فمِن هذهِ الزّاويةِ يمكنُ أن نتفهّمَ تدخّلَ الإرادةِ الإلهيّةِ لحفظِ آخرِهم مِن تعدّي النّاسِ وجهلِهم، ولو لَم يشأ اللهُ بأن تجري الأمورُ بأسبابِها لأخذِ الأُمّةِ بدمِ الحُسينِ عليه السّلام، كما أُخِذَ قومُ صالح بسببِ ناقةِ، ومِن هُنا يُمكنُنا أن نفهمَ أنَّ الغيبةَ حصلَت بمشيئةٍ منَ الله تعالى. 

فمنذُ أن أنزلَ اللهُ آدمَ إلى الأرضِ وجعلَهُ خليفةً عليها أنزلَ معهُ إبليسَ، فكانَ ذلكَ بدايةَ الصّراعِ بينَ الحقِّ الذي يتجلّى في أولياءِ الله، والباطلِ الذي يتجلّى في أولياءِ إبليس، ولمَ يتأخَّر هذا الصّراعُ كثيراً، فقَد بدأت ملامحُه في أوّلِ ذُرّيّةٍ لآدمَ، فقَد كانَ هابيلُ امتداداً لإرادةِ اللهِ، وكانَ قابيلُ إمتداداً لإرادةِ إبليس، وقَد كانَ الخلافُ الذي نشبَ بينَهُما هوَ أوّلَ البدايةِ لسفكِ الدّمِ والفسادِ في الأرض.  

وهكذا إستمرَّ الصّراعُ بينَ ذُرّيّةِ آدم، فكانَ منهُم الأنبياءُ والمرسلونَ وعمومُ الصّالحينَ، وفي المُقابلِ كانَ هُناكَ مَن يُمثّلُ إرادةَ إبليس مِن جبابرةٍ وطواغيت، والإنسانُ هوَ وحدُه المسؤولُ عَن مُجرياتِ ذلكَ الصّراعِ، ولا يفرضُ اللهُ إرادتَه ويُجبرُ خلقَه على نُصرةِ الحقِّ ودحضِ الباطِل، ففلسفةُ وجودِ الإنسانِ تتمحورُ في القيامِ بدورِه بما أعطاهُ اللهُ مِن عقلٍ وإرادةٍ. 

أمّا لِماذا لَم يتدخّل اللهُ بإرادتِه لنُصرةِ الحقّ كما تدخّلَ في إختيارِ الأنبياءِ والمُرسلينَ والأئمّةِ الطّاهرينَ؟  

أوّلاً: إنَّ إرادةَ اللهِ تعالى هيَ التي ترسمُ الأهدافَ للأنبياءِ والرّسلِ، وليسَ لإرادةِ الإنسانِ حقٌّ في تغييرِها أو تبديلِها. 

ثانياً: إنَّ إرادةَ الإنسانِ هيَ المسؤولةُ عَن تطبيقِ هذهِ الأهدافِ، وإنزالها إلى أرضِ الواقعِ، وهيَ الأمانةُ التي حمّلَها اللهُ للإنسان، بعدَ أن أشفقَت عَن حملِها السّماواتُ والأرضُ: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحملنَها وَأَشفقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، فحملَ الإنسانُ المسؤوليّةَ دونَ أن تتدخّلَ إرادةُ اللهِ تعالى لإكراهِه عليها، وبذلكَ أصبحَ الإنسانُ حُرَّ الإختيارِ، ومسؤولاً عَن إختيارِه: (أَنُلزِمُكُمُوها وَأَنتُم لَها كارِهُونَ؟).   

ثالِثاً: إنَّ الوصولَ إلى الغايةِ التي هدفَ إليها الأنبياءُ، ليسَ موقوفاً على إرادةِ اللهِ فقَط، وإنّما أجرى اللهُ الأمورَ بأسبابِها الطّبيعيّةِ، فطالما أنَّ إرادةَ الإنسانِ هيَ المسؤولةُ عَن تطبيقِ هذهِ الأهدافِ، فإنَّ إرادةَ اللهِ تقتضي إرسالَ الأنبياءِ للنّاسِ لهدايتِهم وإرشادِهم لِما فيهِ صلاحُهم، وإرادةُ الإنسانِ يدورُ أمرُها بينَ الطّاعةِ والإنقيادِ لهُم، وبينَ الجحودِ والكُفرِ بهم، أو حتّى مُحاربتِهم وقتلِهم، قالَ تعالى: (إِنَّا هَديناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)). 

رابِعاً: إنَّ الهدفَ النّهائيَّ لكلِّ الأنبياءِ، هوَ التّوحيدُ في كلِّ الأرضِ، بحيثُ لا يبقى هُناكَ مُشركٌ، وإقامةُ العدلِ والقسطِ في الأرضِ، بحيثُ لا يكونُ هناكَ ظُلمٌ أو فسادٌ، ومِن أجلِ ذلكَ تدخّلَ اللهُ بإرادتِه لحمايةِ آخرِ الأوصياءِ وبقيّةِ اللهِ منَ الصّالحينَ إلى أن تعودَ الأمّةُ إلى رُشدِها وتبحثَ عَن وليّ أمرِها.

وعليهِ فإنَّ الأمرَ ليسَ موقوفاً على إرادةِ اللهِ فقَط، ولَو كانَ كذلكَ لخلقَ اللهُ النّاسَ مُؤمنينَ مُطيعينَ كما جعلَ الملائكةَ، وإنّما إمتحنَ اللهُ خلقَه بطاعةِ رُسلِه، ولمَ يُجبرهُم على هذهِ الطّاعةِ، ولكنَّ الإنسانَ بظُلمِه وجهلِه حملَ هذهِ المسؤوليّةَ: (وَحَمَلَهَا الإنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، وتمرّدَ بظُلمِه وجهلِه على أنبياءِ اللهِ ورسلِه وتبعَ أهواءَهُ التي زيّنَها لهُ إبليس، وليسَ لنا أن نتوقّعَ أن ينوبَ اللهُ عنّا في مُحاربةِ الظّلمِ والفسادِ الذي انتشرَ، لأنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسِهم.

وفي المُحصّلةِ إنَّ تسلُّمَ الإمامِ عليٍّ للخلافةِ هيَ مسؤوليّةُ الأمّةِ بالإنقيادِ لهُ والتّسليمِ لأوامرِه، فعليٌّ كالكعبةِ يُؤتى ولا يأتي، ولو فعلَت الأُمّةُ ذلكَ لفُتحَت عليهم بركاتُ السّماءِ والأرض، أو كما قال سلمانٌ الفارسيّ رضيَ اللهُ عنه: (ألا يا أيّها النّاسُ إسمعوا عنّي حديثي ثمَّ إعقلُوه عنّي، ألا وإنّي أوتيتُ عِلماً كثيراً، فلو حدّثتُكم بكُلِّ ما أعلمُ مِن فضائلِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) لقالَت طائفةٌ منكُم: هوَ مجنونٌ، وقالَت طائفةٌ أُخرى: اللّهمَّ إغفر لقاتلِ سلمان - إلى أن قالَ: - أما والذي نفسُ سلمانَ بيدِه لَو ولّيتموها عليّاً لأكلتُم مِن فوقكُم ومِن تحتِ أرجلِكم، ولو دعوتُم الطّيرَ لأجابتكُم في جوِّ السّماء، و لو دعوتُم الحيتانَ منَ البحارِ لأتتكُم، ولما عالَ وليُّ اللهِ، ولا طاشَ لكُم سهمٌ مِن فرائضِ اللهِ، ولا اختلفَ إثنانِ في حُكمِ اللهِ، ولكِن أبيتُم فوليتموها غيرَه، فأبشرُوا بالبلاءِ).