لماذا حد المرتد عن الاسلام القتل؟ اذا كان لا اكراه في الدين كما يقول القرآن الكريم؟

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأحكامُ الشّرعيّةُ يجبُ فهمُها في إطارِها الذي وُضِعَت فيه، ومحاولةُ إخراجِها بعيداً عَن هذا الإطارِ يُؤدّي إلى فهمٍ مُشوّهٍ للحُكمِ، وأكثرُ الإعتراضاتِ التي يُثيرُها البعضُ نابعةٌ منَ الجهلِ بالسّياقِ الذي وضِعَت فيه الأحكامُ، فإذا نظرنا إلى الإسلامِ بوصفِه مشروعاً مُتكامِلاً للإنسانِ على مُستوى الفردِ والجماعةِ، ومِن ثُمَّ فهمنا الغايةَ التي يطمحُ أن يكونَ عليها المُجتمعُ المُسلِم، حينَها نفهمُ الدّورَ الذي يُؤدّيهِ كلُّ حُكمٍ في هذا المشروعِ، وبكلمةٍ مُختصرةٍ يُمكِنُنا أن نقولَ أنَّ المشروعَ الإسلاميَّ يهدفُ إلى الإرتقاءِ بالفردِ والمُجتمعِ إلى مُستوىً منَ الكمالِ لا يشوبُه نقصٌ، ولكَي يتحقّقَ ذلكَ لابُدَّ مِن وجودِ رُؤيةٍ معرفيّةٍ واعتقاديّةٍ واضحةٍ تُمثّلُ الإجابةَ الواقعيّةَ لحقيقةِ الكونِ والإنسان، وأهمّيّةُ هذهِ العقيدةِ تكمنُ في ما تُمثّلُه مِن مرجعيّةٍ للقيمِ والثّقافةِ النّاظمةِ لسلوك المُجتمعِ، وحالةِ التّباينِ والإضطرابِ المنظورِ في المُجتمعاتِ البشريّةِ يرجعُ بشكلٍ أساسيّ إلى تباينِ المرجعيّاتِ المعرفيّةِ والعقائديّةِ، ومِن هُنا إهتمَّ الإسلامُ بالعقيدةِ بوصفِها الأساسَ المتينَ للمُجتمعِ الإسلاميّ، ومِن أجلِ حمايةِ هذهِ العقيدةِ شرّعَ بعضَ التّشريعاتِ بمثابةِ خطوطِ دفاعٍ عَن أسوارِ العقيدةِ، ومنَ الواضحِ أنَّ الهدفَ مِن هذهِ الأحكامِ ليسَ منعَ التّفكيرِ والنّقاشِ العلميّ وإنّما هدفُها منعُ العبثِ القائمِ على التّشكيكاتِ غيرِ النّزيهة. وعليهِ فإنَّ إشكاليّةَ حُكمِ المُرتدِّ تُفهَمُ في إطارِ ردعِ الأيادي العابثةِ في العقيدةِ بوصفِها قضيّةَ أمنٍ قوميّ إذا صحَّت العبارةُ، فكما أنَّ الإصلاحَ في إطارِ العقيدةِ يُمثّلُ الخطوةَ الأولى لبناءِ مُجتمعٍ حضاريٍّ فإنَّ العبثَ في العقيدةِ يُمثّلُ الخطوةَ الأولى أيضاً في تهديمِ ذلكَ المُجتمعِ، ومِن هُنا نفهمُ الحملةَ المُنظّمةَ والمُوجّهةَ لاِستهدافِ عقائدِ المُسلمينَ مِن قِبلِ الأعداءِ، باعتبارِ أنَّ الهدفَ منها هوَ تفكيكُ بُنيةِ المُجتمعاتِ المُؤمنةِ. 

 ومنَ المفاهيمِ المغلوطةِ فيما يتعلّقُ بهذهِ الأحكامِ هوَ الإعتقادُ بأنَّ حقَّ التّطبيقِ موكولٌ لعامّةِ المُجتمعِ أو للسُّلطةِ السّياسيّةِ الحاكمةِ، ممَّا يجعلُهم يتحفّظونَ في قبولِ مثلِ هذهِ الأحكامِ، وبخاصّةٍ فإنَّ بعضَ التّجاربِ التّاريخيّةِ أو بعضَ الحركاتِ الإسلاميّةِ المُعاصرةِ قد قدَّمت صوراً مُشوّهةً في تطبيقاتِ هذهِ الأحكامِ، ونحنُ بدورِنا نرفضُ هذهِ النّماذجَ كما نرفضُ أيضاً مُقاربةَ الأحكامِ الشّرعيّةِ مِن خلالِ السّياقاتِ التّاريخيّة، فالإسلامُ يُفهَمُ مِن خلالِ مصادرِه الطّبيعيّةِ التي ليسَ مِن بينَها المُمارسةُ العمليّةُ للمُسلمينَ سواءٌ كانَت مُمارسةً تاريخيّةً أو مُعاصرةً، ومِن هُنا نؤكّدُ على أنَّ تنفيذَ هذهِ الأحكامِ مكفولٌ فقَط لمَن يُمثّلُ إرادةَ اللهِ بشكلٍ مُباشرٍ سواءٌ كانَ رسولاً أو إماماً، ومعَ غيابِ الإمامِ وغيابِ المُجتمعِ المثاليّ الذي دعا لهُ الإسلامُ لا توجدُ جهةٌ تمتلكُ حقَّ تنفيذِ هذهِ الأحكامِ. فمثلاً لا يجوزُ لمَن لم يكُن طاهِراً في نفسِه إقامةَ حدِّ الزّنا على غيرِه، كما أنَّ المُجتمعَ الذي تستهدفُ حمايتَهُ هذهِ الحدودُ هوَ المُجتمعُ الذي وصلَ إلى درجةٍ منَ العِفّةِ والطّهارةِ، ولِذا لا يمكنُ أن نشتغلَ بإقامةِ الحدودِ ومُجتمعُنا مُنهارٌ منَ الدّاخلِ، ومِن هُنا فإنَّ الإسلامَ قبلَ تشريعِه لهذهِ القوانينِ عملَ على بناءِ ذلكَ المُجتمعِ ومِن ثُمَّ عملَ على حمايتِه بتلكَ الحدودِ الرّادعةِ، فمثلاً قطعُ يدِ السّارقِ شُرّعَ لحمايةِ مُجتمعٍ توفّرَت فيهِ كلُّ مقوّماتِ الحياةِ، والسّرقةُ في مثلِ هذا المُجتمعِ يجبُ ردعُها بأقصى أنواعِ العقوبةِ حتّى لا تكونَ سبباً في فسادِه. 

وما يجبُ الإشارةُ إليهِ هوَ أنَّ قتلَ المُرتدِّ لا يتعارضُ معَ قولِه تعالى: (لا إكراهَ في الدّينِ) فالآيةُ ناظرةٌ إلى كونِ الإسلامِ لا يُمارسُ الإكراهَ معَ المُخالفين، وإنّما يطالبُ بضرورةِ حصولِ العلمِ واليقينِ الجازمِ بأنّهُ حقٌّ، ومتى تحقّقَ ذلكَ لأيّ إنسانٍ لا يجوزُ لهُ الإرتدادُ لأنّهُ يكونُ قَد إرتدَّ على ذاتِه وكفرَ بقناعاتِه، وهذا إستهتارٌ بحُكمِ كلِّ العُقلاءِ، ولِذا ميّزَ الإسلامُ بينَ المُرتدِّ المُستهترِ وبينَ المُرتدِ عَن شُبهةٍ، فحكمَ على المُستهترِ بالقتلِ ولَم يحكُم بقتلِ صاحبِ الشّبهةِ.

وفي المُحصّلةِ، يجبُ فهمُ الحدودِ الشّرعيّةِ في إطارِ الفلسفةِ العامّةِ للتّشريعِ، وتسميةُ هذهِ الأحكامِ بالحدودِ فيهِ إشارةٌ تُؤكّدُ ما ذكرناهُ؛ فكما أنَّ الهدفَ مِن حمايةِ حدودِ البلادِ هوَ حمايةُ الدّاخلِ، كذلكَ الحدودُ الشّرعيّةُ وُضعَت لحمايةِ المُجتمعِ المُؤمنِ، وما يؤسَفُ لهُ أنَّ المُجتمعاتِ المُسلمةَ لَم ترتقِ بعدُ إلى مُستوىً يجعلُها مصداقاً للمُجتمعِ الذي قصدَ الإسلامُ حمايتَه.