هل الدين فوق العقل ام العقل فوق الدين وما مساحة استخدام عقلنا ؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

الدينُ هو رسالة الله إلى الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً، والوحي في حقيقته ليس إلا أثارة لدفائن العقل والكشف عن مكنوناته، أو كما يقول الإمام علي (عليه السلام) واصفاً مهمة الأنبياء بقوله: (ليثيروا لهم دفائن العقول) وعليه يمكننا أن نقول إنّ فلسفة الوحي هي فتح الطريق أمام الإنسان لكي يتعقل حتى يتعرّف على الحقائق بنفسه، ومن هنا نجد آيات القرآن ذكّرت الإنسان بعوامل قوته ونبهته من مكامن ضعفه، فأمرته بالعقل وحذرته من الهوى والشهوات بوصفها عقباتٍ أمام العقل، وعليه هناك تطابقٌ تام بين ما أمر به الوحي وما أمر به العقل، فقد جاء في الخبر عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ لله على الناس حجتين حجّة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأمّا الباطنة فالعقول)، وقال (عليه السلام): (العقل رسولٌ باطن، والرسول عقلٌ ظاهر)، وهذا الوصف الدقيق لعلاقة الوحي والعقل يرفع الحدود الغامضة بينهما، ولا يمكن أن نفهم عمق العلاقة بين العقل والوحي إذا نظرنا لكلّ واحد منهما نظرة تمنحه الإستقلالية عن الآخر؛ بمعنى أنّ الوحي لوحده لا يصلح أن يكون مصدراً للمعرفة الإسلامية كما أنّ العقل كذلك، وإنما يجبُ النظر لهما بوصفهما يشكلان منهجاً واحداً لتحقيق معارف الإسلام، وبالتالي نرفض كلّ محاولة عقلية في المعرفة الإسلامية خارجة عن إطار الوحي، كما نرفض كلّ محاولة ترتكز على الوحي مع إهمال العقل، وهكذا يمكننا القول بأنّ هناك علاقة تكاملية بين العقل والوحي حيث لا يستقيم لأيّ واحد منهما معنىً من دون الآخر، فتارة نفهم الوحي بشكل خاطئ فنعتبره بديلاً لعقل الإنسان، وحينها تصبح أيّة محاولة لإستخدام العقل هي خروجاً عن دائرة الوحي، وتارة نفهم الوحي بالشكل الصحيح فنعتبره تعزيزاً للعقل ودفعه إلى مزيد من التفكر والتعقل، وحينها تكون أّة محاولة للتمسك بالوحي من دون عقل هي خروجاً عن دائرة الوحي نفسه.

والدينُ المتمثلُ في القرآن الكريم يرتكز على العقل كمحور لحكرة نصوصه، فيأمر بشكل دائم بالعقل، والتعقل، والتدبر، والتفكر، في مئات من الآيات؛ مما يكشفُ عن دور العقل وأهميته كمحور لا تكتملُ المعرفة القرآنية إلا به، قال تعالى: (إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُم تَعْقِلُونَ(( ). وقال تعالى: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ)( ). وقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(( ). وقال تعالى: (...قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)( ). وقال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُم أَفَلَا تَعْقِلُونَ(( )، وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَم عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(( ). وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثيراً) () 

 وقال: (...كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون)()

وقال: (...كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يعقلون) ()

 

 وغيرها من الآيات الدالة على كون القرآن يرتكزُ على العقل بوصفه محوراً أساسياً لا تكتملُ المعرفة القرآنية إلا به.

والعقل في وصف الآيات والروايات نور إلهي أفاضه الله على قلب الإنسان لكي يكشف به الحقائق، وفي المقابل وصف القرآن نفسه ومعارفه بكونها نوراً أيضاً، وعليه يصبح القرآن والعقل نوران من مصدر واحد، وبتكاملهما تتكاملُ المعرفة وتنكشف الحقائق ، وما على العقل إلا الإنفتاح على نور الوحي حتى يزكو، وينمو، ويتكامل، ويستبصر، بنور الوحي.

وفي المحصلة أنّ الدين لم يأتِ بحقائق خارجة عن إدراك العقل ومعارفه الفطرية وإنما جاء بلسان التذكير بتلك الحقائق التي حُجبت بالغفلة، فكان لسانُ خطابه (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ( )، والتذكير هنا هو التذكير بأحكام العقول الفطرية، فيكون القرآن إثارة للعقول وتنبيهاً لواقع تلك الأحكام التي احتجبت بدواعي الهوى والغفلة، وعليه لا وجود للفوقية والتحتية بين الدين والعقل، طالما أنّ الدين لم يأمر الإنسان بأكثر من التعقل. إلا أنه يجب التنبيه بأنّ العقل الذي نقصده ليس كلّ ما يصدر من الإنسان من أفكار ومعارفَ وإنما المقصودُ هو العقل المنزّه عن الأهواء والشهوات والمصالح الضيقة، ولذا أمر القرآن بالتزكية قبل أن يأمر بالعلم قال تعالى: (يزكيهم ويعلمهمُ الكتابَ والحكمة)