ماهي حقيقة الإنسانية الغربية؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

هناك رؤية تحاول أن تصور الحضارة الغربية على أنها حضارة إنسانية تنادي بالحرية والعلمانية وتمنح العقل والعلم الأولوية في تحديد خيارات الإنسان، إلا أن ذلك يمثل رؤية خادعة وغير واقعية، ولكي نتعرف على الإنسانية الغربية ضمن سياقها الطبيعي لابد أن نتعرف على الرؤية الكونية التي تنطلق منها الثقافة الغربية، فالرؤية الكونية التي ترتكز عليها تلك الثقافة قائمة على جوهر واحد برغم هذا التنوع الذي نشهده، وهذا الجوهر هو المادة وقوانين المادة الحاكمة على جميع أجزاء الطبيعة، والإنسان جزء لا يتجزأ من هذه الطبيعة، أي إن الإنسان ليس شيء اخر غير المادة، وبذلك لا يتمتع الإنسان باي حيز خاص يميزه عن الطبيعة والمادة، وعليه فإن القوانين الطبيعية (المادية) هي القوانين الحاكمة على الإنسان كما أنها حاكمة على جميع أجزاء الوجود، ومن الواضح أن هذه الرؤية تقع على النقيض من الرؤية الإسلامية القائمة على التوحيد، فالتوحيد يعني أن الله هو الخالق والمهيمن على الوجود وهو الذي يمنح الوجود تماسكه وتناسقه كما يجعله وجوداً له لغاية ضمن منظومة من القيم الأخلاقية، فالرؤية التوحيدية تعترف بوجود شيئين هما المادة وما واراء المادة، والشهود والغيب، والجسد والروح، وعليه فإن المنظومة التوحيدية تمنح الإنسان حيزاً خاصاً فهو ليس باله وليس بمادة، وعليه يصبح الإنسان (جزء يتجزأ من الطبيعة) وليس (جزء لا يتجزأ من الطبيعة) فالإنسان قبضة من طين ونفخة من روح، وهذا ما يجعل الإنسان كائن له غاية وتحكمه منظومة أخلاقية وبالتالي كائن مسؤول له حقوق وعليه واجبات. 

وهذه الثنائية وهذا الحيز الخاص بالإنسان ينمحي تماماً في الرؤية المادية للوجود، ولا يعني هذا أن الجميع ملحد بالمعنى الفلسفي، إلا أن الله ضمن الرؤية المادية ليس شيء اخر غير القوانين الطبيعية الحاكمة على الوجود من الازل، فالمبدأ عندهم هو القانون الطبيعي أو قانون الحركة أو القوانين العلمية بدون أن يعتقد بان ذلك إله، وبذلك نتفهم الخطاب الرافض لأي لغة روحية أو مثالية، ويصطلح عبد الله المسيري على هذا التصور بالعلمانية الشاملة التي تدور في إطار المرجعية المادية فقط، حيث تفسر كل شيء بما فيه الظواهر الإنسانية تفسيراً مادياً بحيث لا تفرق بين الإنسان والطبيعة بل هما مادة واحدة يخضعان للقانون الطبيعي نفسه دون الرجوع إلى أي قيمة أخلاقية أو معرفية، ومن هنا نفهم قول هتلر عندما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة فالطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة. 

وعليه عندما تتحدث الثقافة الغربية عن الإنسان كمبدأ أساسي إنما تتحدث عن الإنسان الطبيعي ذو البعد الواحد وهو البعد المادي، أي الإنسان الخارج عن حدود القيم الأخلاقية، ولذلك تنظر العلوم الإنسانية الغربية للإنسان بوصفه وظائف بيولوجية ومادية، فهو مجرد نظام طبيعي كغيره يخضع للحتمية المادية، الأمر الذي يجعلنا نتأكد من ضبابية الشعارات الإنسانية التي تتبنها الثقافة الغربية، فكيف يمكننا أن نتفهم قيمة إنسانية والإنسان ليس شيئاً خارجاً عن المادة العمياء؟، فعدم الاعتراف بالروح الإنسانية المرتبطة بمصدر الكمال الغيبي يلا يبقي أي مبرر لوجود قيم أو فضائل أو أخلاق. فالحرية كقيمة إنسانية والدمقراطية والعلمانية والعقلنة والاسس العلمية كل ذلك جاء في إطار النظرة الطبيعية والمادية للإنسان، حيث تتحرك كلها في إطار تكريس الجانب المادي والأناني في الإنسان، ومن هنا تختلف مقاربتنا لهذه القيم عندما ننظر إليها كموحدين ومؤمنين بالله.

فإذا كان الإنسان في نظر الثقافة الغربية هو الإنسان الطبيعي الذي لا يختلف عن بقية مكونات الطبيعة، وإذا كانت الرغبة والشهوة هي جزء اصيل واساسي في الإنسان فمن الطبيعي ان تعمل الثقافة الغربية على هذا الجانب، صحيح هناك فلسفات نادت بقيمة الإنسان إلا انها صيحات تعبر عن صحوة عابرة للضمير منفصلة عن السياق العام للحداثة الغربية، فإي محاولة للبحث عن قيمة للإنسان تصبح محاولة فاشلة ما لم تنطلق تلك المحاولة من فهم حقيقي للإنسان، وهذا الفهم لا يمكن أن يكتمل مالم يرتبط الإنسان بالله، لأنه هو المصدر الوحيد للقيم التي تجعل الإنسان يتجاوز البعد المادي، فالقيمة بوصفها حقائق مطلقة لا وجود لها في المادية، واحساس الإنسان وشعوره بهذه القيم يدل بشكل قاطع على وجود طبيعة أخرى في الإنسان مغايرة للطبيعة المادية، وفلسفة الرسالة الإسلامية تقوم اساساً على تذكير الإنسان بهذه البعد وتنبيهه بشكل دائم للالتفات إلى تطلعات الروح، والثقافة الغربية بوصفها ترتكز على الفلسفة المادية لا يمكنها الاعتراف بالجانب الروحي وبالتالي لا يمكنها أن تتبنى قيمة حقيقية للإنسان. ومن هنا لم تنتج الثقافة الغربية إلا نوعين من البشر، الأول: الإنسان الاقتصادي في صورته الرأسمالية، وهو انسان (آدم سميث) الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والنفعية والسعي لتراكم الثروة والربح. أو في صورته الاشتراكية وهو انسان (ماركس) المحكوم بعلاقات الإنتاج وهو إنسان منفصل تماماً عن القيمة حيث لا تحركه إلا الدوافع الاقتصادية. والثاني: الإنسان الجسماني الشهواني، وهو إنسان (فرويد) والذي تحركه دوافع اللذة والشهوة فقط، وهو إنسان مستهلك يعيش حالة البزخ والترف في حالة من التجرد التام عن القيم الإنسانية. وفي كلا النوعين لا وجود للروح وما تحمله من قيم واخلاق.