هل المعرفة الإنسانية نسبية بالضرورة؟ 

    10 – من الأسس القائمة عليها العلمانية هو «إثبات» أنه لا توجد حقائق «علم» في العقائد والمبادئ فكل المبادئ الدينية والعلمانية مشكوك في صحتها فما جوابكم؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

يرتكز هذا الكلام على كون المعرفة الإنسانية معرفة نسبية بالضرورة، ويرجع ذلك إلى التصور المعرفي الذي تنتمي له مدارس ما بعد الحداثة، والتفصيل في هذه المدارس والكشف عن الجذور الفلسفية للنسبية يتطلب مساحة واسعة، ولكن بشكل مختصر يمكننا تقريب الأمر من خلال الإشارة إلى التباين بين النظرة الموضوعية والنظرة الذاتية فيما يتعلق بالمعرفة الإنسانية. 

 

بشكل عام نجد أن التأسيس الفلسفي للنسبية يرتكز على التفريق بين المعرفة وبين موضوعاتها الخارجية، أي على التفريق بين ما هو نسبي تبعاً لحدود التجربة الإنسانية، وما هو خارج عن حدود تلك التجربة أي الشيء في ذاته.والتجربة هنا ليست بالمعنى العلمي؛ وإنما هي التجربة الشعورية التي يعيشها الإنسان ضمن المعطى الحياتي، وما يؤثر فيها من بعد اجتماعي، وتاريخي، وسياسي، أو بمعنى عام: هي الفعل الشعوري للحياة.

 

وأما الشيء في ذاته: فبما أنه خارج حدود التجربة فهو خارج أيضاً عن حدود المعرفة. ومن هنا يصبح التأسيس المعرفي لهذا الاتجاه قائماً على جعل المعرفة ضمن آفاق متعددة بتعدد التجارب. وبالتالي انتصرت الفلسفة النسبية للذات وأهملت الموضوع المراد معرفته، وعندها تصبح المعرفة مجرد تجربة نفسية واحساس داخلي أقرب للانطباعية، وعند هذه النقطة تفترق المعرفة البشرية، بين معرفة واقعية موضوعية، وأخرى معرفة ذاتية نسبية. 

 

وهذه المفارقة بين الموضوعية والذاتية تخلق تمايزاً في كل أنماط المعرفة، بحيث تنعكس على أي تقييم في أي باب من المعارف، طالما أصبح النظر إلى العمل المعرفي من زاويتين بينهما نسبة كبيرة من التباين، فمثلاً موضوع (الإيمان بالله) إذا نظر إليه من البعد الذاتي يتحول إلى مجرد شعور ذاتي غير كاشف عن حقيقة خارجية تسمى بـ(الله). وبذلك يتعدد (الله) ضمن تصورات تختلف باختلاف أصحابها، أما النظرة الموضوعية فعكسها؛ لأنها ترد ذلك الإيمان إلى وجود حقيقة ومبدأ واحد، له وجود خارج شعور الإنسان، لا يتغير بحسب الانطباعات الذاتية للأشخاص. 

 

وفي علم الأخلاق فإن مقياس الخير والشر في المبدأ الذاتي يرجع إلى اعتبارات شخصية لا تعترف بأي معيارية تتجاوز الاعتبار الذاتي للشخص، أما الموضوعية فإنها تؤمن بوجود معايير تميز بينهما ويمكن الوصول إليها.

 

وفي علم الجمال تذهب الذاتية إلى أن الجمال مجرد ذوق شخصي وانطباع ذاتي تخلقه النفس عند مواجهة الشيء، في حين أن الموضوعية تدعو إلى الوصول إلى قواعد تشكل أساساً للتمييز بين الجميل والقبيح. 

 

وبخصوص نظرية المعرفة فإن الذاتية والموضوعية يشكلان مفارقة أساسية لأي بناء معرفي، حيث ترى الذاتية أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا يرتكز على أي أساس موضوعي، فليس هناك ثمة حقيقة مطلقة، وكل ما يتصور كونه حقيقة فهو مجرد اعتبارات ذاتية محضة. وهذا بخلاف النظرة الموضوعية التي ترى إمكانية التفرقة طالما كانت الحقيقة تعبيراً عن الموضوع الخارجي. وهكذا تتدخل هذه المفارقة في كل ضروب المعرفة.

 

وفي حقيقة الأمر: إن جدلية الذات والموضوع لم تُصوَّر إلا في إطار تضخيم الذات على حساب الموضوع، أو تضخيم الموضوع وإهمال الذات، ولم يكن هناك سعي لإيجاد توازن بينهما، والتوازن الذي يمكن الإشارة له هنا هو النظر للإنسان لا بوصفه عقلاً مجرداً ولا بوصفه مجموعة من التراكيب النفسية، وإنما الإنسان كحقيقة واحدة مركبة من عقل وشهوة، وتركيز البحث في العلاقة بين الأثنين (العقل والشهوى أو الروح والمادة) وهو الكفيل بفتح الطريق لإيجاد نظرة واقعية للإنسان ومن ثم التعرف على طبيعة المعرفة عنده، وفي هذا الاتجاه نجد مادة واسعة من آيات الذكر الحكيم يمكن بالتدبر فيها اكتشاف موقف القرآن من هذا البعد المنهجي والمعرفي.

 

وفي واقع الأمر أن البحث عن العقل من جهة، والبحث عن الهوى من جهة أخرى، هو البحث الذي يقود إلى تحديد نقاط القوة والضعف في الإنسان، وبالتالي بحث عن مصادر الحق والباطل؛ فالعقل هو مصدر القوة الذي يسمو بالإنسان ويتجاوز به كل ضغوط المادة، والهوى هو مصدر الضعف الذي يجعل الإنسان منفعلاً بمحيطه ومتأثراً بظروفه المادية. وقد اهتم القرآن بكلا البعدين؛ ففي حين أمر بالعقل والتعقل، نهى عن الهوى والشهوات.

 

الخلاصة: من يرى أن المعرفة مجرد انطباع ذاتي لابد أن يقول بالنسبية، وبالتالي لا يعترف بالحقائق الموضوعية، بينما من يعتقد أن الحقائق لها موضعية خارجية مستقلة عن الذات الإنسانية لا يعترف بالنسبية، والحل الإسلامي لهذا الجدل القائم هو أن الإسلام اعترف بخطورة تدخل النفس والاهواء في المعرفة وحذر منها حتى يتمكن الإنسان من رؤية الواقع كما هو لا كما يحب الإنسان أن يراه.

 

وبالتالي إشكالية (الذاتية) إشكالية حقيقية، ولكنها ليست حتمية، فلو كانت حتمية لما كان القرآن شجع على مخالفتها، ولما حاسب العباد على الانقياد للشهوات والأهواء، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}ص26. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}النازعات40 {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}الكهف28 {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}طه16. وعشرات الآيات التي تؤكد ضرورة تجنب الاهواء. 

 

وعليه فإن الذاتية النابعة من الهوى ليست حتمية بل مسؤولية الإنسان المعرفية هو التجرد للحقيقة حتى لو كانت على حساب مصالحه الشخصية.