ماذا يتوقّعُ الإنسانُ منَ الدّين؟  

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

منَ المؤكّدِ أنَّ الإجابةَ تتوقّفُ على فهمِ السّؤالِ ووضعِه في سياقِه المعرفي، والذي يقودُنا إلى التدقيقِ في السّؤالِ هوَ إعتقادُ البعضِ أنَّ دينَ كلِّ إنسانٍ ما يتوقّعُه منَ الدّين، وبذلكَ لا يكونُ للدّينِ مفهومٌ واضحٌ ومنضبط وإنّما يتباينُ بقدرِ توقّعاتِ الجميعِ، فمفهومُ الدّينِ بهذا المعنى يتكوّنُ لدى الإنسانِ بحسبِ موقعِه المعرفي أو بحسبِ ما يحملهُ مِن أفقٍ ثقافي، وبذلكَ يصبحُ الدّينُ مجرّدَ انطباعٍ ذاتيّ يختلفُ مِن توقّع إنسانٍ لآخر، وهذا خلافُ الاعتقادِ بأنَّ الدّينَ هوَ حقائقُ موضوعيّةٌ كاشفة عن حقائقَ واقعيّةٍ سواءٌ توقّعَها الإنسانُ أو لم يتوقّعها، فالإنسانُ قبلَ أن يكونَ إبنَ البيئةِ الاجتماعيّةِ والثقافيّة وقبلَ أن يتشكّلَ وعيهُ المعرفيُّ بحسبِ تلكَ البيئةِ لابدَّ أن يُسلّمَ بوجودِ حقائقَ سابقةٍ لوجودِه، وهذهِ الحقائقُ لا يمكنُ أن تتبدّلَ بحسبِ انطباعاتِه ومزاجهِ الشّخصي، فالإنسانُ جزءٌ مِن نظامٍ وجوديٍّ لهُ سننٌ وغاياتٌ لا يمكنُ أن تتأثّرَ بالموقعِ المعرفيّ للإنسان، وليسَ أمامَ الإنسانِ إلّا التعرّفُ عليها كما هيَ ومِن ثمَّ التأقلمُ معها سلوكيّاً وحضاريّاً، والدينُ مِن هذا المنظورِ هوَ التعبيرُ عن ذلكَ النّظامِ سُنناً وغاياتٍ وقيماً وتشريعاتٍ، والحقيقةُ الأولى التي يجبُ الاعترافُ بها أنَّ لهذا الوجودِ خالقاً ولهذا الخالقِ إرادةً وغايةً وحِكمة، وأنّ رسالةَ الخالقِ للإنسانِ هي الكاشفةُ عن تلكَ الإرادةِ والمبيّنةِ لتلكَ الغايةِ والحِكمة، وعلى الإنسانِ التعرّفُ عليها كما هيَ ومِن ثمَّ التأقلمُ معها، قالَ تعالى: (هَل أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهرِ لَم يَكُن شَيئًا مَّذكُورًا) فالمرتكزُ الذي يبني عليه الإنسانُ وعيَه هوَ أنّهُ لم يكُن ثمَّ كان، الأمرُ الذي يقودُه حتماً للتعرّفِ على مَن أوجدَه بعدَ أن لم يكُن موجوداً، ولذا جاءَ بعدَ هذهِ الآيةِ مباشرةً قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن نُّطفَةٍ أَمشَاجٍ نَّبتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) والإشارةُ إلى كونِه سميعاً بصيراً تؤسّسُ لدورِ الإنسانِ في معرفةِ الحقائقِ ومِن ثمَّ مسؤوليّته تجاهَ تلكَ الحقائق، ولذا جاءَ بعدَها مباشرةً قوله تعالى: (إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) فالذي يسلّمُ بالحقائقِ ويمضى في حياتِه على وفقِها يكونُ شاكراً أمّا الذي يريدُ منَ الوجودِ أن يمضي بحسبِ هواهُ يكونُ كافراً ومُنكراً للحقائقِ، ومِن هُنا منَ الطبيعيّ أن يكونَ هناكَ جزاءٌ يتناسبُ مع خياراتِ كلِّ إنسان، ولذا جاءَت الآيةُ بعدَها بقولِه تعالى: (إِنَّا أَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الأَبرَارَ يَشرَبُونَ مِن كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).  

وعليهِ فإنَّ الدّينَ هوَ رسالةُ اللهِ الكاشفةُ عن فلسفةِ الوجودِ وحقائقِ الخلقةِ وغاياتِه النهائيّةِ، والإنسانُ المُتديّنُ هو الذي يكيّفُ حياتَه على أساسِ تلكَ الحقائقِ مِن غيرِ أن يفرضَ توقّعاتِه الخاصّة ومِن ثمَّ يؤوّلُ الدّينُ بما يخدمُ تلكَ التوقّعاتِ، ومِن هُنا فإنَّ السّؤالَ عن ماذا نتوقّعُ منَ الدّين؟ لا يمكنُ قبوله لأنَّ التّسليمَ به تسليمٌ بكونِ الدّينِ حالةً ذاتيّةً مُتباينة مِن شخصٍ لآخر بينَما الدّينُ حقائقُ موضوعيّةٌ يجبُ التعرّفُ عليها كما هيَ من دونِ البحثِ عن التوقّعاتِ الشخصيّة، وهذا لا يكونُ إلّا بالتّسليمِ للحقِّ والانقطاعِ التامِّ له، وقد لخّصَ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام) هذه الحقيقةَ في أروعِ العباراتِ بقولِه: (لَاَنسُبَنَّ الإِسلاَمَ نِسبَةً لَم يَنسُبهَا أَحَدٌ قَبلِي. الإِسلاَمُ هُوَ التَّسلِيمُ، وَالتَّسلِيمُ هُوَ اليَقِينُ، وَاليَقِينُ هُوَ التَّصدِيقُ، وَالتَّصدِيقُ هُوَ الإِقرَارُ، وَالإِقرَارُ هُوَ الأَدَاءُ، وَالأَدَاءُ هَوَ العَمَلُ) فقد أكّدَ سلامُ اللهِ عليه على أنَّ الدّينَ حقائقُ واقعيّةٌ تحتاجُ إلى التسليمِ لها، وانّ التّسليمَ لا يتحقّقُ إلّا بعدَ اليقينِ بوجودِها، وانّ اليقينَ بها يحتاجُ إلى التّصديقِ بها كما هيَ مِن دونِ تأويلٍ أو تحريف، وهذا لا يكونُ إلّا بالإقرارِ بما للحقائقِ مِن حقيقةٍ، وكلُّ ذلكَ يقودُ الإنسانَ إلى التكيّفِ معها والعملِ بحسبِ مُقتضاها.