مالذي يمنع المسيحيّين المؤمنين بولاية أهل البيت من اعتناق الإسلام؟

المسيحيّون الذينَ يؤمنونَ بمذهب أهل البيت ويقرّونَ بولاية الأئمّةِ الاثني عشر ويقيمونَ الشعائرويزورونَ المقامات، فماالذي يمنعهم من اعتناق الإسلام؟

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

يتحدّثُ السّائلُ عَن بعضِ الحالاتِ التي أظهرَ فيها بعضُ المسيحيّينَ تفاعلاً مع قضايا أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، سواءٌ كانَ ذلكَ مِن خلالِ ما سطّرَهُ بعضُ مُثقّفيهم ومُفكّريهم مِن كتاباتٍ وأشعار أو مِن خلالِ التداخلِ الاجتماعي ومشاركتِهم للشيعةِ في بعضِ الشعائرِ والمراسِم، وليسَ ذلكَ بالضرورةِ أن يكونَ في إطارِ التحوّلِ الإيمانيّ والعقائدي، وإنّما يكفي فيهِ أن يعيشَ المسيحيُّ الحضارةَ الإسلاميّةَ روحيّاً وإنسانيّاً، فالإنسانُ الحرُّ عندَما يبحثُ عنِ القيم ِلا تمنعُه الحواجزُ المذهبيّةُ والدينيّة، وإنّما يحلّقُ بروحِه بعيداً كالفراشةِ التي لا تكتفي بزهرةٍ واحدةٍ في الحقول، وأهلُ البيتِ (عليهم السلام) قد جسّدوا بأفعالِهم ومواقفِهم كلَّ الفضائلِ والمُثل، وبالضرورةِ مَن يحبُّ تلكَ الفضائل سوفَ يُغرَمُ بحبّهم سلامُ اللهِ عليهم حتّى لو كانَ على غيرِ دينِهم، وليسَ مِن حقّنا أن نشترطَ عليهم أن يؤمنوا كما نؤمنُ أو لا نتفهّمَ حبّهم لأهلِ البيتِ (عليهم السلام)، وعليهِ لم يتعرّف هؤلاءِ على أهلِ البيتِ (عليهم السلام) مِن خلالِ جدليّةِ المسيحيّةِ والإسلام وإنّما تعرّفوا عليهم بوصفِهم قيماً إنسانيّة، أمّا ما يمنعُهم مِن أن يكونوا مُسلمينَ وموالينَ لأهلِ البيت فهذا يُبحثُ عنهُ في إطارِ البحثِ اللّاهوتي.   

ولكي نقفَ على الدوافعِ التي تقفُ خلفَ هذا الحبِّ المسيحيّ لأهلِ البيتِ (عليهم السّلام) لابدَّ منَ الرّجوعِ إلى كلماتِ بعضِهم، وحينَها سوفَ نكتشفُ أنَّ حبَّ القيمِ والمُثل هوَ الذي دعاهُم لذلكَ، ففي كتابِ (علاقةِ المسيحيّينَ بأهلِ بيتِ النبي) لجبران خليل جبران يقولُ عن الإمامِ عليّ (عليه السّلام) في الصّفحة 108: إنَّ علياً بنَ أبي طالب استُشهدَ لعظمتِه، وإنَّ العربَ لم يُدركوا حقيقةَ مقامِه وعظمتِه إلى أن أدركَ جيرانُهم الإيرانيّونَ الفارقَ بينَ الحصى والجوهر. لقد رحلَ عنِ الدّنيا قبلَ أن يؤدّي رسالتَه، لأنَّ جميعَ رسلِ اللهِ (الذينَ لا يعرفُ أحدٌ قيمتَهم وقدرَهم) جاؤوا في الزّمانِ والمكانِ غيرِ زمانِهم ومكانِهم وبينَ أناسٍ ليسوا أهلاً لهُم!"  

 ويقولُ بولس سلامة صاحبُ ملحمةِ الغديرِ ومقتلِ الإمامِ الحُسين في كتابِه (قلائدُ الإنشاد) صفحة 122: إنَّ الحقَّ أنزلَ بي أنا المسيحي رعشةً بحيثُ اعتبرتُ علويّاً مِن شدّةِ عِشقي به! وعلى الرّغمِ من أنَّ عليّاً لم يكُن نبيّاً، لكنّهُ كانَت لهُ أخلاقُ النبوّة. اِشهدي أيّتُها السّماء وأقرّي أيّتها الأرضُ بأنّي أحبُّ عليّاً. لا تقولوا أنَّ الشيعةَ يناصرونَ عليّاً، لأنَّ هناكَ روحاً شيعيّةً في داخلِ كلِّ إنسانٍ مُنصف"  

ينظمُ ذلكَ في رائعتِه عندَما يقول:  

لا تَقُـل شيعةٌ هواةُ علــٍّي إنَّ كلَّ منصفٍ شيعـيـًا  

هُوَ فخرُ التاريخِ لا فخرَ شعبٍ يَصطَفِيهِ ويَدعِيهِ وَلِـيَّـًا  

ذِكرُه إن عَرى وجومَ الليالي شقّ في فلقة الصباح نَجيّا  

يا عليَّ العصورِ هذا بياني صِغتُ فيه وحيَ الإمام جليّا  

يا أميرَ البيانِ هذا وفائي أحمَدُ اللهَ أن خُلِقتُ وفيّا  

يا أميرَ الإسلام حَسبيَ فخراً أنّني منكَ مالئٌ أصغَرَيّا  

جَلجَلَ الحقُ في المسيحيّ حتّى صَارَ مِن فَرطِ حُبِّهِ عَلَويّـًا  

أنا مَـن يَعشقُ البطولةَ والإلهامَ والعدلَ والخُلقَ الرَضِيّـَا  

فإذا لم يكُن عَلــيٌّ نَبيّـًـا فَلَقَد كانَ خُلُقَهُ نَبوّيّــَا  

أنتَ ربٌّ للعالمـينَ إلهــي فَأَنِلهُم حَنَانَكَ الأَبَويـّـًا  

وأَنِلني ثوابَ ما سَطـَـرَت كَفِّي فهاجَ الدموع في مُقلتيّا  

سِفرُ خير الأنامِ مِن بعدِ طَـهَ مَا رَأَى الكونُ مِثلَهُ آَدميـًا  

يا سماءُ اشهَدِي ويَا أرضُ قَرِّي واخشَعِي إنَني ذَكَرتُ عَليِّـًا  

 ويقولُ نجلُه رشاد سلامة: عدتُه فجرَ ذاتِ يومٍ وهوَ طريحُ فراشِ المرضِ لسنواتٍ وشاهدتُ بأنَّ وسادتَه قد ابتلَّت، ظننتُ أنّهُ صبَّ كأسَ الماء، لكنّي لم أشاهِد كأسَ الماءِ بجانبِه، سألتُ عن السّببِ فقالَ: لقد وصلتُ ليلةَ أمس إلى فصلِ اِستشهادِ الحُسينِ بنِ علي وقد كتبتُ شعراً حتّى الصّباح عَن مقتلِ كربلاء. وهوَ يقولُ "أنا المسيحيُّ أبكاني الحُسين".   

وأفضلُ ما يكونُ إجابةً على هذا السّؤالِ هوَ ما كتبُه بولس سلامة نفسُه على مَن لا يتفهّمُ حبَّهُ المُفرطَ لأهلِ البيتِ وهوَ مسيحيٌّ، حيثُ يقول: (ورُبَّ معترضٍ قال: ما بالُ هذا المسيحيّ يتصدّى لمصلحةٍ إسلاميّةٍ بحتة؟ أجَل، إنّني مسيحيٌّ، ولكنَّ التّاريخَ مشاعٌ للعالمين.  

أجل إنّي مسيحيٌّ ينظرُ مِن أفقٍ رحبٍ لا مِن كُوّةٍ ضيّقةٍ، فيرى في غاندي الوثنيّ قدّيساً، مسيحيٌّ يرى (الخَلقُ كلَّهم عيالُ الله)، ويرى أن (لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتقوى).  

مسيحيٌّ ينحني أمامَ عظمةِ رجلٍ يهتفُ باسمه مئاتُ الملايين منَ الناسِ [أي النبيّ المُصطفى صلّى اللهُ عليه وآله]، رجلٌ ليسَ في مواليد حوّاءَ أعظمُ منه شأناً، وأبعدُ أثَراً، وأخلدُ ذِكراً، رجلٌ أطلَّ مِن غياهبِ الجاهليّةِ فأطلَّت معهُ

دُنيا أظلَّها بلواءٍ مجيد، كُتبَ عليهِ بأحرفٍ مِن نور: لا إلهَ إلاَّ الله! اللهُ أكبر!

قد يقول قائل: ولِمَ آثرتَ عليّاً عليه السلام دون سواه من أصحاب محمّدٍ صلّى الله عليه وآله بهذه الملحمة؟ ولا أجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات، فالملحمة كلّها جواب عليه، وسترى في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: (رضيَ الله عنه، وكرّم الله وجهَه، وعليه السلام)، ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثّلون بحِكَمه ويخشعون لتقواه، ويتمثّل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقُنوتاً، وينظر إليه المفكّر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء، ويتطلع إليه الكاتب الألمعيّ فيأتمّ ببيانه، ويعتمدهُ الفقيه المدرك فيسترشدُ بأحكامه.  

أمّا الخطيب، فحَسْبه أن يقفَ على السفح، ويرفعَ الرأس إلى هذا الطَّود، لتنهلّ عليه الآيات من عَلِ، وينطلق لسانه بالكلام العربيِّ المبين الذي رسّخ قواعدَه أبو الحسن، إذ دفعها الى أبي الأسود الدُّؤَليّ فقال له: أُنْحُ هذا النَّحْو. وكان علم النحو.  

ويقرأ الجبان سيرة عليٍّ عليه السلام فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء، ولم تَظِلَّ السماء، أشجعَ منِ ابن أبي طالب، فعلى ذلك الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يومَ كان وليداً، فعليٌّ عليه السلام هو بطل: بدرٍ وخيبر والخندق وحُنَين ووادي الرمل والطائف واليمن، وهو المنتصر في: صِفِّين، ويوم الجمل، والنهروان، والدافع عن الرسول يومَ أُحد، وهو قَيدوم السرايا ولواء المغازي.  

وأعجبُ من بطولته الجسدية بطولتُه النفسيّة، فلم يُرَ أصبرُ منه على المكارهِ، إذ كانت حياتهُ موصولةَ الآلام منذ فتحَ عينَيه على النور في الكعبةِ حتّى أغمضَهما على الحقّ في مسجد الكوفة.  

وبعد، فَلِم تُسائِلُني بأبي الحسن؟ أوَ لَم تَقم في خلال العصور فئات من الناس تُؤلّه الرجل؟ ولا ريب أنّها الضلالة الكبرى، ولكنّها ضلالة تَدلُّك على الحقّ، إذ تدلّك على مبلغ افتتانِ الناس بهذه الشخصيّة العظمى.  

ولم يستطع خصومُ عليٍّ عليه السلام أن يأخذوا عليه مَأخذاً، فاتّهَموهُ بالتشدّد في إحقاق الحقّ، أي إنّهم شَكَوا كثرة فضله فأرادوهُ دنيويّاً يماري ويداري، وأراد نفسه رَوحانياً رفيعاً يستميتُ في سبيلِ العدل، لا تأخذهُ في سبيلِ الله هوادة. وإنما الغضبة للحقّ ثورة النفوس القدسيّة التي يؤلمها أن ترى عِوَجاً، أوَ لم يغضب السيّد المسيح وهو الذروة في الوداعة والحِلم، يومَ دخل الهيكل فوجد فيه باعةَ الحَمام والصيارف المُرابين، فأخذ بيده السّوط وقلب موائدهم وطردهم قائلاً: بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارةً للصوص!  

بقيَ لك بعد هذا أن تحسَبَني شيعيّاً، فإذا كان التشيّع تنقّصاً لأشخاص أو بغضاً لفئات، أو تهوّراً في المزالق الخطرة، فلستُ كذلك. أمّا إذا كان التشيّع حبّاً لعلّي عليه السلام وأهل البيتِ الطيّبين الأكرمين، وثورةً على الظلم وتوجّعاً لِما حلّ بالحسين عليه السلام وما نزلَ بأولاده من النكباتِ في مطاوي التاريخ، فإنني شيعيّ.  

فيا أبا الحسن، ماذا أقولُ فيك وقد قالَ الكُتّاب في المتنبي: إنّه مالئُ الدنيا وشاغلُ الناس، وإن هو إلاّ شاعر له حفنة من الدُّرّ إزاء تلالٍ من الحجارة! وما شخصيّتهُ حيال عظمتك إلاّ مَدَرَة على النيل خجلى مِن عظمة الأهرام.  

حقّاً، إنّ البيان لَيَسِفّ، وإنّ شِعري لَحصاة في ساحلك يا أميرَ الكلام، ولكنّها حصاة مخضوبة بدم الحسين عليه السلام الغالي، فتقبّل هذه الملحمة، وانظر من رفارفِ الخُلد إلى عاجزٍ شرّف قلمَه بذِكرك.