كيفَ نجمعُ بينَ ما تطرحهُ الدياناتُ الإبراهيميّةُ في عُمرِ البشريّةِ وبينَ ما تثبتهُ العلومُ الحديثةُ وعلمِ الآثار

كيفَ نجمعُ بينَ ما تطرحهُ الدياناتُ الإبراهيميّةُ في عُمرِ البشريّةِ وبينَ ما تثبتهُ العلومُ الحديثةُ كالأنثربولوجيا وعلمِ الآثار، فنرى السيّدَ الطباطبائيَّ يرتضي ما تقرُّهُ التوراةُ في ذلكَ وأنَّ عُمرَ الإنسانِ على الأرضِ لا يتجاوزُ التسعةَ آلافِ سنةٍ، بينما تتكلّمُ العلومُ الحديثةُ عَن أنَّ عُمرَ السّلالاتِ البشريّةِ قد يصلُ إلى مليونينِ ونصف منَ السّنين؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

يبدو أنَّ الإصرارَ على وجودِ الإنسانِ منذُ ملايينِ السّنين معَ قلّةِ ما يدعمُه مِن وثائقَ ودراساتٍ يعودُ إلى محاولةِ إثباتِ نظريّةِ داروين التطوريّة، فكونُ تاريخِ الإنسانِ يبتدئُ بآدمَ لا يساعدُ في إثباتِ تلكَ النظريّة، فلابدَّ مِن وجودِ ملايينِ السّنين التي تسمحُ بعمليّةِ التطوّرِ حتّى الوصولِ إلى إنسانِ آدمَ الذي نعرفه، الأمرُ الذي يتطلّبُ وجودَ مراحلَ مُمتدّةٍ يكونُ فيها الإنسانُ موجوداً ومتطوّراً حتّى لحظةِ الوصولِ إلى مرحلةِ آدم، وعليهِ فإنَّ كلَّ ما هوَ متوفّرٌ مِن معلوماتٍ عنِ الإنسانِ ما قبلَ آدم لا تكفي لتكوينِ رؤيةٍ علميّةٍ مُتكاملةٍ، وإنّما هيَ مُجرّدُ تصوّراتٍ تنقصُها الوثائقُ القطعيّة، فقد جاءَ في الموسوعةِ العربيّة: اكتُشفَت أحافيرُ زعموا أنّها لأناسٍ مُنقرضينَ كإنسانِ ـ بكّين و إنسانِ جاوه و إنسانِ نياندرتال، وإنسان بلتداون ـ وغيرِها، وكلّها تدلُّ على أنَّ الإنسانَ القديمَ كانَ أقلَّ رُقِيّاً منَ الإنسانِ المُعاصر، وهكذا الحالُ لجميعِ الكائناتِ، إذ تدلُّ الأحافيرُ ـ في رأي التطوّريّينَ ـ على أنّها تطوّرَت مِن كائناتٍ أقلّ رقيّاً، ولكن تبيّنَ بعدَ التدقيقِ في تلكَ الأحافيرِ أنَّ الوثائقَ التي جُمعَت في هذا المجالِ لم تكُن كافيةً ولا دقيقةً، ويعترفُ داروين نفسُه بهذا حينَ يقول: على الرّغمِ مِن أهمّيّةِ الأحافيرِ دليلاً على حدوثِ التطوّر، فإنَّ السجلَّ الجيولوجيَّ أشبهُ ما يكونُ بكتابٍ فُقدَت بعضُ صفحاتِه ولم يبقَ منهُ سِوى صفحاتٍ قليلةٍ مُتناثرة، وفي تلكَ الصّفحاتِ الباقيةِ لم يبقَ إلّا كلماتٌ قليلةٌ في كلِّ صفحة.   

ويقولُ الأستاذُ هارون يحيى في كتابِ التضحيةِ عندَ الحيوان: سمّى الداروينيّونَ الجدَّ الأعلى للإنسانِ باسمِ قردِ الجنوبِ، وفي الحقيقةِ لم تكُن هذهِ المخلوقاتُ إلّا نوعاً منَ القرودِ المُنقرضةِ، وثبتَ ذلكَ علميّاً عَن طريقِ الأبحاثِ التي أجراها باحثانِ مشهورانِ في علمِ التشريحِ وهُما الأميركيُّ تشارلس أوكسنارد والبريطانيُّ اللورد سوللي زوكرمان، وأثبتا أنَّ هذا النوعَ منَ الكائناتِ الحيّةِ لا يمتُّ بأيّةِ صلةٍ للإنسان.  

وعليهِ هناكَ خلافٌ كبيرٌ بينَ العُلماءِ المُناصرينَ للتطوّرِ أنفسِهم، حيثُ لم يُجمعوا على رؤيةٍ واحدةٍ تؤكّدُ وجودَ إنسانٍ بدائيٍّ قبلَ الإنسانِ الحالي، فالنظريّةُ الخاصّةُ بنشوءِ الإنسانِ مِن مخلوقٍ نصفهُ قردٌ ونصفهُ الآخرُ إنسان ما هيَ إلّا نظرةٌ خياليّةٌ مُستندةٌ إلى نوعٍ منَ الدعايةِ المُضلّلةِ لجعلِها صحيحةً في دُنيا العلم، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّ هذهِ النظريّةَ لا تستندُ إلى أيّ دليلٍ علميٍّ يثبتُ صحّتَها أو صحّةَ فرضيّتِها.  

وقد توصّلَ لهذهِ الحقيقةِ ـ اللورد سوللي زاكرمان ـ الذي أجرى أبحاثاً على مُتحجّراتِ ـ أوسترالوبيثيكوس ـ ولمدّةِ خمسَ عشرةَ سنةٍ، وهذا الباحثُ يُعتبرُ مِن أشهرِ علماءِ المُتحجّراتِ في بريطانيا في نظريّةِ التطوّرِ فبالرّغمِ مِن إيمانِه بنظريّةِ التطوّرِ اعترفَ بعدَ أبحاثِه بأنّهُ لا توجدُ سلسلةٌ تطوريّةٌ تمتدُّ منَ الكائناتِ الشبيهةِ بالقرودِ إلى إنسانِنا الحالي.   

ولابدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ ثبوتَ ذلكَ لا يتعارضُ معَ الرّسالاتِ الإبراهيميّة، فالإنسانُ المقصودُ في هذه الرّسالاتِ هو إنسانُ آدمَ وبالتالي لا توثّقُ الرسالاتُ لبدايةِ الحياةِ على الأرضِ وإنّما تتعاملُ معَ آدمَ وذرّيّتِه بوصفِهم مُكلّفينَ بتعاليمَ مُحدّدةٍ، فمنَ الطبيعيّ أن يتركزَ خطابُ تلكَ الرّسالاتِ على آدمَ وذرّيّتِه، وبذلكَ لا تعارضَ بينَ وصفِ الرّسالاتِ لآدمَ الذي نزلَ منَ الجنّةِ وبينَ وجودِ سلالاتٍ أخرى منَ البشرِ قبلَ نزولِه إلى الأرضِ في حالِ ثبوتِها، ومِن هُنا نجدُ أنَّ مَن يدعمُ نظريّةَ التطوّرِ مِن أصحابِ الدياناتِ يقولونَ أنَّ آدمَ هوَ اللحظةُ التي حصلَ فيها اكتمالُ التطوّرِ ونفخةُ الرّوحِ الإلهيّة ومنهُ بدأ التاريخُ الحقيقيُّ للإنسانِ الذي نعرفهُ اليوم، ويمكنُ للبعضِ الاستدلالُ على ذلكَ دينيّاً مِن خلالِ بعضِ الرواياتِ التي تقولُ بوجودِ آدمَ قبل آدمِنا كما نُسبَ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) (إنَّ اللهَ خلقَ ألفَ آدم قبلَ آدمِكم)، ومعَ وجودِ مثلِ هذهِ الرّواياتِ لا يتمكّنُ الباحثُ منَ الوصولِ إلى نتيجةٍ قطعيّة، فهوَ منَ الأمورِ الغيبيّةِ التي لا يصلُ فيها الإنسانُ إلى اليقينِ إلاّ بعدَ تضافرِ الأدلّةِ وظهورِها بشكلٍ واضحٍ لا لبسَ فيه، والمهمُّ في الأمرِ هو نفيُ هذا التعارضِ بينَ تاريخِ آدمَ أبي البشرِ

والأنبياءِ وبينَ وجودِ سلالاتٍ أخرى منَ البشرِ قبلَ آدم معَ فرضِ ثبوتِها.