هل يمكنُ أن تذكروا لنا أهمَّ ما يميّزُ المدرسةَ التفكيكيّةَ والتي أسّسَها الشيخُ مهدي الأصفهاني في إيران، وبماذا تختلفُ عَن مناهجِ الحوزة؟  

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

في طولِ التاريخِ الشيعي كانَ هناكَ اتّجاهٌ مناهضٌ للفكرِ الفلسفي، وقد مثّلَ الفقهاءُ والمُحدّثونَ الاتّجاهَ المقاومَ للتأثيرِ الفلسفيّ وتسرّبِه داخلَ المؤسّسةِ الدينيّة، وإن جازَ الوصفُ يمكنُنا القولُ أنَّ الميرزا مهدي الأصفهاني قد مثّلَ الذروةَ في نقدِ الفكرِ الفلسفيّ، حيثُ ساهمَ في تكوينِ اتّجاهٍ سُمّيَ فيما بعد بالمدرسةِ التفكيكيّة، تلكَ المدرسةُ التي لا يمكنُ إهمالُ وجودِها وتأثيرِها في السّاحةِ الفكريّةِ الشيعيّة، والذي مكّنَ هذا الاتّجاهَ مِن إثباتِ وجودِه هو أنّ قادَتَه من الفقهاءِ الكبارِ الذينَ لا يمكنُ تجاوزُ أدوارِهم في الوسطِ الشيعي.   

ويعتقدُ هذا الاتّجاهُ بضرورةِ تصفيِة المعرفةِ الإسلاميّة مِن كلِّ الشوائبِ الفلسفيّةِ التي علقت بها، يقولُ محمّد رضا حكيمي وهوَ أوّلُ مَن أطلقَ اسمَ (التفكيكيّة) على هذا الاتّجاه في كتابٍ سمّاه (المدرسةُ التفكيكيّة) حيثُ يقول: (تهدفُ هذه المدرسةُ أساساً إلى فهمِ المعارفِ القرآنيّة فهماً خالصاً ونقيّاً بعيداً عن عمليّةِ التأويلِ والمزجِ بينَها وبينَ الأفكارِ والمذاهبِ والنّحل الأخرى، وكذلكَ بعيداً عن التفسيرِ بالرّأي وعَن محاولاتِ التحميلِ والإسقاطِ كي تبقى حقائقُ الوحي وأسسُ ومُنطلقاتُ (العلمِ الصّحيح) نقيّةً ومصونةً لا تُعكّرُ صفوها معطياتُ الفكرِ الإنساني ولا يشوبُها الذوقُ الإنساني) (المدرسةُ التفكيكيّة ص 11).  

ولكي تقفَ على بدايةِ تشكّلِ هذهِ المدرسةِ منَ المفيدِ نقلُ ما ذكرَه الميرزا الأصفهاني بنفسِه كما نقلهُ عنه تلميذهُ الشيخُ النمازي الشهرودي، في كتابِه مستدركُ سفينةِ البحار، حيثُ يقول: (.. وكانَ مُشتغلاً بتعلّمِ الفلسفةِ المُتعارفةِ وبلغَ أعلى مراتبِها قال: لم يطمئن قلبي بنيلِ الحقائقِ ولم تسكُن نفسي بدركِ الدقائقِ فعطفتُ وجهَ قلبي إلى مطالبِ أهلِ العرفانِ فذهبتُ إلى أستاذِ العرفاءِ والسالكينَ السيّدِ أحمد المعروفِ بالكربلائي في كربلاء وتتلمذتُ عندَه حتّى نلتُ معرفةَ النفسِ وأعطاني ورقةً أمضاها وذكرَ اسمي مع جماعةٍ بأنّهم وصلوا إلى معرفةِ النفسِ وتخليتِها منَ البدن، ومع ذلكَ لم تسكن نفسي إذ رأيتُ هذه الحقائقَ والدقائق التي سمّوها بذلكَ لا توافقُ ظواهرَ الكتابِ وبيانَ العترةِ ولابدَّ منَ التأويلِ والتوجيه.  

ووجدتُ كِلتا الطائفتينِ كسرابٍ بقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً حتّى إذا جاءَه لم يجدُه شيئاً، فطويتُ عنهما كشحاً، وتوجّهتُ وتوسّلتُ مُجدًّا مكدًّا إلى مسجدِ السهلةِ في غيرِ أوانِه باكياً مُتضرّعاً مُتخشّعاً إلى صاحبِ العصرِ والزمان (عجّلَ اللهُ فرجَه الشريف)، فبانَ لي الحقُّ وظهرَ لي أمرُ اللهِ ببركةِ مولانا صاحبِ الزّمان (عجّلَ اللهُ فرجَه الشريف)، ووقعَ نظري في ورقةٍ مكتوبةٍ بخطٍّ جليّ: طلبُ المعارفِ مِن غيرنا أو طلبُ الهدايةِ مِن غيرنا (الشكُّ منّي) مساوقٌ لإنكارنا، وعلى ظهرهِا مكتوبٌ: أقامني اللهُ وأنا الحجّةُ ابنُ الحسن.  

قالَ: فتبرّأتُ منَ الفلسفةِ والعرفانِ وألقيتُ ما كتبتُ منهما في الشطِّ ووجهتُ وجهي بكلِّه إلى الكتابِ الكريمِ وآثارِ العترةِ الطاهرة فوجدتُ العلمَ كلَّه في كتابِ اللهِ العزيزِ وأخبارِ أهلِ بيتِ الرّسالة الذينَ جعلهم اللهُ خُزَّاناً لعلمِه وتراجمةً لوحيه، ورغَّب وأكّدَ الرسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلم) بالتمسّكِ بهما، وضمنَ الهدايةَ للمُتمسّكِ بهما، فاخترتُ الفحصَ عن أخبارِ أئمّةِ الهُدى والبحثَ عن آثارِ ساداتِ الورى، فأعطيتُ النظرَ فيها حقَّه وأوفيتُ التدبّرَ فيها حظّه، فلعمري وجدتُها سفينةَ نجاةٍ مشحونةً بذخائرِ السّعاداتِ وألفيتُها فلكاً مزيّناً بالنيراتِ المُنجية منِ ظُلماتِ الجهالات، ورأيتُ سبلَها لائحةً وطرقها واضحةً وأعلامَ الهدايةِ والفلاحِ على مسالكها مرفوعةً ووصلتُ في سلوكِ شوارعِها إلى رياضٍ نضرة وحدائقَ خضرةٍ مزيّنةٍ بأزهارِ كلِّ علمٍ وثمارِ كلِّ حكمةٍ إلهيّةٍ الموحاةِ إلى النواميسِ الإلهيّة فلم أعثر على حكمةٍ إلا وفيها صفوها، ولم أظفَر بحقيقةٍ إلّا وفيها أصلُها، والحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله) (مستدركُ سفينةِ البحار، ج1 ص9/11)

وبناءً على ذلكَ يتّضحُ أنَّ المدرسةَ التفكيكيّةَ تتعارضُ معَ المنهجِ الفلسفي والعرفاني وتختارُ لنفسِها اتجاهاً آخرَ تصطلحُ عليه بالاتّجاهِ الوحياني المُعتمدِ على القرآنِ الكريمِ وسُنّةِ المعصومينَ (عليهم السلام)، وقد اجتهدَ روّادُ هذه المدرسةِ ابتداءً منَ المؤسّسِ ومروراً بكلِّ تلاميذِه على تحليلِ الفلسفةِ والعرفانِ ومِن ثمَّ تصنيفِ النصوصِ ومقارنتِها مع تلكَ الأفكارِ بغرضِ إبعادِها عن المعارفِ الوحيانيّة، وعليه ما يميّزُ المدرسةَ التفكيكيّةَ هو الانطلاقُ في تعريفِ الحقائقِ من خلالِ الوحي، فالفيصلُ عندها للتمييزِ بينَ الحقائقِ هو قولُ المعصومِ، وبما أنَّ تعريفَ الأشياءِ وضبطَ حدودِها وتعيينَ مدلولاتِها هوَ المدخلُ نحوَ فهمِها بشكلٍ صحيح، فإنَّ المفاهيمَ التي تشكّلُ محورَ البحثِ الفلسفي والبرهانِ العقلي كمفهومِ العقلِ والرّوحِ والعلمِ والخلق، وكلِّ ما يتعلّقُ بمعرفةِ صفاتِ الله، وقضيّةِ الوحي والنبوّةِ ومنصبِ الولايةِ لابدَّ مِن فهمِها مِن خلالِ مَن له اختصاصُ الفهمِ وهو المعصوم، وبالتالي فإنَّ كلَّ تلكَ المفاهيم يمكنُ فهمُ حقائقِها فقط من خلالِ الرجوعِ لمَن أمرَ اللهُ بالأخذِ منه، وليسَ للبشرِ قدرةُ تكوينِ معرفةٍ تتّسمُ بالعصمةِ والبعدِ عن الهوى ولا تتأثّرُ بمُعطياتٍ تربويّةٍ أو اجتماعيّة أو بيئيّة أو سياسيّة، وما دامَ الأمرُ كذلكَ فإنَّ الاعتمادَ على غيرِ المعصومِ يعني تعريضَ النفسِ لخطرِ الابتعادِ عن الهُدى الذي أرادَه اللهُ لعبادِه.  

 أما فيما يتعلق باختلافها عن مناهج الحوزة فإن المدرسة التفكيكية لم تخرُج عن الإطارِ العامِّ للمؤسّسةِ الدينيّة، وقد وصلَ الفقهاءُ الذينَ تتلمذوا على يدِ الميرزا مهدي الأصفهاني إلى مصافِ المرجعيّاتِ العليا في الطائفةِ الشيعيّة مثلَ المرجعِ الحاضرِ السيّدِ عليّ السيستاني في النجفِ الأشرف، وكذلك الشيخِ وحيد الخرساني الذي يعدُّ قُطبَ الحوزةِ في مدينةِ قُم المُقدّسة.