ما مِقدارُ الاستفادةِ مِن علمِ الإحصاءِ في الأبحاثِ الدينيّةِ وكيفَ نوظّفُ هذا العلمَ النافعَ في الدراساتِ الدينيّة؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

علمُ الإحصاءِ هوَ العلمُ الذي يهتمُّ بجمعِ البياناتِ ووصفِها وتقديمِ التفسيرِ المُناسبِ لها، ولا يخلو علمٌ منَ العلومِ سواءٌ كانَ علماً تطبيقيّاً أو إنسانيّاً مِن حاجتِه للإحصاءِ في رصدِ وجمعِ موضوعاتِه الدرسيّة، فتطوّرُ علمِ الإحصاءِ ودخولهُ عمليّاً في المجالاتِ البحثيّةِ ساهمَ بشكلٍ كبيرٍ في النهضةِ العلميّةِ التي يشهدُها العالمُ اليوم، فتوفيرُ البياناتِ وترتيبُها على وجهِها الصحيحِ وبيانُ النسبِ والترابطِ بينَها يعدُّ الخطوةَ الأولى لكلِّ البحوثِ العلميّة، وقد ساهمَ الإحصاءُ بشكلٍ كبيرٍ في تطويرِ البحوثِ العلميّةِ المُتعلّقةِ بالظواهرِ الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّة، بما وفّرَته مِن معلوماتٍ وعيّناتٍ بحثيّةٍ مهولةٍ في كلِّ هذهِ الحقولِ، فاستخدامُ الأساليبِ الإحصائيّةِ أصبحَ منَ الأعمدةِ الأساسيّةِ التي يُركنُ إليها في التوصّلِ للحلولِ المُناسبةِ لكثيرٍ منَ المشاكلِ والقضايا التي تهمُّ المجتمعَ كقضايا الصحّةِ والتعليمِ والزراعةِ والصناعةِ والتجارة، ومعَ ذلكَ ليسَ هناكَ حضورٌ ملحوظٌ لهذا العلمِ في البحوثِ الدينيّة، وقد تمكّنَ الشهيدُ الصدرُ مِن خلالِ علمِ الاحتمالاتِ من معالجةِ إشكاليّةِ حصولِ اليقينِ منَ المنهجِ الاستقرائيّ في كتابِه (الأسسُ المنطقيّةُ للاستقراء) ومنَ المعلومِ أنَّ هناكَ ارتباطاً وثيقاً بينَ الاحتمالِ والإحصاءِ حيثُ يربطُ بينَهما الكثيرُ مِن نقاطِ الاتّصالِ، وقد يعدُّ ذلكَ نوعاً من استثمارِ هذه العلومِ الرياضيّةِ في ما يرتبطُ بالبحوثِ المعرفيّةِ التي تؤثّرُ بدورِها في المعارفِ الدينيّةِ، إلّا أنَّ ذلكَ يعدُّ حضوراً محدوداً لم يصِل إلى درجةِ الاستثمارِ الكاملِ لإمكاناتِ هذا العلم.  

 ويبدو أنَّ هناكَ مُبرّراً موضوعيّاً يجعلُ البعضَ يستبعدُ أهميّةَ الإحصاءِ في المعرفةِ الدينيّة، هو عدمُ حاجةِ الإسلامِ للإحصاءِ لا في إطارِه المعرفيّ والعقائدي ولا في إطارِه التشريعيّ والقانوني، وهذا مُبرّرٌ مقبولٌ باعتبارِ أنَّ الوصولَ إلى عقائدِ الإسلامِ وأحكامِه غيرُ موقوفٍ على جمعِ عيّناتٍ إحصائيّة، إلّا أنَّ الإسلامَ بوصفِه رسالةً مُتفاعلةً معَ الواقعِ الموضوعيّ للإنسانِ، يتوقّفُ تطبيقُه على معرفةٍ تفصيليّةٍ بالواقعِ الموضوعي، فالإسلامُ له معالجاتُه الخاصّةُ للظواهرِ الاجتماعيّةِ والسلوكيّةِ ولا يمكنُه وضعُ الأحكامِ المُناسبةِ ما لم يكُن له خبرةٌ تفصيليّةٌ بحقيقةِ تلكَ الظواهر، وبما أنَّ علمَ الإحصاءِ هوَ المسؤولُ عن رصدِ الواقعِ وتشخيصِ موضوعاتِه، فحينَها قد لا يستغني البحثُ الفقهيُّ عن مساهمتِه في تحديدِ موضوعاتِ الأحكام، إلّا أنَّ الفقهاءَ لم يروا أنفسَهم معنيّينَ بذلكَ باعتبارِ أنَّ وظيفتَهم محصورةٌ في بيانِ الأحكامِ دونَ الموضوعاتِ الخارجيّة، فالفقيهُ مسؤوليّتُه تقفُ عندَ بيانِ الأحكامِ، بينَما مسؤوليّةُ المُكلّفِ هيَ تحديدُ الموضوعاتِ، وبذلكَ تفتحُ المؤسّسةُ الدينيّةُ البابَ واسعاً أمامَ أهلِ الخبرةِ والاختصاصِ لدراسةِ الواقعِ بشتّى المناهجِ البحثيّةِ لتشخيصِ إشكالاتِ الواقعِ وموضوعاتِه الشرعيّة، ومِن ثمَّ يأتي دورُ الفقيهِ لبيانِ الحُكمِ المُناسبِ لهذه الموضوعات.   

وفي المُحصّلةِ يمكنُنا القولُ أنَّ علمَ الإحصاءِ ضروريٌّ في تشخيصِ الظواهرِ والموضوعاتِ الخارجيّةِ للأحكامِ الشرعيّة، إلّا أنَّ مسؤوليّةَ ذلكَ ليسَ على المؤسّسةِ الدينيّةِ باعتبارِ أنَّ مسؤوليّتَها تنحصرُ في بيانِ الأحكامِ دونَ الموضوعاتِ، وعليهِ لابدَّ للفقهاءِ منَ الرجوعِ إلى أهلِ الخبرةِ والاختصاصِ لمعرفةِ الموضوعاتِ وبخاصّةٍ في الموضوعاتِ المُعقّدةِ التي لا يمكنُ للمُكلّفِ العادي معرفتُها، مثلَ بعضِ المُعاملاتِ الاقتصاديّةِ المُركّبةِ والمُعقّدةِ، أو بعضِ الظواهرِ الاجتماعيّةِ المُستحدثةِ، والتي تحتاجُ إلى الاستعانةِ بعلمِ الإحصاء.