ما الدليل على أن القرآن الكريم والسنة يخاطبان الإنسان في العصور الحديثة؟

(مقال عن أن ظواهر القرآن الكريم لعموم المجتمعات ولا تختص فقط بمجتمع النبي ص).

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : الكلامُ عن صلاحية القرآن لكلّ زمان له علاقةٌ بطبيعة الخطاب القرآني، وهل هو كتابٌ تاريخيٌ أم هو فوق التاريخ وعابر للأزمان؟  فالتاريخية كرؤيةٍ لها علاقة بالأبستمولوجيا لا تعترفُ إلا بمعرفةٍ ذات مفاهيم تطورية، وفي المقابل وصفُ القرآن بالإطلاق يجعلهُ بعيداً عن قدرة الإنسان المعرفية، ومن هنا عملَ بعض الحداثيين على تبنّي تاريخية القرآن بوصفها الخطوة الأولى التي تمكّنهم من تأويلاتٍ غير متناهية للقرآن، وبذلك تنكّروا على وجود أيّ معارف، عملَ القرآنُ على تثبيتها بشكل دائم وأبدي، وقد نحتَ محمد اركون لذلك مصطلحاً خاصاً هو (أنسنة القرآن) حيث قصدَ من ذلك نفي أيّ قداسةٍ عن النصّ القرآني، وكذلك نجدُ نصر حامد أبو زيد يبدأ تأسيسَ نظريتهِ التأويلية من خلالِ التأسيس لتاريخية القرآن، ويشرحُ ذلك بعرض مطولٍ يكشفُ من خلاله دواعي النظرة التقديسية للقرآن، حيث أرجع ذلك إلى طبيعةِ القرآن المتأرجحة في معتقد المسلمين بين كونهِ قديماً أو مخلوقاً، وقد استعانَ في توضيح ذلك بكلّ الأدبيات الكلامية للتمييز بين صفةِ الذات وصفةِ الفعل، ليخلصَ بطريقة إيحائية إلى أنّ الاعتقاد بقدم القرآن وأزليته، هو السببُ الكامنُ وراء تقديس القرآن وإعطائهِ مفهوماً إلهياً مطلقاً ونهائياً، حيث يقول: «وهكذا تمّ دمج القرآن – الكلام الإلهي – في الصفات الإلهية عامة، وفي صفة العلم خاصة، فما دامت تلك الصفاتُ قديمة، أصبح من السهل الاستنتاجُ بأنّ القرآن كذلك قديم» وبذلك يتصورُ بأنّ الاعتقاد بقدم القرآنِ هو الذي جعلهُ نصاً مفارقاً ومبايناً لكلّ ما هو دنيوي أو إنساني، فعملَ جاهداً على إبطال ذلك ظناً منه بأنّه كافٍ لجعل القرآن نصاً تاريخياً وإنسانياً، حيث يقول: «إذا كان الكلام الإلهي فعلاً كما سبقت الإشارة، فإنه ظاهرة تاريخية؛ لأنّ كلّ الأفعال الإلهية أفعال (في العالم) المخلوق والمحدث، أي التاريخي، والقرآن الكريم كذلك ظاهرة تاريخية» وقد أكد أبو زيد على هذه النتيجة ليجعلَ المعرفة القرآنية ذات طبيعة نسبية وفي حالةٍ من التحول الدائم. وبذلك يتحولُ النصّ الإسلامي من التصور الإلهي والمقدس والمطلق، إلى مجرد نصٍ إنساني نسبي ومتحرك تبعاً لمحدودية الإنسان التي يفرضها الإطار التاريخي والثقافي والاجتماعي، وضمن هذا التصور لا يحتفظ النصّ بأيّ مقاصد أراد النصّ ايصالها للإنسان، وإنما المؤول هو الذي يوجد له المعاني بحسب موقعه التاريخي، ولكي يتيسرَ لهم ذلك لابدّ من العمل على فكّ الارتباط بين القرآن وبين الله، أي يصبح القرآن مجردَ منتج إنساني شأنه شأن أي نص أدبي، وبالتالي يكون خاضعاً لتأويلاتٍ لا نهائية وفي حالةٍ من التحولِ الدائم والمستمر، وبعبارة أخرى لا يكون القرآن معبراً عن معارف إلهية وإنما المعارف هي التي يمليها الإنسانُ بحسب موقعه التاريخي، وبذلك تصبح كلّ المعارف صحيحةً وإن تعارضت لكونها تعبّرُ عن مواقع تأويلية مختلفة، وبهذا الشكل ينتفي وجودُ معرفة قرآنية يمكن نسبتها للقرآن.ومن الواضح أنّ مجردَ القول إنّ القرآن خطاب للإنسان التاريخي، لا يؤدي بالضرورة إلى جعلِ القرآن كتاباً إنسانياً ونسبياً في معارفه، فالشواهد التي تمّ تقديمها لتاريخية القرآن تؤكد فقط على وجود علاقة بين القرآن وبين الإنسان المحكوم بالزمان، وهذه العلاقة يمكن مقاربتها بالشكل الذي يحافظ على إلهية القرآن وفي نفس الوقت تسمحُ للإنسان بالتفاعل معه.والمقاربة التي تحققُ تلك العلاقة بين القرآن الإلهي وبين الإنساني الزماني هي ذاتها العلاقة بين المطلق والنسبي أو بين الثابت والمتحول، فالمعرفة الثابتة ليست إلا تعبيراً عن المعرفة المطلقة، والمعرفة المتحولة ليست إلا تعبيراً عن النسبي والزماني.وتصورُ هذه العلاقة لا يكون مفهوماً إذا كانت معارف القرآن مجرد مفاهيم جزئيةٍ متعلقةٍ بموضوعاتٍ تاريخية، أمّا إذا كانت معارفهُ قائمةً على تذكير الإنسانِ بمنظومة من القيم الثابتة والمطلقة حينها يكونُ للقرآن القدرة على الجري والانطباق مدى الازمان، وعليه فإنّ القرآن نظامٌ من القيم له القدرةُ على ضبطِ جميع خيارات الإنسان في كلّ زمان ومكان.وبذلك يمكننا التأكيدُ على أنّ طبيعة الخطاب القرآني قائم على تذكير الإنسان بحقائق فطرية، والتي بدورها تؤسس لطبيعة العلاقة بين القرآن الإلهي وبين الواقع الإنساني المتحول، فالقرآن بهذا المعنى ليس إلا تذكيراً وتأكيداً على حقائق يدركها الإنسان بفطرته، وبذلك تكون معارف القرآن دائمةً بدوام فطرة الإنسان وثابتة بثباتها.وضمن هذه النظرة تكونُ علاقة القرآن بالواقع المتغير من خلال الإنسان العاقل، حيث ينطلق الإنسانُ من تلك القيم والمبادئ الفطرية لكي يضبط مواقفهُ الحياتية، فالعقلُ المستبصر ببصائر الوحي أو العقل الذي يثيرُ الوحيُ دفائنهُ هو الطريق الذي يتجلى به القرآن على الواقع المتغير.  فالذين تشبثوا بمركزية التاريخ تصوروا الإسلام رؤى محدودة، قد تجسدت في شكلِ صور مثاليةٍ لسلف الأمة، وبذلك ابتعدوا عن الإسلام في الوقت الذي ابتعدوا فيه عن الواقع، ومن هنا عاشوا حالة من الانفصام بين قدسية التاريخ وانحراف الواقع، فما كان إلا الكفر به ومقاطعته، ويبدو أنّ هذا هو الذي دفع التيارات الحداثية على تبني رؤيةٍ معرفيةٍ بديلة، فيقول مثلاً نصر حامد أبو زيد: «إنّ الخطأ الجوهري في موقف أهل السنة قديماً وحديثاً هو النظر إلى حركة التاريخ وتطور الزمن بوصفها حركة نحو الأسوأ على جميع المستويات، ولذلك يحاولون ربط معنى النصّ ودلالته بالعصر الذهبي، عصر النبوة والرسالة ونزول الوحي متناسين أنهم في ذلك يؤكدون زمانية الوحي لا من حيث تكوُّن النصّ وتشكُّله فقط، بل من حيث دلالتهُ ومغزاه كذلك، وليس هذا مجرد خطأ (مفهومي) ولكنه تعبيرٌ عن موقف أيديولوجي من الواقع، موقف يساند التخلف ويقف ضدّ التقدم والحركة».  أمّا الذين تشبثوا بالحاضر من أمثال أبو زيد نفسه، لم ينظروا إلا إلى إسلام المركزية التاريخية، ولذا تطرفوا في رفضهِ متشبثين بقيم جديدة تفرضها ضرورةُ الحياة العصرية، ففي الوقت الذي اقتربوا فيه من الواقع ابتعدوا عن قيم الإسلام.ومن الواضح أنّ ذلك الجدلَ والاختلاف يعودُ إلى إشكالية الثابت والمتحول، ولذلك لا يمكنُ تجاوز تلك الإشكالية إلا من خلال نظرية معرفة قرآنية تحددُ المسار الذي يسلكهُ الإنسان في تعاطيه مع المعارف القرآنية، فمن خلالها يمكن التعرف على نظام القيم والثوابت بوصفها الكفيلة بجعل معارف القرآن لها حالة من الاشراف والهيمنة على الزمان والمكان، فالضرورة الموضوعية تجعلنا أمام خيارين أولهما أن تتشكلَ معارف القرآن وفقاً للواقع الزماني والمكاني، وبالتالي يصبحُ القرآن أسيرَ ذلك الزمان والمكان، وأمّا أن يتشكل الزمان والمكان وفقاً لبصائر الوحي، وذلك عندما يمتلك النصّ خاصية إشراقية تسمحُ بحرية الحركة للواقع بكلّ مكوناته في أفقٍ عقلي يستوعبُ كلّ خصوصيات المرحلة، وفي هذه الحالة لا بدّ أن تكون تلك البصائر.. القيم.. السنن.. الحِكم.. واضحة ومترتبة في شكلها الهرمي لكي تتحقق مركزيتها ويصحّ الرجوع إليها.ولا أظنّ أنَّنا نجانبُ الحقيقة إذا أشرنا لوجود خلل في طبيعة الوعي الذي تختزنهُ الأمة للإسلام، فحصرُ الاهتمام بالإسلام ضمن حدود الهوية والإطار فقط، دون الاهتمام الواضح بمحتوى الإسلام القيمي والثقافي والحضاري والسياسي يؤكد هذا الخلل. مما يجعلُ من الضروري إيجاد معالجاتٍ معرفية حقيقيةٍ تستوعب القرآن ككتاب مازال متفاعلاً مع حاجات الإنسان وطموحاته في كلّ وقت، وليس مجرد حقيقة تاريخية وجدت في الماضي لا يمكن الانتماء له إلا من خلال الكفر بالحاضر والعيش في الماضي في حركةٍ عكسية تتجه دائماً إلى الوراء، الأمر الذي شجع على ظهور أنماط معرفية عملت على تكريس النظرة السطحية للإسلام، فقدمت بعض القراءات اليسارية والليبرالية الإسلام كإطار شخصي فردي ضمن علاقة خاصة بين الإنسان وبين الخالق، أو كبعد وجداني عاطفي لا علاقة له بواقع الإنسان الاجتماعي والثقافي، في محاولة لتجريد الإسلام من كلّ مقوماته المعرفية والحضارية، ولذا قاموا بدعم النظرة التقليدية، وأشادوا بالتجربةِ الصوفية كتجربةٍ انعزالية لا تتدخلُ في الشأن الحياتي للإنسان، وفي مقابل ذلك دعوا الأمة إلى مزيدٍ من الانفتاح على ما أنتجتهُ الثقافة الحديثة وبخاصة في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي حتى وإن تعارضت مع القيم الإسلامية.والإشكالية التي شجعت تيارات الحداثة هو الخطاب الإسلامي السلفي الذي أصبح أكثر ظهوراً في الساحة، ومن المعلوم أنّ السلفية برؤيتها الماضوية تمنعُ المسلم المعاصر من التفاعل الضروري مع شروط الواقع المعاش، فالإشادةُ بالتاريخ هي إدانة للواقع، والإيمانُ بما كان عليه السلف من إسلام، يقابلهُ تشكيك بما عليه المسلم اليوم من إسلام، وقد كرّس الخطابُ السلفي هذه الحالة وتفننَ في نقل أمجاد الماضي وتسويقها، حتى أصبح الخطابُ الأعلى صوتاً والأكثر حضوراً، الأمر الذي يفسر لنا بروز بعض الظواهر الطالبانية والداعشية وغيرها من الحركات الراديكالية، التي تعبّر عن نفسيةٍ مأزومةٍ همّشها الحاضر فهربت نحو الماضي. ولتقديم قراءةٍ تجعل الإسلام أكثر حضوراً وهيمنة، لابدّ من التخلص من مركزيةِ الماضي والحاضر، والبحث عن الإسلام في دلالاته القيمية وفي معانيهِ المطلقة، فصلاحية الإسلام لكلّ زمان لا يمكن فهمها إلا من خلال نفس القيم التي جعلتِ القرآن صالحاً لمخاطبة جميع البشر وفي كلّ الأزمان؛ وذلك لكونها هي ذات القيم التي فُطِر العقلُ عليها، ولكي يتمّ ذلك لابدّ من تجاوز المحاولات المتكررة لإخضاع القرآن لشروط الزمان سواء كان تراثاً أو واقعاً راهناً، فعملية النقد للتجارب التاريخية هي الخطوة الأولى لتجاوز التركة الثقيلة التي جعلتِ الأمة مستسلمة أمام ما أُنجز تاريخياً، والعقبة التي تواجهُ ذلك هي التصورُ المغلوط الذي يعتقد أنّ نقد التراث هو نقد للإسلام، وذلك بسبب الربط الذي حصل بين الإسلام كدين وبين تجربة سلف الأمة.وما نشير إليه فيما يخصّ إشكالية التراث هو عدم تحويله إلى ثابت يجب تكراره في كلّ زمان، الأمر الذي يخلق حالة من النفور بين التراث وبين الواقع المعاصر. وهنا لابدّ لنا من التفريق بين التراث الذي يشملُ النصّ المتمثل في القرآن والسنة والتراث بوصفهِ منجزاً تاريخيّاً على يد سلف الأمة. والتراث بالمعنى الثاني قد يشكلُ عقبة أمام الحضور المعاصر للقرآن، في حين أنَّ المعنى الأول يُعدّ منطلقاً لجعل الإسلام حاضراً في كلّ الأزمان. فإذا كان التراث هو القرآن مضافاً إلى معناه الذي بيَّنه الرسول والأئمة المعصومون، حينها يصبح الارتباط بالقرآن يعيدنا دوماً إلى تلك الفترة التاريخية التي وُجدت فيها الدلالة والمعنى، وليس الارتباط بالزمن التاريخي من حيث كونه زمناً حدث فيه القرآن، وإنَّما ارتباط بتلك المعاني التي وجدت في ذلك الزمن واكتسبت دلالاتها في ذلك التاريخ، وهنا يجبُ التمييز بين المعاني المطلقة التي لا تُحددُ بزمان وبين المعاني التي وجدت على نحو القضية الخارجية، أي المعاني التي راعت الظرف التاريخي، وهي المساحة التي يمكن أن يُبدع فيها العقل المعاصر الذي يسعى للتمييز بين الثابت والمتغير. فالأصالة والانفتاحُ أو الثابت والمتحول هما الأساس لتحقيق أي وعيّ حضاري للإسلام، فالأصالة هي التي تحققُ المعنى المنضبط للإسلام بما يحتويهِ من قيم مطلقة تتصفُ بالثبات والديمومة، والانفتاح هو الذي يستوعب ضرورات المرحلة واشتراطات الواقع، بما فيها من معاني متجددة ومتحولة، ومن هنا لا يمكنُ التسليم للمفهوم التقليدي الذي حصـرَ الإسلام في فهم السلف، كما لا يمكن القبول بالفهم الذي يتنكّرُ حتى للثوابت الضرورية للإسلام. فبالقيم الثابتة نضمنُ للإسلام قدسيته وإطلاقه، وبنفس هذه القيم نمتلك قابلية الانفتاح على الواقع وضبط كلّ متغيراته، وبذلك نفتحُ الباب واسعاً أمام العقل الإنساني ليستخدم كلّ صلاحياته في رصد الواقع والحكم عليه بما يناسبُ تلك القيم، وحينها يتكاملُ العقل والنصّ في رؤيةٍ واحدةٍ تؤسسُ للخطابِ الإسلامي في كلِّ مراحله.