هل الإنسانَ قادرٌ بنفسِه أن يؤسّسَ نظاماً أخلاقيّاً من دونَ الحاجةِ إلى الاعتقادِ بالله؟

هل قولُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله (إنّما بُعثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق) يدلُّ على أنَّ البعثةَ مُنحصرةٌ في الأخلاق؟ فإذا كانَت الإجابةُ نعم، ألا يمكنُ أن يقولَ البعضُ مثلَ الملاحدةِ بأنَّ الإنسانَ قادرٌ بنفسِه أن يؤسّسَ نظاماً أخلاقيّاً من دونَ الحاجةِ إلى الاعتقادِ بالله؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : أكثرُ ما يشكّلُ تحدّياً أمامَ الإلحادِ هوَ كيفَ يؤسّسُ نظاماً أخلاقيّاً بعيداً عن الإيمانِ باللهِ تعالى؟ وما يجعلُ الأمرَ تحدّياً يصعبُ تحقيقُه هو كيفَ يمكنُ تقديمُ تفسيرٍ ماديٍّ لِما هوَ بطبعِه غيرُ مادي؟ فالقيمُ الأخلاقيّة لا تنتمي إلى الطبيعةِ وعالمِ المادّة، فالحقُّ، والخيرُ، والعدلُ، والإحسانُ، والرحمة... وغيرُها منَ المبادئِ الأخلاقيّةِ ليسَت موجودةً في المادّة، بل غيرُ موجودةٍ حتّى في الإنسانِ بوصفِه مادّةً تحرّكُه أعصابٌ غيرُ واعية، فمعَ تحكّمِ النظرةِ الماديّة على الإلحادِ كيفَ يمكنُ أن نوجِدَ تفسيراً مُختبريّاً وتشريحيّاً لهذهِ القيمِ الأخلاقيّة عندَ الإنسان؟ فمنَ المُستحيلِ ثبوتاً وإثباتاً أن يكونَ هناكَ قيمٌ أخلاقيّة تتّصفُ بالإطلاقِ دونَ الإيمانِ بوجودِ إلهٍ يكونُ مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبّهَ إليهِ الكثيرُ مِن فلاسفةِ الإلحاد، "وقد أدركَ الفيلسوفُ الوجوديُّ المُلحِد والشرس، (جون بول سارتر)، مبلغَ الإحراجِ الفكريّ في مسألةِ أصلِ التمييزِ الأخلاقيّ بينَ الخيرِ والشر، ولذلكَ قال: يجدُ الوجوديُّ حرجًا بالغًا في ألّا يكونَ اللهُ موجودًا، لأنّهُ بعدمِ وجودِه تنعدمُ كلُّ إمكانيّةٍ للعثورِ على قيمٍ في عالمٍ واضح. لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ خيرٌ بدهيٌّ لأنّه لا يوجدُ وعيٌ لانهائيٌّ وكاملٌ منَ المُمكنِ التفكيرُ فيه. لم يُكتَب في أيّ مكانٍ أنّ الخيرَ موجودٌ، ولا أنّ على المرءِ أن يكونَ صادِقًا أو ألّا يكذب".   ومِن هُنا نجدُ أنَّ ريتشارد دوكنز يتّسقُ معَ إلحادِه ويلتزمُ بمآلاتِه، فيرفضُ صبغَ الوجودِ ككلٍّ بأيّةِ صفةٍ قيميّةٍ على الإطلاق، فيقولُ مُقرّاً باستحالةِ الأخلاق: "في هذا العالمِ لا يوجدُ شرٌّ ولا يوجدُ خيرٌ، لا يوجدُ سوى لامبالاةٍ عمياءَ وعديمةِ الرحمة". ويقولُ أيضاً: إنّه منَ العسيرِ جدّاً الدفاعُ عن الأخلاقِ المُطلقةِ على أسسٍ غيرِ دينيّة" .   أمّا الباحثُ الأميركيُّ اللاأدري ديفيد برلنسكي فيوضّح مقولةَ دوستويفسكي: "إذا كانَ الإلهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مُباح" ويقولُ شارِحاً: "فإذا لم تكُن الواجباتُ الأخلاقيّةُ مأمورةً بإرادةِ الله، ولم تكُن في الوقتِ ذاتِه مُطلقةً، فإنَّ (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطةٍ ما يقرّرُه الرجالُ والنساء. لا يوجدُ مصدرٌ آخرُ للحُكم. هل هذهِ إلّا طريقةٌ أخرى للقولِ بأنّه طالما أنَّ الإلهَ غيرُ موجودٍ، فكلُّ شيءٍ مُباح؟" .  وقد أشادَ داروين نفسُه بالدورِ الفعّالِ للإيمانِ بالمعبودِ حيثُ يقول: "وبالنسبةِ للأعراقِ الأكثر تمدُّناً، فإنَّ الإيمانَ الراسخَ بالوجودِ الخاصِّ بمعبودٍ، مُطّلعٍ على كلِّ شيءٍ قد كانَ له تأثيرٌ فعّال، على التقدّمِ الخاصِّ بالأخلاق"   ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ الاكتفاءَ برصدِ هذه القيمِ الأخلاقيّةِ مِن واقعِ الحياةِ الاجتماعيّة، يتضمّنُ اعترافاً بوجودِ بُعدٍ غيرِ مادّي يتطلّعُ له الاجتماعُ الإنساني؛ لبداهةِ وجودِ هذه القيمِ الأخلاقيّة عندَ الإنسانِ والمُجتمع، ولبداهةِ كونِها غيرَ ماديّة، وهذا ما لا يمكنُ أن ينسجمَ معَ التفكيرِ الإلحادي. وقانونُ الانتخابِ الاجتماعيّ الذي جاءَ على وزنِ قانونِ الانتخابِ الطبيعيّ لا يُشكّلُ حلاًّ بقدرِ ما يُشكّلُ خُدعةً وتحايلاً، فالتطوّرُ الذي يحدثُ في الكائناتِ الحيّة بحسبِ النظريّةِ الداروينيّةِ يقومُ على بقاءِ الأجدرِ والأقوى والأصلح، وهو طرحٌ يمكنُ تفهّمُه ضمنَ إطارِ المادّةِ غيرِ الواعية، ولكن كيفَ يمكنُ فهمُه واستيعابُه ضمنَ الحياةِ العاقلةِ والمُريدة؟ وحركةُ الإنسانِ والمُجتمعِ حركةٌ واعيةٌ تقومُ على التطلّعِ نحوَ الكمالِ الذي قد يكونُ فيه التضحيةُ بالذاتِ مِن أجلِ العدلِ والحريّةِ والكرامة، الأمرُ الذي يجعلُها تقعُ على العكسِ تماماً منَ الأنانيّة المحضةِ التي يقومُ عليها الانتخابُ الطبيعيّ.  فالاستجاباتُ العصبيّة، والسلوكيّاتُ الغرائزيّة، عمليّةٌ غيرُ واعية، قد نجدُها في بعضِ السلوكيّاتِ التي يمارسُها الإنسانُ كما يمارسُها الحيوان، أمّا السلوكُ الحرُّ القائمُ على الوعي والإرادةِ والقُدرةِ على الاختيارِ والتمييز فهوَ حتماً مُختلفاً عن الحالةِ الغرائزيّة.والعملُ على تطبيقِ قانونِ البقاءِ للأصلحِ اجتماعيّاً سوفَ يؤدّي إلى آثارٍ مدمّرةٍ للوجودِ الإنساني، فتمييزُ البشرِ بحسبِ الجيناتِ الوراثيّةِ يفتحُ الطريقَ أمامَ صراعٍ عرقيٍّ تنقلبُ معه كلُّ المفاهيمِ الأخلاقيّةِ إلى مفاهيمَ لا أخلاقية، فيصبحُ الخيرُ شرّاً، والعنصريّةُ فضيلةً، والعدلُ ضعفاً، والظلمُ قوّةً، والإنصافُ سُخفاً، والرحمةُ جهلاً، وهكذا تكونُ الحقوقُ فقَط للأقوى والأكثرِ صموداً. ومِن هُنا رفضَ ألفرِد والاس المنظورَ الداروينيَّ وكتبَ عام 1864 يتساءلُ: "كيفَ أفرزَ الانتخابُ الطبيعيُّ المفاهيمَ الأخلاقيّة الجيدة، كالمنطقيّةِ والآثار؟، ويرى والاس أنَّ مبدأ الصراعِ مِن أجلِ البقاءِ والبقاءِ للأصلحِ قد أدّيا إلى تفوّقِ الإنسانِ الحديثِ على حسابِ الإنسانِ البدائي، الذي انقرضَ نتيجةً لعدوانيّةِ أجدادِنا، أي أنَّ بقاءَ الأوّلِ كانَ على حسابِ فناء الثاني.لمّا كانَت هذهِ النتيجةُ لا تتماشى مع منظومتِنا الأخلاقيّة، فذلكَ يعني أنَّ لأخلاقِنا مصدراً آخرَ غيرَ الصراع، ويرى والاس أنَّ هذا المصدرَ ليسَ إلّا الإلهَ الخالقَ للعقلِ البشريّ خلقاً مُباشراً"   وقد حملَ البعضُ التفكيرَ الداروينيّ مسؤوليّةَ ما وقعَ مِن دمارٍ في الحربِ العالميّة، وذلكَ للفلسفةِ العنصريّة التي أسّسَها تشارلز داروين في كتابِه أصلِ الإنسان، والذي حاولَ فيه البرهنةَ على وجودِ تمايزٍ حقيقيّ بينَ البشرِ، وقد يرتفعُ هذا التمايزُ إلى مستوى أن يكونَ كلُّ عرقٍ نوعاً إنسانيّاً مستقلّاً عن الآخر، والنتيجةُ المُتحصّلةُ مِن هذا التمايزِ العرقي؛ هوَ منحُ العرقِ المُتحضّرِ مِنها الحقّ في القضاءِ على العرقِ الهمجي، ضمنَ قانونِ البقاءِ للأصلحِ والانتقاءِ الطبيعي، يقولُ داروين: "في مرحلةٍ مُستقبليّة مُعيّنة، ليسَت ببعيدةٍ، سوفَ تقومُ الأعراقُ البشريّةُ المُتحضّرة على الأغلبِ بالقضاءِ على الأعراقِ الهمجيّة واستبدالِها في شتّى أنحاءِ العالم." ولهذا النمطِ من التفكيرِ نجدُ عالمَ التاريخِ الأمريكيّ توماس ناب  thomas knapp مِن جامعةِ لويال يقول: "كانَ الناسُ ينتظرونَ الحربَ قبلَ عام 1914م بمُنتهى الشغف، وكانوا يتمنّونَ قيامَ الحرب، وكان الدافعُ لسيطرةِ هذا الفرحِ عليهم هوَ سيطرةُ الداروينيّة الاجتماعيّة على الناسِ في تلكَ الفترةِ حيثُ طُبّقَت في مدارسِ أوربـا، فهيَ ترى الحربَ دافعـاً للرُّقي للأقوى ودافعاً للنشاطِ"   ويقولُ الفيلسوف الأميركي اللاأدري توماس ناغل في كتابِه "العقلُ والكون: لماذا يكادُ يكونُ التصوّرُ المادّيُّ الداروينيّ خطأً قطعاً؟ أنَّ هناكَ ثلاثةَ عناصر تعجزُ الرؤيةُ الكونيّةُ المادّيّةُ أن تقدّمَ تفسيراً لها، وهيَ: الوعيُ، والإدراكُ، والقيمُ الأخلاقيّة. ومِن هُنا يستحيلُ على الإلحادِ والتفكيرِ المادّي تأسيسُ نظريّةِ أخلاقيّةٍ يمكنُها أن تضبطَ السلوكَ الشخصيَّ للأفراد، ناهيكَ عن السلوكِ الاجتماعيّ، يقولُ إسماعيل عرفة: "أمّا ريتشارد دوكنز فقد صرّحَ في تغريدةٍ له على موقعِ تويتر بأنَّ الإجهاضَ فعلٌ أخلاقيٌّ ومشروعٌ طالما ليسَ هناكَ ألمٌ، وبرّرَ ذلكَ قائِلاً: لأنَّ الجنينَ في بطنِ أمِّه هوَ أقلُّ إنسانيّةً مِن أيّ خنزيرٍ بالغ. في نفسِ الإطارِ، يرى الملحدُ الأستراليّ وأستاذُ الفلسفةِ الأخلاقيّة بيتر سنجر أنَّ ممارسةَ البشرِ للجنسِ معَ الحيواناتِ والبهائمِ أمرٌ طبيعيٌّ ومقبولٌ في إطارِ حميميّةِ العلاقةِ بينَ الحيواناتِ والإنسان، فلا خطأ في ذلكَ على الإطلاق، بل إنّه أمرٌ محمودٌ طالما يؤدّي إلى استمتاعِ الطرفينِ الحيوانِ والإنسان.  هل معنى ذلكَ أنَّ الملاحدةَ كلّهم لا أخلاقيّون؟ بالطبعِ لا، وذلكَ لأنَّ المُلحدَ عندَما يمارسُ الإلحادَ يكونُ متعارِضاً معَ فطرتِه وعندَما يكونُ أخلاقيّاً يكونُ مُنسجِماً معها، فهوَ يعيشُ حالةً منَ الازدواجيّة وعدمِ الاتّساقِ بينَ قناعاتِه وبينَ واقعِه السلوكيّ والحياتي، يقولُ فرانك توريك: "لا أقولُ بأنَّ الملاحدةَ لا يعرفونَ الأخلاقَ وإنّما أقولُ أنّهم لا يمكنُهم تبريرُ الأخلاق. نعم يمكنُهم التصرّفُ بخُلقٍ ويمكنُهم الحكمُ على بعضِ الأفعالِ بأنّها أخلاقيّةٌ أو لا أخلاقية، لكنّهم لا يستطيعونَ توفيرَ قاعدةٍ موضوعيّةٍ لأحكامِهم الأخلاقيّة. وأيّاً ما كانَ الأمر: الهولوكوست، الاغتصابُ، ذبحُ الأطفال، أو أكلُ الأطفال، فلا يوجدُ لدى المُلحدينَ معيارٌ موضوعيٌّ للحُكمِ على أيٍّ منهم. وهوَ الأمرُ الذي قرّرَه كذلكَ علي عزت بيجوفيتش قائِلاً: "يوجدُ مُلحدونَ على خُلقٍ، ولكن لا يوجدُ إلحادٌ أخلاقيّ"   وفي المُحصّلة لا يمكنُ الفصلُ بينَ الاخلاقِ وبينَ الإيمان باللهِ تعالى، ولا يمكنُ لأيّ مدرسةٍ ماديّةٍ تقديمِ تفسيرٍ للأخلاق، والأديانُ هيَ الخيارُ الوحيدُ الذي يوفّرُ للإنسانِ فُرصةً الارتقاءِ والتكاملِ أخلاقيّاً، وإن كانَت القيمُ الأخلاقيّةُ حقائقَ فطريّةً إلّا أنَّ الإنسانَ لا يستغني عن الرسالاتِ التي تعملُ على تذكيرِه بهذهِ القيمِ كما تعملُ على تزكيتِه منَ الأهواءِ والشهواتِ التي تشكّلُ عوائقَ أمامَ تكاملِه الأخلاقيّ، ولذا قالَ رسولُ اللهِ (إنّما بُعثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاقِ).