هل الظنُّ اعتقاد؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : الظنُّ بحسبِ الرأي المشهورِ هوَ مرتبةٌ مِن مراتبِ العلم، ففي بعضِ الأحيان يُطلقُ الظنُّ ويرادُ منهُ العلمُ واليقينُ والاعتقاد، كما في قولِه تعالى: {الذينَ يظنّونَ أنّهم ملاقو ربّهم}، أي الذينَ يعتقدونَ أنّهم مُلاقو ربّهم، وكثيراً ما يُطلَقُ الظنُّ ويرادُ منهُ الشكُّ والوهمُ والتردّدُ كما في قولِه تعالى: {إن نظنُّ إلّا ظنّاً وما نحنُ بمُستيقنين}، ولذلكَ فرّقَ العلماءُ بينَ الظنِّ العُقلائيّ القائمِ على شواهدَ ومُبرّراتٍ منطقيّة، وبينَ الظنِّ الشخصي الذي يُعبّرُ عن هواجسَ نفسيّة، فالأوّلُ مُعتبرٌ، والثاني نهى عنهُ الشرعُ ولا يعترفُ بهِ العُقلاء، وبناءً على ذلكَ يمكنُ أن يُشكّلَ قسمٌ منَ الظنِّ درجةً مِن درجاتِ الاعتقاد. وقد جعلَ علمُ المنطقِ الظنَّ قسماً مِن أقسامِ العلم، حيثُ اعتمدَ هذا التقسيمُ على احتمالِ المُخالفة، فإن كانَ كاشفاً عن الواقعِ من دونِ أيّ احتمالٍ للمُخالفةِ فذاكَ علمٌ، أمّا إذا كانَ كاشفاً عن الواقعِ دونَ القطع، أي هناكَ احتمالٌ للمُخالفةِ فيُسمّى ظنّاً، أمّا إذا تساوَت النسبةُ بينَ الكشفِ وعدمِه فيُسمّى وهماً. إلّا أنَّ ذلكَ يبدو مُخالفاً لِما يمكنُ استظهارُه مِن آياتِ القرآنِ التي تناولَت الظنَّ، حيثُ يظهرُ مِنها تحميلُ النفسِ مسؤوليّةَ كلِّ الظنونِ دونَ أن يكونَ للعقلِ دورٌ فيها، حيثُ جاءَ الظنُّ في القرآنِ الكريم بشكلٍ عامٍّ مذموماً إلّا في بعضِ الحالات، وذلكَ مثلَ قولِه تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفعَلُونَ}. فإذا كانَ الظنُّ لا يُغني عن الحقِّ شيئاً، فكيفَ يمكنُ أن يُصبحَ الظنُّ قسيماً للعلمِ أو درجةً مِن درجاته؟ بل نجدُ في آياتٍ أخرى جعلَ اللهُ فيها الظنَّ على نقيضِ العلم، مثلَ قولِه تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا}. حيثُ نفى عنهم العلمَ ثمَّ أثبتَ لهم الظنَّ ممّا يعني أنَّ الظنَّ في مُقابلِ العلم، وعدمُ اجتماعِ الظنِّ مع العلمِ لكونِ كلِّ واحدٍ منهما له مصدرٌ يختلفُ عن الآخر، والظنونُ في منطقِ القرآنِ ليسَت إلّا تخرّصاتٍ نفسيّةً لا علاقةَ لها بالعلمِ أو بالعقل، قالَ تعالى: {وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ}.  وعليهِ فإنَّ النفسَ هيَ المسؤولةَ عن الظنونِ بما فيها مِن أهواءٍ وشهواتٍ ورغبات، والذينَ يتّبعونَ الظنَّ هُم الذينَ يتّبعونَ أهواءَ النفس، قالَ تعالى: {فَإِن لَّم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ}. فقد نصَّت هذهِ الآيةُ على أنَّ عدمَ استجابتِهم للرسولِ كانَت بسببِ اتّباعِ الهوى، وفي نفسِ الوقتِ نصَّت آياتٌ أخرى على أنَّ عدمَ الاستجابةِ كانَ بسببِ اتّباعِ الظنِّ، قالَ تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ}، فالظنُّ هو ما تهوى الأنفسُ وليسَ شيئاً آخرَ غيرَه. وأكثرُ آياتِ الظنِّ تخدمُ هذه الفرضيّةَ التي قدّمناها، إلّا أنَّ ما يُشكَلُ على هذه الفرضيّةِ هو وجودُ آياتٍ تمَّ تفسيرُ الظنِّ فيها بالعلم، مثلَ قولِه تعالى: {وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِم وَأَنَّهُم إليهِ رَاجِعُونَ}، فالظنُّ جاءَ في مقامِ المدحِ للخاشعين، ولذا فُسّرَ الظنُّ باليقين، أي أنَّ الخاشعينَ هُم الذينَ يوقنونَ أنّهم ملاقو ربّهم، إلّا أنَّ هذا التفسيرَ قد لا ينسجمُ مع دقّةِ القرآنِ في اختيارِ الألفاظ، فلو كانَ المقصودُ اليقينُ الذي يحصلُ منَ العلمِ فلماذا لم يستخدِم كلمةَ يقين بدلَ الظن؟ وقد استخدمَه في آياتٍ أخرى، بل جعلَ اليقينَ شرطاً في الإيمانِ باليومِ الآخر، وهيَ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ}. وبالتالي لا يمكنُ القبولُ بتفسيرِ الظنِّ باليقينِ وجعلِهما معنىً واحداً، الأمرُ الذي يجعلنا نعودُ لنتدبّرَ في الآيةِ مِن جديد. فإذا رجَعنا للآيةِ التي قبلَها وهيَ قولهُ تعالى: {أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعقِلُونَ}.حيثُ نجدُ الآيةَ تكشفُ عن فعلٍ مِن أفعالِ النفسِ وهوَ عدمُ التزامِها بالبرِّ في الوقتِ الذي تدعو الناسَ للالتزامِ به، أي أنّها عالمةٌ بأنّه برٌّ إلّا أنّه في غيرِ هواها ولذا لا تعملُ به، وعليهِ فإنَّ النفسَ تُشكّلُ ضغطاً كبيراً على المؤمنِ وتحرفهُ عن الصّراطِ المُستقيم، ولذا نجدُ أنَّ الآيةَ التي جاءَت بعدَها قدّمَت توصياتٍ للمؤمنِ حتّى يستعينَ بها على هذهِ النفس، فقد أمرَتهُ بالصّبرِ والصّلاةِ، ويبدو أنَّ قولَه {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} يقصدُ بها عقبةُ النفس، أي أنَّ التغلّبَ على النفسِ وجعلَها على الصّراطِ المُستقيم أمرٌ كبيرٌ إلّا على الخاشعين، ومعَ الميلِ لهذا المعنى إلّا أنَّ المعنى الآخرَ غيرُ مُستبعدٍ وهوَ أنَّ (الصّبرَ والصّلاة) هُما أمرانِ كبيران إلّا على الخاشعين، وبكِلا المعنيين قدّمَتِ الآيةُ توصياتٍ للمؤمنِ يستعينُ بها على تجاوزِ هيمنةِ النفسِ التي جعلَته يأمرُ بالبرِّ ولا يفعلهُ، وعندَما تحدّثَتِ الآيةُ بأنَّ القيامَ بهذهِ التوصياتِ كبيرةٌ إلّا على الخاشعين، فتحَت بابَ الأملِ للإنسانِ عندَما جعلَت الظنَّ بلقاءِ اللهِ مِقداراً كافياً لتحقيقِ الخشوع، أي لم يُطالبهم باليقينِ الناتجِ منَ العلمِ باليومِ الآخر وإنّما جعلَته ضمنَ توقّعاتِ النفسِ وتمنّياتها وهوَ كافٍ لجعلِ النفسِ تخشع، بالتالي قدّمَت الآيةُ مُعالجةً للنفسِ وليسَت مُعالجةً للقُدرةِ العلميّةِ أو العقليّةِ عندَ الإنسانِ، وهوَ أسلوبٌ اتّبعَتهُ أكثرُ الآياتِ التي عالجَت مُشكلةَ الإيمانِ بالآخرة، مثلَ قولِه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُم أَحرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُم لَو يُعَمَّرُ أَلفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعمَلُونَ} ، فقد عالجَت هذهِ الآيةُ إشكاليّةً نفسيّةً تُعدُّ سبباً في الإعراضِ عن الحق، وهيَ حبُّ الدّنيا والأملُ في الخلود، بالتالي هيَ خطابٌ للنفسِ الإنسانيّةِ وتحذيرُها منَ الاسترسالِ معَ تمنّياتِ النفس. قالَ تعالى: {أولَٰئِكَ الَّذِينَ اشتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَىٰ وَالعَذَابَ بِالمَغفِرَةِ فَمَا أَصبَرَهُم عَلَى النَّارِ}. وهذا تنبيهٌ للنفسِ كيفَ تصبرُ على النارِ باختيارِها للضّلالِ بدلَ الهُدى. والاتّزانُ النفسيُّ الذي يجبُ أن يصلَ له الإنسانُ في نظرِ القرآنِ هوَ أن يوازنَ بينَ الدّنيا والآخرة، قالَ تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ * وَمِنهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. وبالتالي يعتبرُ القرآنُ أنَّ أدنى درجاتِ الإيمانِ بالآخرةِ هوَ الظنُّ بوجودِها انطلاقاً مِن حبِّ النفسِ لذاتِها وحرصِها على سلامتِها، قالَ تعالى: {وَأَنَّهُم ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُم أَن لَّن يَبعَثَ اللهُ أَحَدًا}. فبناءً على تفسيرِ البعثِ في هذه الآيةِ ببعثِ يومِ القيامة، وليسَ بمعنى بعثِ الرسولِ كما في بعضِ التفسيرات، يصبحُ المطلوبُ هو مُجرّدُ الظنِّ بالآخرة، طالما أنَّ الآيةَ حدّدَتِ المشكلةَ في عدمِ الظن، وعليهِ فإنّهم لو كانوا يظنّونَ بوجودِ آخرةٍ لما أوقعوا أنفسَهم في التهلكة. وكذلكَ قولهُ تعالى: {وَرَأَى المُجرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَصرِفًا} يقولُ العلّامةُ السيّدُ الطباطبائي في تفسيرِ هذهِ الآية: «والمرادُ بالظنِّ هوَ العلم ـ على ما قيلَ ـ ويشهدُ بهِ قوله: وَلَم يَجِدُوا عَنها مَصرِفاً».  والمُلاحظُ أنَّ السيّدَ العلّامةَ لم يجزِم بأنَّ الظنَّ في الآيةِ هوَ العلمُ ولذا قيّدَه بقولِه (على ما قيل) ومِن حقّنا هُنا أن نسألَ إذا كانَ اللهُ أرادَ العلمَ فلماذا استخدمَ كلمةَ الظنِّ ولم يستخدِم كلمةَ العلم؟ وبخاصّةٍ أنَّ هناكَ آياتٍ أخرى تحدّثَت عن الظنِّ بشكلٍ سلبيٍّ أو على الأقلِّ هناكَ آياتٌ نهَت عنه. فمنَ الواضحِ أنَّ المُجرمينَ كانوا في مقامٍ يستوجبُ حصولَ العلمِ بدخولِهم النارَ حتماً، فكلُّ الشواهدِ تقودُهم إلى هذا النوعِ منَ اليقين، وإذا سلّموا بهذا اليقينِ لكانَ منَ الواجبِ أن لا يتوقّعوا أيَّ مصرفٍ يصرفُ عنهم نارَ جهنّم، بل كانَ الواجبُ عليهم الاستسلامَ لمصيرِهم المحتوم، ولأنَّ نفوسَهم لا تتمنّى هذا المصيرَ فلابدَّ أن تعملَ على مقاومتِه ولو باحتمالاتٍ ضعيفة، وحينَها يتحوّلُ العلمُ بدخولِ النارِ إلى الظنِّ بدخولِهم حتّى يكونَ هناكَ أملٌ بالنجاة، إلّا أنَّ اللهَ قطعَ عليهم هذا الأملَ بقوله: (وَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَصرِفًا) حيثُ تؤكّدُ الآيةُ على أنّهم كانوا يبحثونَ عن أيّ مصرفٍ يصرفُ عنهم هذا المصير.وكذلكَ قولهُ تعالى: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنهُمَا اذكُرنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيطَانُ ذِكرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجنِ بِضعَ سِنِينَ) فمنَ المؤكّدِ أنَّ سيّدَنا يوسف (عليهِ السلام) كانَ عالماً بنجاةِ صاحبِه، وقد عبّرَ عن علمِه هذا في الآيةِ التي قبلَها بقولِه: (يَا صَاحِبَيِ السِّجنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسقِي رَبَّهُ خَمرًا ۖ وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصلَبُ فَتَأكُلُ الطَّيرُ مِن رَّأسِهِ ۚ قُضِيَ الأَمرُ الَّذِي فِيهِ تَستَفتِيَانِ) فقولهُ قُضيَ الأمرُ الذي فيهِ تستفتيانِ كاشفٌ عن علمٍ ويقينٍ بما سيقعُ عليهم، فلماذا استخدمَ القرآنُ كلمةَ ظن مع أنّه كانَ عالماً؟  ويبدو أنَّ السببَ في استخدامِ الظنِّ بدلاً عن العلمِ هوَ قولُ يوسفَ (عليهِ السلام) (اذكُرنِي عِندَ رَبِّكَ) فالأمرُ لا يتعلّقُ بمُجرّدِ العلمِ بنجاةِ صاحبِه وإنّما له علاقةٌ بما يتمنّاهُ يوسفُ مِن نجاتِه، وقد جاءَ في بعضِ الرواياتِ ما يُفهَم مِنها أنَّ اللهَ أطالَ سنينَ يوسفَ في السّجنِ بسببِ ذلكَ الطلب. وفي المُحصّلةِ يظهرُ مِن آياتِ القرآنِ أنَّ الظنَّ مِن فعلِ النفسِ وتمنّياتِها ولذا لا يصلحُ أن يكونَ سبباً للاعتقادِ الجازمِ وإنّما يجبُ تحصيلُ العلمِ بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به.