أصالة حرمة التكفير.

: السيد مهدي الجابري الموسوي

انّ ما يجري اليومَ من أحداثٍ على الساحة الإسلامية ، من استحلال الدماء ، وهتك الأعراض ، وتخريب البلاد الإسلامية وتدنيس المقدسات، إنما هي آثارٌ خلفتْها تلك الرؤى التكفيرية. 

والعصبيةُ المسرِفة هي من أوجدتْ هذا الوباءَ الذي استشرى بين المسلمين ، فاحتضنه شِرذمةٌ من شُذّاذ الآفاق فروّجوا له ، والأدهى من ذلك أنهم تبنّوه باسم الإسلام، وهو منهم براء.

وفي هذا المضمار نجد أنّ الإسلام يؤكد على خطورة تكفير المسلمين ، لما يترتب عليه من أحكامٍ وعقوبات ، تتصدّع منها قلوب المؤمنين، وتفزع لها النفوسُ المطمئنة ، بسبب ما تجرُّه على المسلم الموحِّد المبتلى بهذا الأمر من الويلات إذا كفّر أخاه المسلم: كعداء الأهل له والأصدقاء ، ومفارقة الزوجة والأبناء ، واستحقاق القتل وعدم الميراث ، وتحريم الصلاة عليه ، وعدم دفنه في مقابر المسلمين ، إلى غير ذلك من الأحكام المذكورة في مظانها.

ومن هنا انبرى علماءُ الإسلام لظاهرة تكفير المسلمين لأجل الرد عليها ، واكتفي بذكر بعض أقوال علماء أهل السُّنة في هذا الخصوص:

قال ابن حَزْم في كتاب (الفِصَل) في معرض كلامه عمّن يكفَّر ولا يكفَّر : وذهبت طائفةٌ إلى أنه لا يُكفَّر ولا يُفسَّق مسلمٌ بقولٍ قاله في اعتقادٍ أو فتيا ، وأنّ كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك فدان بما رأى أنه الحقُّ فإنه مأجورٌ على كل حال ، إنْ أصاب فأجران ، وإن أخطأ فأجرٌ واحد .

وقال : وهذا قول أبي ليلى ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وسفيان الثوري ، وداود بن علي ، وهو قولُ كلِّ من عرفنا له قولاً في المسألة من الصحابة ، لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً "(1) .

ويرى ابن حزْمٍ أنّ البرهان المطلوب للحكم بكفر المسلم ينبغي أنْ يكافئَ ما ثبت به إسلامُه ، فلا يُرفع عنه اسمُ الإسلام إلا بنصٍّ أو إجماعٍ ، قال : " والحقُّ هو أنّ كلَّ من ثبت له عقْدُ الإسلام ، فإنه لا يزول عنه إلا بنصٍّ أو إجماع ، وأما بالدعوى والافتراء فلا "(2) . 

وبمثله قال الباقلانيُّ : " ولا يُكفَّر بقولٍ ولا رأيٍ إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لا يوجد إلا من كافر ، ويقوم دليلٌ على ذلك ، فيكفّر "(3) .

ويقول أحمد بن زاهر السرَخْسيّ ، وهو من أجلِّ أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعريّ : " لما حضرتِ الشيخَ أبا الحسن الأشعريِّ الوفاةُ بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه ، فجمعتُهم له فقال : اشهدوا عليّ أنني لا أُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنبٍ ، لأني رأيتُهم كلَّهم يشيرون إلى معبودٍ واحد ، والإسلام يشملهم ويعمُّهم "(4) .

ويقول الشوكانيّ: "اعلم أنّ الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يُقدِم عليه إلا ببرهانٍ أوضحَ من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المرويّة من طريق جماعةٍ من الصحابة أنّ من قال لأخيه: يا كافرُ فقد باء بها أحدهما ، هكذا في الصحيح ، وفي لفظ ٍآخر في الصحيحين وغيرهما: (( من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدوّ الله ، وليس كذلك إلا حار عليه )) أي رجع ، وفي لفظ آخر في الصحيح : (( فقد كفر أحدهما)) ففي هذه الأحاديث وما ورد موردَها أعظمُ زاجرٍ وأكبر واعظٍ عن التسرُّع في التكفير - ثم قال - فإنّ الإقدام على ما فيه بعضُ البأس لا يفعله من يشحُّ على دينه ، ولا يَسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة ، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أنْ يكون في عدادِ من سمّاه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كافراً"(5 ).

ويروي ابن نُجيم عن الطّحاويّ وغيره من علماء الحنّفية قولَهم بأنّ المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بأمر يُتيقَّنُ كفرُ صاحبه به ، قال : " ما تُيُقِّن أنه ردةٌ يُحكم بها ، وما يُشكُّ أنه ردةٌ لا يُحكم بها ؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بشكٍّ ، مع أنّ الإسلام يعلو ، وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أنْ لا يبادر بتكفير أهل الإسلام "(6)

ويرى ابن الوزير :" أن في الحكم بتكفير المختلَف في كفرهم مفسدةٌ بيّنةٌ تخالفُ الاحتياط...إنّ الاحتياط في العفو خيرٌ من الخطأ في العقوبة "(7).

 ويقول ابن القيِّم : "وقد حرّم اللهُ سبحانه القولَ عليه بغير علمٍ في الفُتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرّمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها ، فقال تعالى ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فرتب المحرّماتِ أربع مراتب، وبدأ بأسهلها ، وهو الفواحش ، ثم ثنّى بما هو أشدُّ تحريماً منه ، وهو الإثم والظلم ، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه ، ثم ربّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك كلِّه ، وهو القول عليه بلا علمٍ، وهذا يعمُّ القولَ عليه سبحانه بلا علمٍ في أسمائه وصفاته وفي دينه وشرعه، وقال تعالى ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ("(8) .

ويقول الإيجيُّ في (المواقف) :" جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفَّر أحدٌ من أهل القبلة"  ثم استَدلّ على ذلك قائلاً  : " إنّ المسائل التي اختلَف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالماً بعلمٍ ، أو موجِداً لفعل العبد ، او غير متحيِّزٍ ولا في جهةٍ ونحوها ، لم يبحثِ النبيُّ ’ عن اعتقاد من حُكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون ، فعُلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام "(9)

 ويقول الشيخ سليمان النجديّ أخو محمد بن عبد الوهاب : " إنّ من كان مقراً بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ، ملتزماً له ، إنه وإنْ كان فيه خصلةٌ من الكفر الأكبر ، او الشرك الأكبر ، أنْ لا يكفَّر حتى تُقام عليه الحجّةُ التي يكفَّر تاركُها ، وإنّ الحُجة لا تقوم إلا بالإجماع القطعيِّ لا الظنيِّ ، وإنّ الذي يقوِّم الحُجة : الإمام ، أو نائبه . وإنّ الكفر لا يكون إلا بإنكار الضروريات من دين الإسلام كالوجود ، والوحدانية ، والرسالة ، أو بإنكار الأمور الظاهرة كوجوب الصلاة ، وإنّ المسلم المقرّ بالرسول إذا استند إلى نوعِ شبهةٍ تخفى على مثله لا يكفَّر ، وإنّ مذهب أهل السُّنة والجماعة التحاشي عن تكفير من انتسب إلى الإسلام "(10) .

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن : "التجاسُر على تكفير مَن ظاهرُه الإسلام من غير مستنَدٍ شرعيٍّ ولا برهانٍ مَرضيٍّ يخالف ما عليه أئمةُ العلم من أهل السُّنة والجماعة ، وهذه الطريقة هي طريقة أهل البِدَع والضلال ، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال"(11).

فالتكفير حقُّ الله ورسوله (ص) فلا يصح للمسلم أنْ يقذف أحداً من أهل القبلة بالكفر، إلا بدليلٍ واضح وبرهانٍ ساطع ، وإلى ذلك أشار ابن تيميَة بقوله: " فلهذا كان أهل العلم والسُّنة لا يكفِّرون من خالفهم ، وإنْ كان ذلك المخالف يكفِّرهم ؛ لأنّ الكفر حكمٌ شرعيٌّ ، فليس للإنسان أنْ يعاقب بمثله ، كمن كذَب عليك وزنى بأهلك ليس لك أنْ تكذب عليه وتزني بأهله ؛ لأنّ الكذب والزنا حرامٌ لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حقُّ الله تعالى فلا يكفَّر إلا من كفّره اللهُ ورسوله"(12).

ويقول ابن القيِّم في النونية :  

الكفر حـقُّ الله ثم رسولِه بالشرع يثبُت لا بقولِ فـلانِ

من كان ربُّ العالمين وعبدُه قـد كفّراه فذاك ذو الكُفران (13)

ويقول أبو حامد الغزاليّ: "إنّ التكفير هو صنيعُ الجُهّال، ولا يسارع إلى التكفير إلا الجهَلة، فينبغي الاحتراز من التكفير ما وَجد الإنسانُ إلى ذلك سبيلاً، فإنّ استباحة الدماء والأموال من المصلّين إلى القبلة ، المصرِّحين بقول: «لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله»، خطأٌ. والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم "(14). 

ويقول أيضاً : " الوصية : أنْ تكفَّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ، ما داموا قائلين (لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) ، غير مناقضين لها ...فإن التكفير فيه خطر ، والسكوت لا خطر فيه "(15). 

ويقول الزرْكشي : " فليُنتبَه لهذا ، وليُحذر ممن يبادر إلى التكفير .. فيُخاف عليه أنْ يَكفر ؛ لأنه كفّر مسلماً "(16) .

ويقول الشيخ محمد عبده: " إن من أصول الدين الإسلامي : البعد عن التكفير ، وإن ممّا اشتُهر بين المسلمين ، وعُرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قولٌ من قائلٍ يَحتمل الكفر من مائة وجه ، ويحتمل الإيمان من وجهٍ واحد ، حُمل على الإيمان ، ولا يجوز حمله على الكفر"(17) .

ويقول محمد رشيد رضا في تفسيره : إن من أعظم ما بُليت به الفرق الإسلامية رمي بعضهم بعضاً بالفسق والكفر مع أنّ قصد الكل الوصول إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة إليه ، فالمجتهد وإنْ أخطأ معذور ... "(18)

ويَنقل المَليباري اتفاق العلماء قديماً وحديثاً على الاحتياط والتريُّث في هذه المسألة : " ينبغي للمفتي أنْ يحتاط في التكفير ما أمكنه ؛ لعِظم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام ، وما زال أئمتنا على ذلك قديماً وحديثاً "(19) .

فهذا إطباقٌ من علماء أهل السُّنة بمختلَف مذاهبهم على خطورة التكفير وأنّ من الخطأ نسبةَ المسلم إلى الكفر ؛ فهو من أعظم الظلم له ، فالأصل فيه السلامة ، والإسلام ثابتٌ له بيقينٍ ، ولا يرتفع عنه إلا بيقينٍ مثله ، وما دون ذلك يُدفع بالتماس الأعذار والاستتار دون الحكم بتكفيره استنادا إلى خبر ضعيف ، وذلك من الاحتياط للدين ، وبهذا يُعلم حق العلم أنّ الأصل في كل أمرٍ أنه ليس كفراً إلا بدليل ، فإنْ لم يستطع مدّعي الكفر إثبات الكفر فإنّ الأمر يرجع لأصله وهو عدم كونه كفراً .

_______________________

(1)الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحل , 3 : 247 .

(2)الفصل في الملل والأهواء والنحل , 3 : 392 .

(3)فتاوى السبكي , 2 : 578 .

(4)اليواقيت والجواهر , 58 .

(5) كتاب السيل الجرار (4/578) . 

(6)البحر الرائق , 5 : 134 .

(7)إيثار الحق على الخلق : 377 – 378 .

(8)أعلام الموقعين (1/38) . 

(9)المواقف , 393 .

(10)الصواعق الإلهية , 31 , ط استانبول 1979 .

(11)الرسائل والمسائل النجدية (3/20) .

(12)الرد على البكري ص259 ، وانظر مجموع الفتاوى (3/245) ومنهاج السنة (5/92،244 ) ، وانظر الفصل لابن حزم (3/248،249).

(13)انظر مختصر الصواعق ص494 .

(14)الاقتصاد في الاعتقاد – لأبي حامد الغزالي –  ,81 . 

(15)فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة , 128 .

(16)تحفة المحتاج في شرح المنهاج , 9 : 88 .

(17)الإسلام بين العلم والمدنية , 79 . و الإسلام والنصرانية , 55 , ط القاهرة .

(18)تفسير المنار , 17 : 44 .

(19)فتح المعين , 4 : 138 .