مَعْنَى مَا وَرَدَ فِي حَقِّ الزَّهْرَاءِ (ع): (وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتْ القُرُونُ الأُولَى)!!

أَحْمَدُ العِرَاقِيُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ. السُّؤَالُ: مَا هُوَ المَقْصُودُ مِنْ الرِّوَايَةِ الوَارِدَةِ فِي شَأْنِ السَّيِّدَةِ الزَّهْرَاءِ (عَ): (وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتْ القُرُونُ الأُولَى)؟ فَقَدْ وَرَدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عَ) أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْهَرَ فَاطِمَةَ (عَ) رُبْعَ الدُّنْيَا، فَرُبْعُهَا لَهَا، وَأُمْهَرَهَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، تُدْخِلُ أَعْدَاءَهَا النَّارَ، وَتُدْخِلُ أَوْلِيَاءَهَا الجَنَّةَ، وَهِيَ الصِّدِّيقَةُ الكُبْرَى، وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتْ القُرُونُ الأُولَى. {وَهَلْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةُ السَّنَدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الإحْتِجَاجُ بِهَا}؟

: اللجنة العلمية

     الأَخُ أَحْمَدُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

     هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَحْمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا يُمْكِنُ بَيَانُهُ بِالشَّكْلِ التَّالِي :

      إِنَّ البُعْدَ التَّكَامُلِيَّ لِلإِنْسَانِ ورِسَالَاتِ الأَنْبِيَاءِ هُوَ مَطْلَبٌ أَسَاسِيٌّ وَرُوحِيٌّ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ وَنُبُوَّةٍ، فَكُلُّ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ مِنْ الأُمَمِ السَّابِقَةِ كَانَ يَصْبُو إِلَى التَّكَامُلِ وَالوُصُولِ إِلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَيَدْعُو قَوْمَهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا التَّكَامُلُ - كَمَا أَخْبَرَتْنَا الرِّوَايَاتُ - كَانَ يَمُرُّ عَبْرَ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ)، فَقَدْ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ المَعْرُوفِ بِحَدِيثِ المِعْرَاجِ: (يَا أَحْمَدُ، لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأَفْلَاكَ، وَلَولَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ، وَلَولَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا). [عَوَالِمُ العَوَالِمِ 11: 43].

     فَتَكَامُلُ هَذَا الوُجُودِ وَالوُصُولِ إِلَى الغَايَةِ القُصْوَى فِي العِبَادَةِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَسَرِّ الخَلْقِ يَمُرُّ عَبْرَ مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الأَقْدَسِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، بِاعْتِبَارِهِ الجَامِعَ لِلكَمَالَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالحَامِلَ لِأَعْظَمِ رِسَالَةٍ وَأَكْمَلِ دُسْتُورٍ عَرَفَتْهُ البَشَرِيَّةُ، وَمَعْرِفَةُ مُحَمَّدٍ لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، الأَمِينِ المُؤْتَمَنِ عَلَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ العُظْمَى بَعْدَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، فَلَوْلَا عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لانْدَرَسَ هَذَا الدِّينُ وَمَاتَ، وَانْحَرَفَتْ الرِّسَالَةُ المُحَمَّدِيَّةُ بِأَسْرِهَا كَمَا ضَاعَتْ وَانْحَرَفَتْ الدِّيَانَاتُ السَّابِقَةُ،  وَضَاعَ جُهْدُ الأَنْبِيَاءِ فِي الوُصُولِ إِلَى الغَايَةِ القُصْوَى مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ، وَلَولَا فَاطِمَةُ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) لَمَا كُتِبَ لِهَذَا الدِّينِ البَقَاءُ وَالوُجُودُ وَالإسْتِمْرَارُ، فَهِيَ مِحْوَرُ الرَّبْطِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ العُظْمَى وَالوِلَايَةُ الكُبْرَى، فَهِيَ مِحْوَرُ العِتْرَةِ الَّتِي عَصَمَ اللهُ النَّاسَ بِهَا مِنْ الضَّلَالِ أَبَدَ الآبِدِينَ، كَمَا يَنُصُّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ المَعْرُوفُ بِحَدِيثِ الثِّقْلَيْنِ: {إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الآَخَرِ: كِتَابَ اللهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونَنِي فِيهِمَا} [مُخْتَصَرُ صَحِيحِ الجَامِعِ الصَّغِيرِ للسُّيُوطِيِّ وَالأَلْبَانِيِّ، رَقْمُ الحَدِيثِ 1726 - 2458].

     فَفَاطِمَةُ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) هِيَ مِحْوَرُ الكَمَالَاتِ فِي هَذَا الدِّينِ الَّذِي عَرَفَتْهُ البَشَرِيَّةُ مُنْذُ أَوَّلِ نَشْأَتِهَا، وَهِيَ سِرُّ بَقَائِهِ وَدَيْمُومَتِهِ.

     وَيُؤَيِّدُ هَذَا المَعْنَى مِنْ المِحْوَرِيَّةِ بِخُصُوصِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بِالنِّسْبَةِ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا: رَوَى الخلال فِي كِتَابِ السُّنَّةِ 1: 261، قَالَ:

     (ثنا الفَضْلُ بْنُ مُسْلِمٍ المُحَارِبيُّ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِصْمَةَ قَالَ: ثنا جَنْدَلٌ قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ الأنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِيمَا أَوْحَى أَنْ صَدِّقْ مُحَمَّدًا، وَأْمُرْ أُمَّتَكَ مَنْ أُدْرَكَهُ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ آدَمَ، وَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ النَّارَ، وَلَقَدْ خَلَقْتُ العَرْشَ عَلَى المَاءِ فَاضْطَرَبَ فَكَتَبْتُ "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ" فَسَكَنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَلْقَيْتُهُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ شُرَيْكٍ فَأَقَرَّ بِهِ وَقَالَ: هُوَ عِنْدَي عَنْ جَنْدَلِ بْنِ وَالقٍ). انْتَهَى. 

     وَجَاءَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الهَيْثَمِيِّ: (وَمِمَّا صَحَّ عِنْدَ الحَاكِمِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) قَالَ: (... فَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ آدَمَ، وَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ خَلَقْتُ العَرْشَ عَلَى المَاءِ فَاضْطَرَبَ فَكَتَبْتُ عَلَيْهِ "لَا إلَهَ إلاَّ اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ" فَسَكَنَ). [الفَتَاوَى الحَدِيثِيَّةُ، ص 455].

     وَجَاءَ عَنْ الفَخْرِ الرَّازِي فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ الضُّحَى: 6، فَيَقُولُ اللهُ: حِينَ كُنْتَ صَبِيًا ضَعِيفًا مَا تَرَكْنَاكَ، بَلْ رَبَّيْنَاكَ وَرَقَّيْنَاكَ إِلَى حِينِ صِرْتَ مُشَرَّفًا عَلَى شُرُفَاتِ العَرْشِ، وَقُلْنَا لَكَ: لَوْلَاكَ مَا خَلَقْنَا الأَفْلَاكَ، أَتَظُنُّ أنَّا بَعْدَ هَذِهِ الحَالَةِ نَهْجُرُكَ وَنَتْرُكُكَ. [مَفَاتِحُ الغَيْبِ 31: 196].

     وَجَاءَ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى 11: 96، قَوْلُهُ: (وَقَدْ ظَهَرَ فَضْلُ نَبِيِّنَا عَلَى المَلَائِكَةِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ لَمَّا صَارَ بِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ وَعَلَا عَلَى مَقَامَاتِ المَلَائِكَةِ، وَاللهُ تَعَالَى أَظْهَرَ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَعَجِيبِ حِكْمَتِهِ مِنْ صَالِحِي الآدَمِيِّينَ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يُظْهِرْ مِثْلَهُ مِنْ المَلَائِكَةِ، حَيْثُ جَمَعَ فِيهِمْ مَا تَفَرَّقَ فِي المَخْلُوقَاتِ، فَخَلَقَ بَدَنَهُ مِنْ الأَرْضِ، وَرُوحَهُ مِنْ المَلَأِ الأَعْلَى، وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ العَالَمُ الصَّغِيرُ وَهُوَ نُسْخَةُ العَالَمِ الكَبِيرِ.

     وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ، وَأَفْضَلُ الخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ مِنْ أَجْلِهِ العَالَمَ أَوْ أَنَّهُ لَوْلَا هُوَ لَمَا خَلَقَ عَرْشًا، وَلَا كُرْسِيًّا، وَلَا سَمَاءً، وَلَا أَرْضًا، وَلَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا.... وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ كَقَوْلِهِ: )سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ الفَلَكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الآيَاتِ الَّتِي يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّهُ خَلَقَ المَخْلُوقَاتِ لِبَنِي آدَمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلهِ فِيهَا حُكْمًا عَظِيمًا غَيْرَ ذَلِكَ وَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ لِبَنِي آدَمَ مَا فِيهَا مِنْ المَنْفَعَةِ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ.

     فَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ هُوَ خَاتَمُ المَخْلُوقَاتِ وَآخِرُهَا وَهُوَ الجَامِعُ لِمَا فِيهَا، وَفَاضِلُهُ هُوَ فَاضِلُ المَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا، وَمُحَمَّدٌ إِنْسَانُ هَذَا العَيْنِ، وَقَطْبُ هَذِهِ الرَّحَى، وَأَقْسَامُ هَذَا الجَمْعِ، كَانَ كَأَنَّهَا غَايَةُ الغَايَاتِ فِي المَخْلُوقَاتِ، فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لِأَجْلِهِ خُلِقَتْ جَمِيعُهَا، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا خُلِقَتْ، فَإِذَا فُسِّرَ هَذَا الكَلَامُ وَنَحْوُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ). انْتَهَى.

     نَقُولُ: فَإِذَا تَمَّ قُبُولُ هَذِهِ المِحْوَرِيَّةِ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فِي هَذِهِ الكَلِمَاتِ لِعُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ، يَتمُّ قُبُولُهَا فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) أَيْضًا; لِأَنَّ حُكْمَ الأَمْثَالِ فِيمَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ. 

     وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.