العلاقةُ بينَ حديثِ الثَّقَلَينِ والمهديِّ ﴿ع﴾.

مُحَمَّد / لُبنان: هل يُمكِنُنا إِثباتَ وجودِ المهديِّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ مِن خلالِ حديثِ الثَّقَلَينِ ؟!!

: اللجنة العلمية

الأخ مُحَمَّد المحترمُ:

السَّلامُ عَلَيكُم وَرَحمَةُ ٱللهِ وَبَرَكَاتُهُ

إِنَّ حديثَ الثَّقَلَينِ ( الكتابَ والعِترةَ ) قد أَشارَ بكُلِّ وضوحٍ إِلَى تلازمِ الاثنينِ معاً - الكتابِ والعِترةِ – تلازماً وجوديَّاً إِلَى يومِ القيامةِ، فقد نصَّ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ على أَنَّهمَا لا يَفترقانِ إِلَى يومِ القيامةِ.

حيثُ قال النبيُّ: { إِنِّي تَاركٌ فِيكُم مَا إِنْ تَمَسَّكْتُم بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعدَي أَحَدُهُمَا أَعظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابَ ٱلله، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَىٰ الأَرضِ، وعِتْرَتِي أَهلَ بَيتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ، فَٱنْظُرُوا كَيفَ تَخْلفُونِي فِيهِمَا }.

[ مختصرُ صَحيحِ الجامعِ الصَّغيرِ لِلسِّيُوطِيّ والأَلْبَانِيّ، رقمُ الحديثِ: 1726- 2458].

وحينَ قال (ص): { إِنِّي تَاركٌ فِيكُم خَلِيفَتَينِ: كتابَ ٱللهِ، حبلٌ مَمدودٌ مَا بينَ الأَرضِ والسَّماءِ، وعِترَتِي أَهلَ بَيتِي، وأَنَّهُما لن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ }.

[ صَحيحُ الجامعِ الصَّغيرِ لِلأَلبانيِّ 1: 482، مُسندُ أَحمدَ بنِ حنبلَ، برقمِ: 21654، تَصحيحُ شُعَيبِ الأَرنَؤُوطِ].

وعندَ عَودتِنا لِشُرَّاحِ الحديثِ مِن علماءِ أَهلِ السُّنَّة وجدنَاهُم يُصَرِّحُونَ بوضوحٍ أَنَّ هذا الحديثَ يُستفادُ منهُ وجودُ شخصٍ مؤهَّلٍ لِلتَّمَسُّكِ بهِ مِن أَهلِ البيتِ إِلَى يومِ القيامةِ.

قال المَنَّاوِيُّ الشَّافِعِيُّ في "فَيضِ القديرِ" في شرحِ حديثِ الثَّقَلَينِ: (( تَنبيهٌ: قال الشَّريفُ - يَقصُدُ الحَافِظَ السَّمْهُودِيّ - : هذا الخبرُ يُفهَمُ مِنهُ وُجودُ مَن يكونُ أَهلاً لِلتَّمَسُّكِ بِهِ مِن أَهلِ البيتِ والعِترةِ الطَّاهرةِ في كُلِّ زمنٍ إِلى قِيامِ السَّاعةِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ الحَثُّ المذكورُ إِلى التَّمَسُّكِ بهِ كما أَنَّ الكتابَ كذلكَ، فلذلكَ كانوا أَمَانَاً لِأَهلِ الأَرضِ فإِذا ذَهبوا ذَهَبَ أَهلُ الأَرضِ)) إنتهَىٰ.

[ فيضُ القديرِ: 3: 15]

وبِهذا المعنى أَيضَاً صَرَّحَ العَلَّامةُ الزَّرْقَانِيّ المالكيّ في "شرحِ المواهبِ"، قال: ((قال السَّمْهُودِيّ: هذا الخبر- أَي: حديثُ الثَّقَلَينِ - يُفهَمُ وجودُ مَن يكونُ أَهلاً لِلتَّمَسُّكِ بهِ مِن عِترتِهِ في كُلِّ زَمَنٍ إِلى قِيامِ السَّاعَةِ حتّى يَتَوَجَّهَ الحَثُّ المذكورُ على التَّمَسُّكِ بهِ كما أَنَّ الكتابَ كذلكَ، فلذا كانوا أَمَانَاً لِأَهلِ الأَرضِ فإِذا ذَهبوا ذَهَبَ أَهلُ الأَرضِ )) إنتهَىٰ.

[ شرحُ المواهبِ: 7: 8]

وعنِ ابْنِ حَجَرٍ في "الصَّوَاعِقِ المُحْرِقَةِ"  قال: ((وفي أَحاديثِ التَّمَسُّكِ بأَهلِ البيتِ إِشارةٌ إِلى عدمِ انْقِطاعِ مُسْتَأْهَلٍ فيهم لِلتَّمَسُّكِ بهِ إِلى يومِ القيامةِ، كما أَنَّ الكتابَ العزيزَ كذلكَ، ولهذا كانوا أَمَانَاً لِأَهلِ الأَرضِ كما سيأتي، ويَشهَدُ لِذلكَ الخبرُ السَّابِقُ: (فِي كُلِّ خَلَفٍ مِن اُمَّتِي عُدولُ مِن أَهلِ بَيتي))) إِنْتَهَى.

[ الصَّوَاعِقُ المُحْرِقَةُ: 2: 442]

وعليهِ، فمَن أَنْكرَ وُجودَ الإمامِ المهديِّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ في هذا الزَّمَانِ نُطالِبُهُ بِذِكْرِ إِمامِ حَيٍّ مِن أَهلِ البيتِ مُؤَهَّلٍ؛ لأَنْ تَتمسَّكَ الأُمَّةُ بهِ، فإِذا أَنكرَ وُجودَ مثلِ هكذا إِمامٍ فمعناه حَكَمَ على حديثِ الثَّقَلَينِ بالكذبِ وعدمِ الصَّحَّةِ، وهذا  لا يَرضاهُ العلمُ والعقلُ؛ لِثُبوتِ الحديثِ المذكورِ بالاستفاضةِ والتَّواترِ عند بعضِ علماءِ أَهلِ السُّنَّة؛ ولِصَحَّةِ الفقرةِ الواردةِ فيهِ (وَأَنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ) كما أَسْلَفْنَا، فلا مَناصَ مِنَ القول بوُجودِ الإِمامِ المَهدِيِّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ في زمانِنا هذا، كما أَثبتَهُ بالتَّواترِ علماءُ الشيعةِ، وكما نَصَّ على ودلاتِهِ وبقائِهِ حَيَّـاً جَمعٌ مِن علماءِ أَهلِ السُّنَّةِ أَيضَاً.

تقولُ: ولكنَّهُ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ غائبٌ عنِ الأَنظَارِ ولا يَتواجدُ بينَنا فكيفَ نَتَمَسَّكُ بهِ ؟!

نقولُ: لا مُلازمةَ بينَ حُضورِ الشَّخصِ والتَّمَسُّكِ بهِ، فنَحنُ الآنَ كمُسلمينَ نَتَمَسَّكُ جميعاً برسولِ ٱلله﴿ﷺ﴾ ونأخذُ بأقوالهِ ونعملُ بها مع أَنَّهُ مَيِّتٌ وغيرُ مَوجودٍ، فالغيابُ أَوِ الموتُ لا يَنفي حُجِّيّةَ اتِّباعِ الشَّخصِ والإِيمانِ بهِ.

تقولُ: ولكن ما هي الفائدةُ مِنَ التَّمَسُّكِ بهِ وهَو غائبٌ لا يتَّصلُ بنا، أَليسَ جَعْلُهُ إِمَامَاً هُو لِغرضِ فائدتِنا والاستفادةِ مِن وُجودِهِ ؟!

الجوابُ: إِنَّ سببَ غيبتِهِ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ هي الأُمَّةُ نفسُها، فهذهِ الأُمَّةُ قد أَساءَتِ التَّعامُلَ مع آبائِهِ الطَّاهرينَ مِن قِبَلِ جميعِهِم، حَتَّى قضَوا نَحبَهُم بينَ قتيلٍ في مِحرابهِ، ومَسمومٍ مُتَقَطَّعِ الكبدِ بسُمِّهِ، وذَبيحٍ مِنَ الوريدِ إِلى الوريدِ مُخَضَّبٍ بدمهِ، ومُراقَبٍ مُضطهدٍ، كالسَّجَّادِ والباقرِ والصَّادقِ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾، ومسجونٍ مُعذّبٍ، كالإِمامِ الكاظمِ (﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ ومسؤولٍ فاقدِ الصَّلاحياتِ كالرِّضا ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾، ومَنْفِيٍّ محتجزٍ، كالجَوادِ والهادي والعسكريّ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾.

فماذا تتوقَّعُ أَن يكونَ مصيرُ الإِمامِ المَهدِيّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ فيما لو بَقِيَ بينَ ظَهْرَانِيّ هذه الأُمَّةِ الَّتِي لم تَتَوَانَ عن قتلِ وغدرِ واضْطهادِ أَهلِ بيتِ نبيّها ﴿ﷺ﴾ ما استطاعوا ؟!!

مِنَ الواضح جدا أن استمرار حضور الامام المَهدِيّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾ بينَ ظَهْرَانِيّ هذه الأُمَّةِ معناه أَن ينتهي إِلى ما انتهى إِليه آباؤُهُ الطَّاهرينَ مِنَ الـقَـتْلِ أَوِالحَبْسِ أَوِ النَّفْي والاضْطِهاد.

ومِن هُنا اقْتَضت حِكمةُ المولى سبحانَهُ تَغييبَ هذا الإمامِ الهادي المَهدِيّ حَتَّى تَصِلَ الأُمَّةُ إِلى درجةٍ تُعرَفُ معها أَهمِّيَّةُ وُجودِ إِمامٍ مِن أَئَمَّةِ أَهلِ البيتِ ﴿عَلَيهِمُ السَّلَامُ﴾ بينَ ظَهْرَانِيها فَتَلْتَفُّ حولَهُ وتمتثلُ لِأوامرِهِ ولا تُفَرِّطُ فيهِ كما حصلَ في حَقِّ آبائه مِن قبل !!!

ولكن متى يكونُ ذاكَ ؟!

الجواب: يكون ذلكَ بعدَ أن يفشلَ الجميعُ في قيادةً الأُمَّةِ، وبعدَ أَن تتوالى عليها ُصنوفُ الخيبةِ والحرمانِ؛  نتيجةً لِتحكيمِها تيارات الضَّلال مِن مُلوك فاشلينَ ورؤوساءَ انتهازيِّينَ وقوميِّينَ كافرينَ وداعشيِّينَ متطرِّفينَ وغيرِهم، فيطلبونَهُ حِينَئذٍ لِيَنْقُذَهُم مِمَّا فيهِ مِن مِحَنٍ وعذابٍ.

 تقولُ الرواية عن أم سلمة: سمعت رسولَ ٱللهِ ﴿ﷺ﴾ : " يكونُ اختلافٍ عندَ موتِ خليفةٍ، فيخرُج مِن بني هاشمٍ فيأتي مكَّة، فيستخرِجُه النَّاسُ مِن بيتهِ بينَ الرُّكنِ والمقامِ، فَيُجَهِّزُ إِليه جيشَاً مِنَ الشَّامِ حَتَّى إِذا كانوا بالبيداءِ خسفَ بهِم، فيأتيهِ عصائبُ العراقِ وأَبدالُ الشَّام، ويَنشأ رجلٌ بالشامِ أَخوالُهُ مِن كَلْبٍ، فَيُجَهِّزُ إِليهِ جيشاً فيهزمَهم ٱلله فتكونُ الدائرةُ عليهم، فذلكَ يوم كلب، الخائبُ مَن خابَ مِن غنيمةِ كلب، فيُستَفتح الكنوزَ، ويقسِّم الأَموالَ، ويُلقي الإِسلامَ بجرانه إِلى الأَرضِ، فيَعيشونَ بذلكَ سِبعُ سنينَ " . أو قال : " تسع " . 

قال الهَيثَمِي: رواهُ الطَّبْرَانِي في الأَوسط، ورجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ.

[ مجمعُ الزَّوائِدِ 7: 315]

فلاحظْ قولَ النبيّ ﴿عَلَيهِ أفضل الصلاة والسَّلامُ): (فيستخرجه النَّاسِ مِن بيته) ..أَي أنّ الناس تصل إلى مرحلة من الاختلاف ما أَن تسمعَ بخروجِهِ، كما تقولُ الرُّوَايَة: (فيخرجُ مِن بني هاشم فيأتي مكَّةَ)، حتى تأتي إليه الأُمَّةِ بنفسِها تطلبه وتستخرجه من بيتِهِ ليحكمَ فيها بالحقَّ..

يقولُ السَّفارِينيّ الحنبليّ في كتابهِ "لوامعُ الأَنوارِ البَهِيَّة" عن دولةِ الإمام المهديّ ﴿عَلَيهِ السَّلَامُ﴾: (( يعملُ بسُنّةِ النَّبِيِ صلَّى ٱللهُ عليهِ وسلَّم لا يُوقظ نائماً، ويُقاتلُ على السُّنَّة لا يتركُ سُنّةً إِلَّا أَقامَها ولا بِدعة إِلَّا رفعها، يقوم بالدِّينِ آخرِ الزَّمَانِ كما قام به النَّبِيّ صلَّى الله عليهِ وسلُّم أَوَّلُهُ، يَملكُ الدُّنيا كلُّها كما ملكَ ذو القرنينِ وسليمانُ بن داوود ﴿عَلَيهِما السَّلَامُ﴾. يَكسِرِ الصَّليبَ ويقتل الخنزير ويَرِدُّ إلى المسلمين أُلفتَهُم ونعمتهم ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظُلماً وجوراً، يحثُو المالَ حثوا ولا يعده عدا ،يقسم المال صحاحا بالسويَّةِ، يرضى عنهُ ساكنُ السَّماءِ وساكنُ الأَرضِ والطيرِ في الجوِّ والوحشِ في القفر والحيتانِ في البحرِ)) إِنْتَهَى.

[ لَوَامُعُ الأَنوارِ البَهِيَّةِ: 2: 75، 76 .. وانْظُرْ: سِلسلةَ الأَحاديثِ الصَّحيحةِ لِلأَلبانِيّ: 4: 38].

 ودُمتُم سَالِمِينَ