الإمامُ (عليهِ السّلامُ) يحكمُ بظاهرِ الأمورِ كمَا كانَ يحكمُ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ)

هشام جويد/: السّلامُ عليكُم: عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ كمَا يرى الشّيعةُ أنفسهُم ومِن طريقِ رواياتهِم أنّهُ يقطعُ يدَ رَجلٍ بريءٍ، والسّؤالُ هنا: بمَا أنَّ الشّيعةَ الرّافضةَ يرونَ ويعتقدونَ بعلمِ الغيبِ لائمّتهِم على حدِّ زعمهِم، ألم يكُن يعلمُ عليٌّ بأنّهُ سيقطعُ يدَ رجلٍ عَن طريقِ الخطأِ وأنَّ الرّجلَ الذي قطعَ يدهُ بريءٌ منَ السّرقةِ؟ لا نريدُ زحفاً للشّرقِ ولا لطماً فِي الغربِ بَل نريدُ جواباً، قبلَ أن يقومَ عليٌّ بقطعِ يدِ هذا الرّجلِ البريءِ، هَل كانَ يعلمُ قبلَ قطعِ يدهِ أنَّهُ بريءٌ أم لم يكُن يعلمُ؟

: اللجنة العلمية

الأخُ هشامٌ المحترمُ، عليكمُ السّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ 

على فرضِ التّسليمِ بصحّةِ الرّوايةِ وتماميّةِ دلالتِهَا بأنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السّلامُ) قَد قطعَ يدَ شخصٍ شهدُوا عليهِ بأنّهُ سرقَ، ثمَّ جاءَ الشّهودُ برجلٍ آخرَ وقالوا لقَد أخطأنَا وأنَّ السّارقَ هوَ هذا الرّجلُ وليسَ ذاكَ، فهذا الفعلُ منهُ (عليهِ السّلامُ) مطابِقٌ للشّرعِ ولا مشكلةَ فيهِ مطلقاً؛ لأنَّ الإمامَ (عليهِ السّلامُ) حكمَ بقطعِ يدِ السّارقِ بحسبِ الظّاهرِ والبيّنةِ، والشّهودُ يتحمّلونَ جزاءَ خطئهِم، ومِن هُنا لم يقبَلْ (عليهِ السّلامُ) شهادتهمَا على الثّانِي وغرَمَهمَا ديّةَ الأوّلِ [كمَا فِي: تهذيبِ الأحكامِ، للشّيخِ الطّوسيِّ 10:153]، فالإمامُ (عليهِ السّلامُ) مأمورٌ بأن يحكمَ بحسبِ الظّاهرِ والبيّناتِ ولا يستندَ إلى علمهِ الخاصِّ بالغيبيّاتِ، تماماً كمَا كانَ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) يفعلُ ذلكَ، فالنّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) معَ علمهِ بالمغيّباتِ كمَا تشهدُ لذلكَ الأحاديثُ الصّحيحةُ المتكاثِرَةُ فِي صحاحِ أهل السّنّةِ ومَسانيدهِم كانَ يقضِي حسبَ الظّاهرِ والبيِّناتِ.

روى مسلمٌ فِي صحيحهِ عَن حذيفةَ قالَ: «قامَ فينَا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ مقاماً مَا تركَ شيئاً يكونُ فِي مقامهِ ذلكَ إلى قيامِ السّاعةِ إلّا حدّثَ بهِ، حفظَهُ مَن حفظهُ، ونسيَهُ مَن نسيهُ قَد علّمهُ أصحابِي هؤلاءَ وأنّهُ ليكونُ منهُ الشيءُ قَد نسيتهُ فأراهُ فاذكرهُ كمَا يذكرُ الرّجلُ وجهَ الرّجلِ إذا غابَ عنهُ ثمَّ إذا رآهُ عرفهُ». [صحيحُ مسلِمٍ 8: 172 بابُ إخبارِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ فيمَا يكونُ إلى قيامِ السّاعةِ]. 

فهذا إخبارٌ واضحٌ بالغيبِ، وقَد يقولُ قائلٌ بأنَّ هذا إخبارٌ عَن نوعٍ خاصٍّ منَ المغيّباتِ وهيَ الفتنُ فقَط وليسَ مُطلقاً.

نقولُ هوَ ليسَ إخباراً عنِ الفتنِ فقَط، بَل هوَ حديثٌ عَن مُطلقِ الأشياءِ، بدليلِ قولهِ: (مَا تركَ شيئاً يكونُ فِي مقامهِ ذلكَ إلى قيامِ السّاعةِ إلّا حدّثَ بهِ)، فالحديثُ مُطلقٌ مِن هذهِ النّاحيةِ.

وفِي صحيحِ البخاريِّ، كتابُ بدءِ الخلقِ ج4 ص 73 عَن طارقٍ بنِ شهاب: "فأخبرَنَا عَن بدءِ الخلقِ حتّى دخلَ أهلُ الجنّةِ منازلهُم وأهلُ النّارِ منازلهُم".

وهذا بيانٌ صريحٌ بأنَّ الإخبارَ لَم يكُن عنِ الفتنِ، بَل عنِ النّاسِ والأشخاصِ ومصيرِ الخلائقِ. 

وفِي صحيحِ مسلِمٍ ج8 ص 173 أيضاً عَن علباءَ بنِ أحمرَ عَن عمرو بنِ أخطب: "فأخبرنَا بمَا كانَ وبمَا هوَ كائنٌ، فأعلمنَا أحفظنَا". 

وهذا الحديثُ مُطلقٌ في إخبارهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ)، ولَم يقيّدْ بالفتنةِ فقَط، ويوجدُ غيرُ هذهِ الأحاديثِ الكثيرُ الكثيرُ.

فهذا العلمُ بالغيبِ الذي رزقهُ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لَم يكُن يلجأ إليهِ فِي كلِّ حينٍ ولم يكُن يعمَلُ بهِ فِي الأحكامِ والقضاءِ بَل كانَ يقضِي حسبَ الظّاهرِ والبيّناتِ، وكانَ يقولُ للمسلمينَ بصريحِ العبارةِ: (إنّكُم تختصمونَ إليَّ ولعلَّ بعضكُم يكونُ ألحنَ بحجّتهِ مِن بعضٍ فأقضِي لهُ على نحوٍ ممَّا أسمعُ منهُ فمَن قطعتُ لهُ مِن حقِّ أخيهِ شيئاً فلا يأخذهُ فإنّمَا أقطعُ لهُ بهِ قطعةً منَ النّارِ). [صحيحُ مسلِمٍ 5:129].

إلّا أنَّهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) كانَ فِي بعضِ الأحيانِ يلجأُ إلى هذا العلمِ ولكنَّ عقولَ النّاسِ ونفوسَهُم لا تتحمّلهُ فيمتنعُ منهُ.

روى البخاريُّ فِي صحيحهِ: (عنِ الزّهريِّ قالَ: أخبرنِي أنسٌ بنُ مالكٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ خرجَ حينَ زاغتِ الشّمسُ فصلّى الظّهرَ فقامَ على المنبرِ فذكرَ السّاعةَ فذكرَ أنَّ فيهَا أموراً عظاماً ثمَّ قالَ: مَن أحبَّ أن يسألَ عَن شيءٍ فليسأل فلا تسألونِي عَن شيءٍ إلّا أخبرتكُم مَا دمتُ فِي مقامِي هذا فأكثرَ النّاسُ فِي البكاءِ وأكثرَ أن يقولَ: سلونِي فقامَ عبدُ اللهِ بنُ حذافةَ السّهمي فقالَ: مَن أبِي؟ قالَ: أبوكَ حذافةُ ثمَّ أكثرَ أن يقولَ سلونِي فبركَ عُمرُ على ركبتيهِ فقالَ: رضينَا باللهِ ربّاً وبالإسلامِ ديناً وبمحمّدٍ نبيّاً فسكتَ). [صحيحُ البخاري 1:136].

فهُنا كمَا نلاحظُ لَم يتحمَّلْ عمرُ بنُ الخطّابِ حديثَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) بالمغيّباتِ والكشفِ عَن أنسابِ النّاسِ حتّى بركَ على ركبتيهِ وقالَ مَا قالَ فسكتَ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) عنِ الكلامِ.

فليسَ كلُّ كلامٍ بالمغيّباتِ تتحمّلهُ النّاسُ، والنّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) والأئمّةُ الأطهارُ (عليهمُ السّلامُ) مأمورونَ بالحديثِ معَ النّاسِ على قدرِ عقولهِم. 

ودمتُم سالِمينَ.