هَل تجوزُ مُخالفةُ توجيهاتِ المرجعِ السّياسيّة؟

أرجو الرّدَّ على سؤالي جزاكُم اللهُ خيراً هَل يجوزُ لعمومِ النّاسِ أن يُبدوا وجهةَ نظرِهم حيالَ موقفِ المرجعِ السّياسيّ، والإجتماعيّ والثّقافيّ؟ وهل تجوزُ لهُم مخالفتُه في ذلكَ؟

: اللجنة العلمية

قبلَ الإجابةِ لابدَّ مِن توضيحٍ مُختصرٍ لمعنى المرجعيّةِ ودورِها:

المرجعيّةُ مُصطلحٌ يُطلَقُ على قيادةِ الفُقهاءِ للشّؤونِ الدّينيّةِ عندَ الشّيعة، والمرجعُ هوَ عالمٌ مُجتهدٌ يتولّى أمورَ المُؤمنينَ ويتصدّى لرعايةِ مصالحِهم الدّينيّةِ والدّنيويّةِ كالقضاءِ وإقامةِ الحدودِ مُضافاً إلى بيانِ الأحكامِ الشّرعيّةِ لعامّةِ النّاس، ويستمدُّ المرجعُ شرعيّتَه في القيادةِ منَ الإمامِ المعصومِ الذي أوجبَ على شيعتِه الرّجوعَ إلى الفُقهاءِ في زمنِ الغيبةِ، ويُشترَطُ للوصولِ إلى مقامِ المرجعيّةِ شروطٌ مُفصّلةٌ في كُتبِ الفقهِ، يقولُ العلّامةُ مُحمّد رضا المُظفَّر: وعقيدتُنا في المُجتهدِ الجامعِ للشّرائطِ، أنّهُ نائبٌ للإمامِ عليه السّلام في حالِ غيبتِه، وهوَ الحاكمُ والرّئيسُ المُطلَقُ، لهُ ما للإمامِ في الفصلِ في القضايا والحكومةِ بينَ النّاس، والرّادُّ عليه رادٌّ على الإمامِ والرّادُّ على الإمامِ رادٌّ على اللهِ تعالى، وهوَ على حدِّ الشّركِ باللهِ كما جاءَ في الحديثِ عَن صادقِ آلِ البيتِ عليه السّلام.[1]

والمرجعيّةُ الشّيعيّةُ هيَ مُؤسّسةٌ مُستقلّةٌ غيرُ مُرتهنةٍ لأيّ نظامٍ سياسيٍّ، ممّا يجعلُها مُتحرّرةً مِن أيّ ضغوطٍ سُلطويّةٍ، وبالتّالي هيَ ليسَت مدينةً لدولةٍ ولا لجهازِ إعلام؛ بَل تعملُ فقَط على خدمةِ الإنسانِ الشّيعيّ وترعى مصالحَهُ، ومِن هُنا فإنَّ توجيهاتِ المرجعِ مُلزِمَةٌ لمَن يعتقدُ بأنَّ الفُقهاءَ يُمثّلونَ الإمتدادَ الطّبيعيَّ لولايةِ أهلِ البيتِ (عليه السّلام) في زمنِ الغيبةِ، والمُتابعُ للدّورِ المرجعيّ في طولِ مسارِه التّاريخيّ سيرى بوضوحٍ أنَّ المرجعيّةَ ليسَت لها سُلطةٌ تنفيذيّةٌ تعملُ على إخضاعِ النّاسِ وإلزامِهم لإتّباعِ أمرِها، وإنّما تعتمدُ على إيمانِ النّاسِ ومدى إخلاصِهم وحُبِّهم للدّين.

ولكَي تتّضحَ الإجابةُ على السّؤالِ يُمكِنُنا الإستعانةُ بتقسيمِ دورِ المرجعيّةِ إلى قسمين، القسمُ الأوّلُ: هو بيانُ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وفي هذا الشّأنِ تقومُ المرجعيّةُ بتفصيلِ الأحكامِ في شكلِ مسائلَ بحسبِ أبوابِ الفقهِ حتّى يسهُلَ على عامّةِ النّاسِ تطبيقُها. والقسمُ الثّاني: وهوَ القسمُ المُتعلّقُ بالتّوجيهاتِ العامّةِ في ما يخصُّ الشّأنَ السّياسيّ والإجتماعيّ والثّقافي، ودورُ المرجعيّةِ هُنا إعطاءُ إرشاداتٍ عامّةٍ ولا تدخلُ في الجوانبِ التّفصيليّةِ، فمثلاً لو كانَ هُناكَ مظالمُ سياسيّةٌ فإنَّ المرجعيّةَ تتحدّثُ عَن ضرورةِ العدلِ ولا تتبنّى خياراً سياسيّاً مُعيّناً للوصولِ لذلكَ العدلِ، وكذلكَ لو كانَت الدّولةُ من دونِ دستورٍ يحمي جميعَ أفرادِ المُجتمعِ فإنَّ المرجعيّةَ تتحدّثُ عَن أهمّيّةِ الدّستورِ ولا تتبنّى دستوراً بعينِه، أو إذا كانَ هُناكَ عدوٌّ خارجيٌّ يتهدّدُ الدّولةَ فإنَّ المرجعيّةَ تأمرُ بمواجهتِه من دونِ أن تدخُلَ في تفاصيلِ المواجهةِ، والأمثلةُ على ذلكَ كثيرةٌ، وهكذا الحالُ في الأمورِ الإجتماعيّةِ فلو كانَ هُناكَ ما يُهدّدُ قيمَ المُجتمعِ وترابُطَه فإنَّ المرجعيّةَ تتصدّى لمواجهةِ هذهِ الأخطارِ، والحالُ نفسُه في الشّأنِ الثّقافيّ فإنَّ المرجعيّةَ تُمثّلُ الدّرعَ الحصينَ في قبالِ الهجماتِ الثّقافيّةِ المُستهدفَةِ للإسلامِ، وغيرُ ذلكَ منَ الأمثلةِ، والتّاريخُ المرجعيُّ عندَ الشّيعةِ يشهدُ على ما قامَت بهِ مِن أدوارٍ كبيرةٍ حافظَت على الشّيعةِ في أصعبِ الظّروفِ، ومعَ ذلكَ لم تتبنَّ المرجعيّةُ التّصدّي التّفصيليّ لما يتعلّقُ بالشّؤونِ السّياسيّةِ، بَل حتّى في الأنظمةِ السّياسيّةِ التي حكمَ فيها الشّيعةُ كانَ دورُ المرجعِ التّوجيهُ العامُّ ولَم يتورَّط بتفصيلاتِ الشّأنِ السّياسيّ، وبهذا الشّكلِ تفتحُ المرجعيّةُ الطّريقَ أمامَ عامّةِ النّاسِ مِن أجلِ القيامِ بأدوارِهم السّياسيّةِ والإجتماعيّةِ والثّقافيّةِ بكُلِّ توجّهاتِهم وأحزابِهم، وهكذا لا يمكنُ أن نتصوّرَ حدوثَ أيّ تصادمٍ بينَ المرجعيّةِ وبينَ مَن يتولّونَ الشّأنَ السّياسيّ طالَما أنّها لا تتبنّى طرحاً تفصيليّاً وإجرائيّاً يُشكّلُ مُنافساً للسّياسيّينَ، وفي المُقابلِ طالما لَم ينحرِف السّياسيّونَ عنِ القيمِ الكُبرى مثلِ الحُرّيّاتِ والعدالةِ والحقوقِ وغيرِ ذلك، ومِن هُنا فإنَّ إفتراضَ إمكانيّةِ مُخالفةِ المرجعيّةِ في هذهِ الشّؤونِ يقومُ على توهّمٍ بأنَّ المرجعيّةَ تتولّى الشّأنَ السّياسيَّ بسُلطاتِه التّشريعيّةِ والتّنفيذيّةِ وهذا يخالفُ الواقعَ، وإذا إتّضحَ ذلكَ فإنَّ مُخالفةَ المرجعيّةِ في توجيهاتِها العامّةِ غيرُ مُبرّرٍ طالَما أنّها تستهدفُ مِن ذلكَ الحفاظَ على الخطوطِ العامّةِ والقيمِ الكُبرى، وهذا ما لا يجوزُ الإعتراضُ عليه.

[1] - المُظفَّر، عقائدُ الإماميّة، ص 46.