لِماذا لا يُبلّغُ اللهُ رسالتَهُ لكُلِّ شخصٍ بذاتِه؟

زاهر/: لماذا لَم يُرسل اللهُ رسالتَه إلى كلِّ شخصٍ بذاتِه دونَ الحاجةِ لرُسلٍ؟

: اللجنة العلمية

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لسّؤالِ العلميّ أصولُه وقواعدُه التي يجبُ أن يلتزمَ بها الباحثُ عنِ الحقيقةِ، وكونُ السّؤالِ مفتاحَ المعرفةِ لا يعني أن يكونَ السّؤالُ مُجرّدَ حالةٍ عبثيّةٍ وافتراضاتٍ هُلاميّةٍ، فعندَما يطرحُ الباحثُ بعضَ الأسئلةِ فهوَ إمّا أن يكونَ في مقامِ المُتعلّمِ الذي يستوضحُ الأمورَ الغامضةَ، وإمّا أن يكونَ في مقامِ التّعليمِ فيُقدّمُ لبحثِه بمجموعةٍ منَ الأسئلةِ التي تتضمّنُ الحلولَ المُمكنةَ التي يفترضُها الباحثُ للمُشكلةِ، ومِن هُنا فإنَّ السّؤالَ الذي طرحَهُ الأخُ زاهر غيرُ واضحٍ، فهَل هوَ مُجرّدُ مُستفهمٍ؟ أم أنّهُ يُقدّمُ مِن خلالِ هذا السّؤالِ طرحاً جديداً مُخالِفاً لسُنّةِ الأنبياءِ والرّسلِ؟ وعندَها ليسَ أمامَنا إلّا أن ننتظرَهُ يشرحُ لنا هذهِ النّظريّةَ بشكلٍ كاملٍ ومُفصّلٍ.

وإذا افترضنا أنّهُ مُجرّدُ مُستفهمٍ أي أنّهُ يسألُ عنِ المانعِ في أن يُرسلَ اللهُ رسالتَهُ لكُلِّ شخصٍ بذاتِه، فعندئذٍ يمكنُ بيانُ تلكَ الموانعِ التي تجعلُ ذلكَ الإفتراضَ مُستحيلاً، ولا يحتاجُ الأمرُ إلى كثيرِ عناءٍ فمُجرّدُ الرّجوعِ إلى تركيبةِ سؤالِه يُمكنُنا أن نكتشفَ الموانعَ، فقَد إفترضَ مِن خلالِ سؤالِه أن يكونَ كلُّ إنسانٍ رسولاً لنفسِه، إلّا أنّهُ لم يضَع أساساً واضِحاً لهذهِ الفرضيّةِ، بمعنى أنّهُ لَم يُبيِّن كيفيّةَ هذا المُقترحِ، فهَل يتمُّ ذلكَ مِن خلالِ أن يخلُقَ اللهُ الإنسانَ وهوَ مُبرمجٌ برسالتِه منَ الأساسِ؟ أم يتحقّقُ ذلكَ مِن خلالِ إرسالِ رسولٍ خاصٍّ لكُلِّ فردٍ حتّى يُبلّغَهُ الرّسالةَ؟ فإذا كانَ إقتراحُه يقومُ على الخيارِ الأوّلِ أي أن يكونَ الإنسانُ في أصلِ تكوينِه رسولاً لنفسِه، فحينَها لا يصبحُ هناكَ رسالةٌ منَ الأساسِ وإنّما برمجةٌ مُسبَقةٌ قَد وُجدَت معهُ، فإذا كانَت رسالةُ اللهِ للإنسانِ أن يكونَ مؤمِناً بعدَ أن لَم يكُن كذلكَ، فما هيَ الرّسالةُ عندَما يخلقُ الإنسانَ وهوَ مؤمنٌ؟ فلَو خُلقَ الإنسانُ وهو مُبرمجٌ على تعاليمَ مُحدّدةٍ كما هوَ الحالُ في النّحلِ والنّملِ وغيرِ ذلكَ منَ الكائناتِ التي خُلقَت وصُمّمَت لأداءِ رسالةٍ مُحدّدةٍ، حينَها لا يبقى معنىً لرسولٍ ولا معنى لرسالةٍ، ومنَ الواضحِ أنَّ أساسَ فلسفةِ الرّسالةِ قائمٌ على كونِ الإنسانِ مُكلّفاً باختيارِه أن يتّبعَ تشريعاتِ اللهِ تعالى، وهذا خلافُ إتّباعِ الإنسانِ لمُقتضى ما تأمرُ بهِ الطّبيعةُ التّكوينيّةُ.

 أمّا إذا كانَ يقصدُ بقولِه يرسلُ رسالتَه لكُلِّ شخصٍ بمعنى أن يكونَ هُناكَ رسولٌ يأتي بالرّسالةِ التي لَم يكُن لهُ بها سابقُ معرفةٍ؟ وهُنا نسألُ عَن طبيعةِ هذا الرّسولِ، هَل هوَ منَ البشرِ؟ أم منَ الملائكةِ؟ فإن كانَ منَ البشرِ؟ فهذا يعني أنَّ كُلَّ واحدٍ منَ البشرِ يُقابلُه رسولٌ منَ البشرِ، وهذا إفتراضٌ لا ينسجمُ معَ طبيعةِ البشرِ ولا معَ طبيعةِ الرّسالةِ، وذلكَ لأنَّ الرّسالةَ إمّا أن تكونَ ذاتَ طبيعةٍ واحدةٍ وتعاليمَ مُشتركة، وإمّا أن يكونَ لكُلِّ واحدٍ رسالةٌ تختلفُ عنِ الآخرِ، فإن كانَت مُشتركةً فما الحِكمةُ بأن يُكلِّفَ بها نصفَ البشرِ في حينِ أنَّ رسولاً واحداً يُمكنُ أن يُبلّغَ الجميع؟ أمّا إذا كانَ لكُلِّ فردٍ رسالةٌ تختلفُ عنِ الآخرِ، فكيفَ يمكنُ أن نتصوّرَ أن يعيشَ الجميعُ في كوكبٍ واحدٍ وكلُّ واحدٍ منهُما يحملُ رسالةً وأهدافاً وأوامرَ تختلفُ معَ الآخرِ؟

أمّا إذا كانَ الرّسولُ المُبلّغُ لرسالةِ اللهِ لكُلِّ شخصٍ هوَ منَ الملائكةِ فحينَها لا داعي لهذهِ الرّسالةِ منَ الأساسِ، لأنَّ هذا يعني بلوغَ الإنسانِ مرتبةً منَ العلمِ والمعرفةِ والأخلاقِ الرّفيعةِ بالشّكلِ الذي تؤهّلُه للإتّصالِ المُباشرِ باللهِ عبرَ ملائكتِه، والإنسانُ عندَما يكونُ مُؤهّلاً لدرجةٍ يُصبحُ معَها رسولاً يتلقّى الوحيَ والغيبَ لا يكونُ بحاجةٍ إلى أن يبعثَ لهُ اللهُ رسالةً خاصّةً؛ وذلكَ لأنّهُ كاملٌ وتكليفُه بما يعرفُ تحصيلٌ للحاصلِ، ومِن هُنا كانَ منَ الطّبيعيّ أن تكونَ هُناكَ نماذجُ مُحدّدةٌ منَ البشرِ وصلَت إلى مرحلةٍ منَ الكمالِ تكونُ محلّاً للإصطفاءِ للرّسالةِ، وهذا ما عليهِ واقعُ الحالِ، أي أنَّ اللهَ يصطفي مِن خلقِه بشراً جعلَهُم رُسلاً لغيرِهم.

ويبدو أنَّ القصورَ في فهمِ فلسفةِ الرّسولِ والرّسالةِ هوَ الذي يدفعُ إلى مثلِ هذهِ الأسئلةِ، وقَد ينسى البعضُ أنَّ الإنسانَ هوَ إستثناءٌ مِن بينِ المخلوقاتِ، فيتصوّرُ إمكانيّةَ القيامِ بدورِه في الحياةِ كما تؤدّي بقيّةُ المخلوقاتِ دورَها من دونِ تدخُّلِ أيّ وصايةٍ عليها، وهوَ بذلكَ يتجاهلُ أنَّ جميعَ المخلوقاتِ تؤدّي دورَها تكوينيّاً وضمنَ أهدافٍ مرسومةٍ سلفاً، بينَما الإنسانُ يُؤدّي دورَهُ تشريعيّاً وضمنَ أهدافٍ يُساهمُ هوَ في رسمِها وتحديدِها، ولو تُرِكَ الإنسانُ ونفسَه فسوفَ يرسمُ أهدافَهُ بما تُمليهِ عليهِ مصلحتُه الشّخصيّةُ، ومِن هُنا كانَ فرضُ الوصايةِ القانونيّةِ والتّشريعيّةِ ضرورةً مِن أجلِ أن تتّسعَ الحياةُ للجميع، وبالتّالي مبدأُ التّدخّلِ في حياةِ الإنسانِ وتوجيهِها مبدأٌ يتّفقُ عليهِ جميعُ العُقلاءِ، كما أنّهُ حقيقةٌ مشهودةٌ وماثلةٌ أمامَ أنظارِ الجميعِ فالحياةُ الإنسانيّةُ لا يمكنُ أن تستمرَّ من دونِ أنظمةٍ وقوانينَ وسلطةٍ حاكمةٍ، فصراعُ إراداتِ البشرِ واختلافُ مصالحِهم وأهدافِهم تؤدّي حتماً إلى فسادِ الحياةِ ما لَم يكُن هناكَ تدخّلٌ ووصايّةٌ، وإذا تسالمَ الجميعُ على هذهِ الحقيقةِ لا يسعُهم أن يرفضُوا فكرةَ الرّسولِ والرّسالةِ لأنّها قائمةٌ على ذاتِ المبدأ، وتوهُّمُ البعضِ بأنَّ البشريّةَ لها القُدرةُ على سنِّ القوانينِ بما يجعلُها تستغني عنِ التّشريعاتِ السّماويّةِ إنّما هوَ توهّمٌ ناتجٌ منَ النّظرةِ القاصرةِ لطبيعةِ الحياةِ الإنسانيّةِ، فالقوانينُ الوضعيّةُ مهما تبلغُ مِنَ الدّقّةِ والإحاطةِ فإنّها لا تتجاوزُ النّظرةَ المادّيّةَ الضّيّقةَ للحياةِ، وكلُّ ما يمكنُ أن تحقّقَهُ هوَ منعُ التّعدّي على حقوقِ الآخرينَ بقوّةِ السُّلطةِ، إلّا أنَّ تلكَ الحقوقَ لا تتعدّى مصلحةَ الإنسانِ في حدودِها الدُّنيا، فكرامةُ الإنسانِ وقيمتُه الأخلاقيّةُ وما يُمثّلُه مِن أهدافٍ معنويّةٍ كُبرى وما يتحمّلُه مِن أمانةٍ لا يتحقّقُ إلّا ضمنَ الإحاطةِ بفلسفةِ خلقِ الإنسانِ ووجودِه، والقوانينُ الوضعيّةُ وإن كانَت تُساهمُ في ضبطِ الصّراعِ بينَ مصالحِ البشرِ واختياراتِهم المُتباينةِ، إلّا أنّها غيرُ مُلتفتةٍ إلى ما يقفُ خلفَ الحياةِ مِن إرادةٍ كُبرى مسؤولةٍ عنِ الحياةِ ككُلٍّ وجوداً وعدماً، وإذا كانَ للهِ إرادةٌ وحِكمةٌ منَ الحياةِ فعلى الإنسانِ كشفُها أوّلاً والسّيرُ على وفقِها ثانياً، وبالتّالي فإنَّ النّظرةَ العبثيّةَ للكونِ والحياةِ هيَ المسؤولةُ عَن أيّ تشكيكٍ في فلسفةِ الرّسالاتِ؛ والذي ينطلقُ مِن إيمانٍ بوجودٍ فلسفةٍ خلفَ الحياةِ سوفَ يبحثُ عَن رسالاتِ اللهِ بوصفِها المُعبّرةَ عَن إرادتِه تعالى، وعليهِ فإنَّ الرّسالةَ في حقيقتِها هيَ توجيهُ إرادةِ الإنسانِ وأهدافِه بما ينسجمُ معَ إرادةِ اللهِ، وبما أنَّ إرادةَ اللهِ واحدةٌ وحِكمتُه منَ الخلقِ مُحدّدةٌ فإنَّ رسالتَه للإنسانِ أيضاً واحدةٌ، والرّسالةُ الواحدةُ تحتاجُ إلى رسولٍ واحدٍ لتبليغِها.

وما يميّزُ رسالاتِ اللهِ على جميعِ الأنظمةِ والقوانينِ الوضعيّةِ أنّها تعملُ على رفعِ الإنسانِ إلى مُستوى المسؤوليّةِ، فيندفعُ مِن وحي إيمانِه ليُحافظَ على حقوقِ الآخرينَ، بَل قَد يأمرُه الدّينُ بتقديمِ مصلحةِ الآخرينَ على مصلحتِه، وهكذا تُهذّبُ رسالاتُ اللهِ النّفوسَ وتُزكّيها وبذلكَ تقضي منَ الأساسِ على صراعِ المصالحِ والإراداتِ، كما أنّها ترسمُ للإنسانِ أهدافاً جديدةً تتعدّى الحياةَ الدُّنيا لتجعلَهُ يطمحُ في حياةٍ أبديّةٍ أُعِدَّت للمُتّقينَ، والتّقوى لا تعني أكثرَ منَ الحذرِ مِن مُخالفةِ إرادةِ اللهِ وأمرِه.

وفي المُحصّلةِ إنَّ الوقوفَ على حِكمةِ الحياةِ يوجبُ على الإنسانِ الإيمانَ بوجودِ رسالةٍ، والوقوفَ على طبيعةِ الإجتماعِ الإنسانيّ توجبُ الإيمانَ بالرّسولِ، والوقوفَ على طبيعةِ الإنسانِ توجبُ الإيمانَ بعدمِ صلاحيّةِ الجميعِ لأن يكونوا أنبياءَ ورُسلاً.