ما هي الطريقة التي نستطيع من خلالها، إستخراج الآلية التي اشتغل عليها علماء الحديث في محاكمتهم العلمية للراوي. وما المعول عندهم من الطرائق في عملية التوثيق؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله 

علمُ الرّجالِ أحدُ الأدواتِ الرّئيسيّةِ في الإستدلالِ على صحّةِ الرّوايةِ عَن طريقِ إستقصاءِ القرائنِ والأماراتِ، على كونِ الرّاوي أو الذي يروي عنهُ ثقةً، مؤتمَناً على حملِ الرّوايةِ، ونقلِها للأجيالِ المُتعاقبةِ، دونَ التّورّطِ في الكذبِ، أو التّغييرِ، أو التّحويرِ، أو كلِّ ما يمسُّ جوهرَ الحديثِ بسوءٍ، وقَد نبَّه أئمّةُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) منَ الكذّابينَ وبيّنوا لأصحابِهم شروطَ قبولِ الرّوايةِ، فأشارَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) إلى ضرورةِ الإسنادِ في الرّوايةِ بقولِه: «إذا حدّثتُم بحديثٍ فأسندوهُ إلى الذي حدّثكُم، فإن كانَ حقّاً فلكُم، وإن كانَ كذباً فعليهِ»( ).  

وقَد فصّلَ الإمامُ الكاظمُ (عليه السّلام) الحديثَ عَن بعضِ الكذّابينَ وعصورِهم كنماذجَ للرّواةِ الذينَ يجبُ الحذرُ منهُم، فقالَ: «ما أحدٌ إجترأ أن يتعمّدَ الكذبَ علينا إلّا أذاقَهُ اللهُ حرَّ الحديد، وإنَّ (بياناً) كذبَ على (عليٍّ بنِ الحُسين) (عليه السّلام)، فأذاقهُ اللهُ حرَّ الحديدِ، وإنَّ (المُغيرةَ بنَ سعيدٍ) كذبَ على (أبي جعفرٍ) (عليه السّلام)، فأذاقَهُ اللهُ حرَّ الحديدِ، وإنَّ (أبا الخطّابِ) كذبَ على أبي جعفر الصّادقِ (عليه السّلام) فأذاقَهُ اللهُ حرَّ الحديدِ، وإنَّ (محمّـداً بنَ بشيرٍ) لعنَهُ اللهُ يكذبُ عليَّ، برئتُ إلى اللهِ منهُ... »( ).  

وينقلُ محمّـدٌ بنُ عيسى بنِ عُبيدٍ، عَن يونسَ بنِ عبـدِ الرّحمنِ: أنَّ يونسَ قد سألَهُ بعضُ الأصحابِ: «يا أبا محمّـدٍ، ما أشدّكَ في الحديثِ وأكثرَ إنكارِكَ لما يرويهِ أصحابُنا، فما الذي يحملُكَ على ردِّ الأحاديثِ؟! فقالَ: حدّثني هشامٌ بنُ الحكمِ أنّه سمعَ أبا عبـدِ الله (عليه السّلام) يقولُ: لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافقَ القُرآنَ والسّنّةَ، أو تجدونَ معهُ شاهداً مِن أحاديثِنا المُتقدّمةِ. فإنَّ (المُغيرةَ بنَ سعيد) لعنَه اللهُ دسَّ في كتبِ أصحابِ أبي أحاديثَ لم يحدِّث بها أبي، فاتّقوا اللهَ ولا تقبلوا علينا ما خالفَ قولَ ربّنا تعالى وسنّةَ نبيّنا (صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم) فإنّا إذا حدّثنا قُلنا: قالَ اللهُ عزَّ وجلّ، وقالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم).   

قالَ يونس: وافيتُ العراقَ، فوجدتُ بها قطعةً مِن أصحابِ أبي جعفرٍ (عليه السّلام)، ووجدتُ أصحابَ أبي عبـدِ الله (عليه السّلام) متوافرينَ، فسمعتُ منهُم، وأخذتُ كُتبَهم، فعرضتُها مِن بعدُ على (أبي الحسنِ الرّضا) (عليه السّلام)، فأنكرَ منها أحاديثَ كثيرةً أن تكونَ أحاديثَ أبي عبـدِ اللهِ (عليه السّلام)، وقالَ لي: إنَّ أبا الخطّابِ كذبَ على أبي عبـدِ الله (عليهِ السّلام)، لعنَ اللهُ أبا الخطّابِ، وكذلكَ أصحابَ أبي الخطّابِ يدسّونَ الأحاديثَ إلى يومِنا هذا في كتبِ أصحابِ أبي عبـدِ اللهِ (عليه السّلام) فلا تقبلوا علينا خلافَ القُرآنِ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقةِ القُرآنِ، وموافقةِ السّنّةِ، إنّا عنِ اللهِ وعَن رسولِه نُحدّثُ، ولا نقولُ: قالَ فلانٌ وفلانٌ فيتناقضُ كلامُنا. إنَّ كلامَ آخرِنا مثلُ كلامِ أوّلِنا، وكلامَ أوّلِنا مُصادقٌ لكلامِ آخرِنا. فإذا أتاكُم مَن يُحدّثُكم بخلافِ ذلكَ فردّوه عليه، وقولوا: أنتَ أعلمُ وما جئتَ به، فإنَّ معَ كلِّ قولٍ منّا حقيقةً وعليه نوراً، فما لا حقيقةَ معهُ ولا نورَ عليه فذلكَ مِن قولِ الشّيطان»( ).  

ومِن هُنا أصبحَ علمُ الرّجالِ منَ العلومِ الشّرعيّةِ المُهمّةِ لارتباطِه بالأخبارِ والرّواياتِ عنِ المعصومينَ (عليهم السّلام)، وإلى ذلكَ أشارَ العلاّمةُ الحلّيّ (ت 726 هـ) بأنَّ (العلمَ بحالِ الرّواةِ مِن أساسِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وعليهِ تُبنى القواعدُ السّمعيّةُ، يجبُ على كلِّ مُجتهدٍ معرفتُه وعلمُه، ولا يسوغُ لهُ تركُه وجهلُه، إذ أكثرُ الأحكامِ تُستفادُ منَ الأخبارِ النّبويّةِ، والرّواياتِ عنِ الأئمّةِ المهديّةِ ـ عليهم أفضلُ الصّلاةِ وأكرمُ التّحيّاتِ ـ فلا بدَّ مِن معرفةِ الطّريقِ إليهم، حيثُ روى مشايخُنا ـ رحمَهم اللهُ ـ عنِ الثّقةِ وغيرِه، ومَن يُعمَلُ بروايتِه، ومَن لا يجوزُ الإعتمادُ على نقلِه).  

والآليّةِ المُستخدمَةُ عندَ الفقهاءِ للتّمييزِ بينَ الرّاوي الثّقةِ أو غيرِه قائمةٌ على جمعِ القرائنِ والأماراتِ، والطّريقُ إلى ذلكَ كتبُ التّراجمِ التي جمعَت أخبارَهم، ومِن خلالِ دراسةِ أحوالِ الرّواةِ أو شهادةِ العدولِ على صدقِهم أو غيرِ ذلكَ مِن وسائلِ التّحقيقِ التّاريخيّ، وهناكَ مساحةٌ لاجتهادِ الفقيهِ مِن خلالِ دراسةِ الكتبِ الرّجاليّةِ المُختلفةِ وضمنَ معاييرهِ الخاصّةِ يمكنُه التّوثيقُ أو عدمُه بحسبِ قرائنَ ظهرَت له ولم تظهَر لغيرِه.

ويعتمدُ علمُ الرّجالِ بشكلٍ عامّ على بعضِ المباني الخاصّةِ وهيَ:  

1 ـ إنَّ الرّاوي الممدوحَ يُعمَلُ بروايتِه، بينما تُهملُ روايةُ الرّاوي الذي وردَ فيه ذمٌّ أو قدحٌ.  
2 ـ فسادُ المذهبِ لا يتعارضُ معَ التّوثيقِ. فالأصلُ أن يكونَ الرّاوي صادِقاً في نقلِ الحديثِ بأمانةٍ. ولذلكَ أخذَ الفقهاءُ بالرّواةِ مِن مذاهبَ مُختلفةٍ فاسدةٍ كالواقفيّةِ والفطحيّة، بشرطِ لم يثبُت عليهم الكذبُ، وأنّهم رووا الحديثَ وقتَ استقامتِهم. أي أنَّ الأصلَ في علمِ الرّجالِ هوَ: قبولُ الخبرِ، لا قبولُ الشّهادةِ.  
3 ـ فرّقَ علماءُ الرّجالِ بينَ المجهولينَ والمُهملينَ. فالمُرادُ منَ (المجهولِ) هوَ: مَن صرّحَ أئمّةُ الرّجالِ فيه بالمجهوليّةِ، وهوَ: أحدُ ألفاظِ الجرحِ. والمرادُ منَ (المُهمَلِ) هوَ: مَن عنونَه أئمّةُ الرّجالِ ولم يُضعّفوهُ، بَل لم يُذكَر فيهِ مدحٌ ولا قدحٌ. وقَد بدأَ الإهتمامُ بأسماءِ المُهملينَ عندَ الفقهاءِ المُتأخّرينَ إلى درجةِ أنَّ ابنَ داوُدَ الحلّيّ (ت 707 هـ) كانَ يعملُ بخبرِهم كالممدوحينَ.
4 ـ إنَّ النّظريّةَ الحديثةَ في علمِ الرّجالِ، هيَ: الإجتهادُ في التّوثيقاتِ بناءً على الأُسسِ العلميّة المُتّفقِ عليها بينَ الفُقهاءِ.  
مُضافاً إلى ذلكَ هُناكَ قرائنُ أخرى في قبولِ أو رفضِ الرّوايةِ مثل مُخالفةِ أو موافقةِ القُرآنِ أو المُتواترِ منَ الأحاديثِ أو ما اشتهرَ بينَ الشّيعةِ.