من شرع العدل هل الائمة (عليهم السلام) ام علمائنا؟

: السيد رعد المرسومي

السلام عليكم ورحمة الله:

يُعَـدُّ العدلُ صفةً مِن صفاتِ اللهِ تعالى التي أولاها علماؤنا الأعلامُ إهتماماً بالِغاً في كُتبِهم الكلاميّةِ والعقديّةِ مِن حيثُ الدّراسةِ والنّقاشِ المُثمرِ كما درسُوا وناقشُوا صفاتِ اللهِ تعالى الأُخرى كالعالمِ والقادرِ والحيّ والمُريدِ والمُتكلّمِ وغيرِها منَ الصّفاتِ. وصفةُ العدلِ لَم تُشرَّع مِن قبلِ الأئمّةِ عليهم السّلام , ولا مِن قبلِ عُلمائِنا الأعلامِ, وإنّما علماؤنا - تبعاً لأئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام - كانَ لهُم الدّورُ البارزُ في إظهارِ هذهِ الصّفةِ إلى العلنِ, وإبداءِ العنايةِ الكبيرةِ بها وبيانِ مدى أهمّيّتِها, خصوصاً بعدَ إختيارِ هذهِ الصّفةِ مِن بينِ سائرِ الصّفاتِ الأُخرى للهِ تعالى, لتكونَ أصلاً مِن أصولِ الدّينِ الخمسةِ كما هوَ معلومٌ, ومفهومُ العدلِ يُعَـدُّ مِن أعرقِ المفاهيمِ التي تعرّفَ عليها الإنسانُ, إذ هناكَ حافزٌ فطريٌّ وباعثٌ إجتماعيٌّ يلفتانِ نظرَه إلى العدلِ, فهوَ يحسُّ بهِ مِن ضميرِه, ويلتفتُ إليهِ لكونِه يعيشُ في مُجتمعٍ لا يقومُ إلّا على أساسِ القسطِ والعدلِ, إضافةً إلى وجودِ عاملٍ ثالثٍ لانتباهِ الإنسانِ إلى العدلِ, وهوَ رسالةُ الأنبياءِ والهُداةِ الإلهيّينَ ودعوتِهم القائمةِ على إقامةِ القِسطِ والعدلِ, قالَ تعالى (لَقَد أَرْسَلنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسطِ) [الحديد: 25]. والذي يؤيّدُ أنَّ مسألةَ وَصْفِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالعدلِ منَ المسائلِ المَعروفةِ بينَ المُسلمينَ منذُ عصرِ الرّسالةِ الخالدةِ, وإنَّ عُلماءنا الأعلامَ  - تِبعاً لأئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام - ما كانَ لهُم إلّا إبرازَها وعرضَها على بساطِ البحثِ والنّقاشِ هوَ أنَّ القُرآنَ العظيمَ نفسَه تعرّضَ لوصفِه تعالى بالعدلِ وتنزيهِه عنِ الظّلمِ في مجالِ التّكوينِ والتّشريعِ والجزاءِ. يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا العلمِ قَآئِمَاً بِالقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [آلُ عمران: 18], ويقولُ تعالى أيضاً: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) [النّحل: 90], ويقولُ أيضاً: ( وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياءُ: 47], ويقولُ أيضاً:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُم قُضِيَ بَيْنَهُم بالقِسْطِ وَهُم لاَ يُظْلَمُونَ ) [يونس: 47], إلى غيرِ ذلكَ منَ الآياتِ في هذا الصّددِ. 

وروى الصّدوقُ (ره) في كتابِه التّوحيد في الصّفحةِ (386 -387) بإسنادِه إلى أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام أنّهُ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه ذاتَ يومٍ جالِساً في مسجدِه, إذ دخلَ عليهِ رجلٌ منَ اليهودِ فقالَ : يا مُحمّدُ إلى ما تدعو ؟ قالَ : إلى شهادةِ أن لا إلهَ إلّا الله وأنّي رسولُ اللهِ ، قالَ : يا محمّدُ أخبِرني عَن هذا الرّبِّ الذي تدعو إلى وحدانيّتِه وتزعمُ أنّكَ رسولُه كيفَ هوَ ، قالَ : يا يهوديُّ إنَّ ربّي لا يوصفُ بالكيفِ لأنَّ الكيفَ مخلوقٌ وهوَ مُكيّفُه ، قالَ : فأينَ هوَ ؟ قالَ : إنَّ ربّي لا يوصفُ بالأينِ لأنَّ الأينَ مخلوقٌ وهوَ أيّنَهُ ، قالَ : فهَل رأيتَهُ يا مُحمّدُ ؟ قالَ : إنّه لا يُرى بالأبصارِ ولا يُدرَكُ بالأوهامِ ، قالَ : فبأيِّ شيءٍ نعلمُ أنّهُ موجودٌ؟ قالَ: بآياتِه وأعلامِه, ... إلى أن قالَ اليهوديُّ: فأخبِرني عَن ربّكَ هَل يفعلُ الظّلمَ ؟ قالَ: لا ، قالَ : ولمَ ؟ قالَ : لعلمِه بقُبحِه وإستغنائِه عنهُ ، قالَ : فهَل أنزلَ عليكَ في ذلكَ قُرآناً يُتلى ؟ قالَ : نعَم ، إنّهُ يقولُ عزَّ وجلَّ : ( وما ربُّكَ بظلّامٍ للعبيدِ ) ، ويقولُ : ( إنَّ اللهَ لا يظلمُ النّاسَ شيئاً ولكنَّ النّاسَ أنفُسَهم يظلمونَ ) ويقول : (وما اللهُ يريدُ ظُلماً للعالمينَ ), ويقولُ : ( وما اللهُ يُريدُ ظُلماً للعبادِ ), قالَ اليهوديُّ : يا مُحمّدُ فإنْ زعمتَ أنَّ ربّكَ لا يظلمُ؛ فكيفَ أغرقَ قومَ نوحٍ عليهِ السّلام وفيهم الأطفالُ ؟ فقالَ : يا يهوديُّ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعقمَ أرحامَ نساءِ قومِ نوحٍ أربعينَ عاماً فأغرقَهُم حينَ أغرقَهُم ولا طفلَ فيهم ، وما كانَ اللهُ ليُهلكَ الذّرّيّةَ بذنوبِ آبائِهم ، تعالى عنِ الظّلمِ والجورِ علوّاً كبيراً. 

هذا وقَد بيّنَ عُلماؤنا قديماً وحديثاً أهمّيةَ العدلِ ولِماذا عَـدّوهُ أصلاً مِن أصولِ الدّينِ, فمِن أهمِّ ما وردَ في بيانِهم ما يلي: 

1- أنّ للعدلِ مِن بينِ سائرِ صفاتِ اللهِ تعالى أهمّيّةً خاصّةً بحيثُ إنَّ كثيراً منَ الصّفاتِ الأُخرى مُترتّبةٌ عليه, إذ إنَّ العدلَ بمعناهُ الواسعِ هوَ وضعُ الأشياءِ في مواضعِها المُناسبةِ لها, فعلى ذلكَ فإنَّ صفةَ الحكيمِ أو الرّزّاقِ أو الرّحمنِ وأمثالَها تعتمدُ على العدلِ في معانيهِ الواسعةِ.

2- رسالةُ الأنبياءِ عليهم السّلام والأئمّةِ الهُداةِ عليهم السّلام ترتبطُ بالعدلِ الإلهيّ.

3- التّنبيهُ على أنَّ هُناكَ منَ الفِرقِ الإسلاميّةِ كالأشاعرةِ يُنكرونَ عدالةَ اللهِ عزَّ وجلَّ ويقولونَ: إنَّ العدالةَ والظّلمَ لا معنى لهُما بالنّسبةِ للهِ تعالى, إذ جميعُ ما في عالمِ الوجودِ مِن مُلكِه, وكلُّ ما يفعلُه فهوَ العدالةُ بعينِها, وهُم أنكروا مسألةَ الحُسْنِ والقُبْحِ العقليّينِ زاعمينَ بأنَّ عقولَنا لا تستطيعُ أنْ تُدركَ هاتينِ الصّفتينِ مُطلقاً, فهيَ لا تُدركُ حُسْنَ الحُسْنِ ولا قُبحَ القبيحِ, وغيرُ ذلكَ منَ المُخالفاتِ التي نبّهَ عليها عُلماؤنا. 

إنَّ إختيارَ العدالةِ وجعلَها أصلاً مِن أصولِ الدّينِ يُمثّلُ رمزاً لإحياءِ العدلِ في المُجتمعاتِ البشريّةِ ومُكافحةِ كلِّ أنواعِ الظّلمِ, إلى غيرِ ذلكَ مِـمّا بيّنَهُ عُلماؤنا حينَ ناقشوا هذهِ المسألةَ في كُتبِهم الكلاميّةِ والعقديّةِ. (يُنظَر على سبيلِ المثالِ: القواعدُ الكلاميّةُ للشّيخِ عليّ الرّبّانيّ الكلبايكانيّ , ص137 وما بعدَها. وكتابُ دروسٌ في العقائدِ الإسلاميّةِ للشّيخِ ناصِر مكارِم الشّيرازيّ, ص67 وما بعدَها). ودمتُم سالِمين.