التعبد بالظن في الأحكام الشرعية

اغلب الاحكام الشرعية ظنية ليست قطعية والظن لا يغني من الحق شيئا فكيف نتعبد الله بها؟

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

إنّ جملة من الأحكام الشرعية الفرعية ظنية الطريق ، بمعنى أنها لم تصل إلينا من طريق التواتر أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للقطع بالصدور ، وإنما وصلتنا من طريق أخبار الآحاد المجردة ، وخبر الواحد يفيد الظن ، والظن لا يغني من الحقّ شيئاً ، فكيف نعتمد على خبر الواحد الثقة في الشريعة ، والحال أنه يفيد الظن بالحكم الشرعي ؟

هذه الإشكالية ناقشها العلماء في كتب أصول الفقه ، وذكروا لها عدة أجوبة ، وسنقتصر على ما يناسب المقام فنقول في  

الجواب : 

إنّ القاعدة الأولية والأصل الأولي هو عدم حجية الظن ، وحرمة العمل به ، إلا إذا قام دليل خاص على حجية بعض أفراده ، فتخرج عن تلك القاعدة الأولية بالتخصيص ، فيجوز العمل به .

سؤال : هل هناك دليل على حجية خبر الواحد الثقة في الشريعة ؟

الجواب : ذكر العلماء عدة أدلة على حجية خبر الواحد ، وسنذكر ما استقرّ عليه رأيهم أخيراً فنقول : 

الدليل الأول : بناء العقلاء : سيرة العقلاء قائمة على العمل بخبر مَن يثقون بقوله ويطمئنون إليه ، ويأمنون كذبه ، في جميع أمورهم ، والشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة ، حيث كانت هذه السيرة بمرأى ومسمع من الشارع ، والمسلمون بما هم عقلاء قامت سيرتهم من القديم وإلى اليوم ، على العمل بخبر الثقة في الأحكام الشرعية وغيرها .

وحيث أنّ الشارع لم يردع عن هذه السيرة ، فيسكتشف بالقطع واليقين أنه راضٍ عن هذه السيرة ، فيكون خبر الواحد حجة يجوز العمل به ، وخارج عن الدليل الناهي عن العمل بالظن تخصيصاً .

ولو ردعَ الشارع المقدس عن هذه السيرة لوصلَ إلينا نهيه ، كما وصلَ منعه عن العمل بالقياس ، مع أنّ العامل بالقياس أقل بكثير من العامل بخبر الواحد الثقة ، وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً ، ولم يصلنا في المنع عن العمل بخبر الثقة رواية واحدة ! فيستكشف من ذلك كشفاً قطعياً أنّ الشارع قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة . 

وهذا الدليل هو عمدة ما تمسك به المتأخرون في إثبات حجية خبر الواحد .

قد يقال : إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن كافية في الردع والمنع عن هذه السيرة مثل قوله تعالى : ﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾ [الأنعام: ١١٦]

وقوله : ﴿إِنَّ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمّونَ المَلائِكَةَ تَسمِيَةَ الأُنثى ۝ وَما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شَيئًا﴾ [النجم: ٢٧-٢٨]  

نقول في الجواب : 

أولاً : إنّ هذه الآيات لا تصلح للردع ، وذلك لأنّ هذه السيرة مستحكمة راسخة عميقة لها جذور وامتداد واسع بين العقلاء بحيث أنها موجودة عند كلّ عاقل . 

هكذا سيرة لو أراد الشارع أن يمنع ويردعَ عنها ، لا يكتفي في نهيه بإطلاق آية قرآنية ، بل لا بد أن تكون هناك أدلة خاصة قوية بحيث يوجِدَ إنقلاباً وتغييراً ، بالضبط كما فعل مع القياس ، فإنّ القياس مع أنه لا توجد سيرة عقلائية عليها ، ولا يوجد لها امتداد ورسوخ وتجذر عند العقلاء ، لم يكتفِ الشارع بإطلاق الأدلة الناهية عن العمل بالظن ، فنراه يؤكد على النهي عن العمل بالقياس بالخصوص .

فالشارع المقدس لو كان غير راضٍ عن العمل بخبر الثقة - مع سيرتهم على العمل به في جميع المناحي - للزم عليه أن يبين ذلك ، لا أقل كما بيّنَ موقفه من القياس الذي هو موقف واضح لا يشوبه أدنى شك .

إذن : فنحن نحتاج الى أدلة شرعية ناهية عن العمل بخبر الثقة ، لها من قوة الوضوح بمقدار مالسيرة العقلاء من التجذر والرسوخ في العمل بخبر الثقة . 

وهذا الدليل مفقود ، فالنتيجة : أنّ الشارع راضٍ عن العمل بخبر الثقة ، والآيات غير صالحة للردع عن هذه السيرة .

ثانياً : إنّ سيرة المتشرعة من زمان النبي (ص) إلى زماننا ، قائم على العمل بخبر الثقة ، في جميع أمورهم الدينية والدنيوية ، فإنّ أغلب المكلفين الذين كانوا في زمان النبي (ص) والأئمة (ع) لم يأخذوا أحكامهم من نفس النبي (ص) والإمام (ع) مباشرة وبدون واسطة ، وبالأخص النساء ، لا سيما أهل القرى والبوادي والبلدان البعيدة ، فإنّ هؤلاء كانوا يرجعون إلى الثقات العارفين بالأحكام الشرعية الذين سمعوا الحكم من المعصوم (ع) . 

وعملهم هذا في الحال الذي جميعهم يقرؤون الآيات الناهية عن العمل بالظن .

فلو كانت هذه الآيات ناهية ورادعة عن العمل بخبر الواحد ، لانقطعت سيرتهم عن العمل بخبر الواحد في زمان الأئمة عليهم السلام .

النتيجة : أننا نقطع ونجزم بأنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن سيرة العقلاء القائمة على العمل بخبر الثقة .

ثالثاً : إنّ المراد من الظن في الآيات الناهية ترجيح أحد الطرفين إستناداً إلى الخرص والتخمين ، لا ترجيحاً بسبب عقلائي ، كما قال سبحانه : ﴿وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾ ويشهد بذلك مورد الآية من تسمية الملائكة اُنثى ، فكانوا يرجحون أحدَ الطرفين بأمارات ظنية وتخمينات باطلة ، فلا يستندون في قضائهم الى الحس ولا إلى العقل ، بل إلى الهوى والخيال ، وأينَ هذا من قول الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره الذي يرجع إلى الحس وتدور عليه رحى الحياة ويجلب الإطمئنان وسكون النفس . 

وهناك بيانات أخرى أدق وأعمق مما ذكرناه ، يصعب على غير المتخصصين في علم الأصول فهمها ، فنكتفي بما ذكرنا .

 

الدليل الثاني : الروايات المتواترة تواتراً إجمالياً ، الدالة على حجية خبر الواحد ، وهي على طوائف :

الطائفة الأولى : الأخبار العلاجية الدالة على أنّ حجية الأخبار في نفسها كانت مفروغاً عنها عند الأئمة (ع) وأصحابهم ، وإنما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة ، فسألوا عن حكمها .

الطائفة الثانية : الأخبار الآمرة بالرجوع الى أشخاص معينين من الرواة ، كزرارة بن أعين ويونس بن عبد الرحمن وأبو بصير الأسدي وزكريا بن آدم .

الطائفة الثالثة : الأخبار الآمرة بالرجوع الى الثقات كقوله : لا عذر لأحد في التشكيك عما يرويه ثقاتنا . وقد ادعى البعض تواتر هذه الطائفة بالخصوص .

الطائفة الرابعة : الأخبار الآمرة بحفظ الروايات واستماعها وضبطها والاهتمام بشأنها .

وهذه الأخبار متواترة إجمالاً ، بمعنى : صدورُ بعضها عن المعصوم ، ومقتضاه الإلتزام بحجية الأخص منها المشتمل على الخصوصيات المذكورة في هذه الأخبار ، فيحكم بحجية الخبر الواجِد لجميع تلك الخصوصيات باعتبار كونه القدر المتيقن من هذه الأخبار ، وهو الخبر الجامع لعدالة رواته ووثاقتهم ، فيكون الحجة هو الخبر الصحيح الأعلائي .

ثم وجدنا في خبر صحيح أعلائي ما يدل على حجية خبر الراوي الثقة ، بدون اشتراط العدالة .

النتيجة : أنّ خبر الواحد الثقة حجة .