ما صحّةُ الرّوايةِ التي جاءَ فيها أنَّ أبا ذرٍّ قالَ لبلالٍ حتّى أنتَ يا بنَ السّوداءِ تُخطّئني؟  

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: 

إنتشرَت في الآونةِ الأخيرةِ عبرَ وسائلِ التّواصلِ الإجتماعيّ وخاصّةً الواتساب قصّةٌ جاءَ فيها: (إجتمعَ الصّحابةُ في مجلسٍ لَم يكُن معَهم الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسّلام فجلسَ خالدُ بنُ الوليدِ وجلسَ إبنُ عوفٍ وجلسَ بلالٌ وجلسَ أبو ذرٍّ وكانَ أبو ذرٍّ فيهِ حدّةٌ وحرارةٌ فتكلّمَ النّاسُ في موضوعٍ ما فتكلّمَ أبو ذرٍّ بكلمةِ إقتراحٍ: أنا أقترحُ في الجيشِ أن يُفعلَ بهِ كذا وكذا. قالَ بلالٌ: لا .. هذا الإقتراحُ خطأ. فقالَ أبو ذر: حتّى أنتَ يا ابنَ السّوداءِ تُخطّئُني فقامَ بلالٌ مدهوشاً غضباناً آسفاً .. وقالَ: واللهِ لأرفعنّكَ لرسولِ اللهِ عليهِ السّلام .. واندفعَ ماضياً إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ. وصلَ للرّسولِ عليهِ الصّلاةُ والسّلام وقالَ: يا رسولَ اللهِ أما سمعتَ أبا ذرّ ماذا يقولُ فيَّ؟ قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: ماذا يقولُ فيكَ؟؟ قالَ بلالٌ: يقولُ كذا وكذا .. فتغيّرَ وجهُ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وأتى أبو ذرٍّ وقَد سمعَ الخبرَ فاندفعَ مُسرعاً إلى المسجدِ. فقالَ: يا رسولَ اللهِ.. السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه قالَ عليه الصّلاةُ والسّلام: يا أبا ذرٍّ أعيّرتَهُ بأمِّه .. إنّكَ إمرؤٌ فيكَ جاهليّة.! فبكى أبو ذرٍّ وأتى الرّسولَ عليهِ السّلام وجلسَ قالَ يا رسولَ اللهِ إستغفِر لي .. سلِ اللهَ لي المغفرةَ ثمَّ خرجَ باكياً منَ المسجدِ وأقبلَ بلالٌ ماشياً فطرحَ أبو ذرٍّ رأسَه في طريقِ بلالٍ ووضعَ خدَّهُ على التّرابِ وقالَ: واللهِ يا بلالُ لا أرفعُ خدّي عنِ التّرابِ حتّى تطأهُ برجلكَ أنتَ الكريمُ وأنا المُهانُ! فأخذَ بلالٌ يبكي وإقتربَ وقبّلَ ذلكَ الخدَّ ثمَّ قاما وتعانقا وتباكيا." 

وهذهِ القصّةُ بهذا الشّكلِ والتّرتيبِ لا وجودَ لها في المصادرِ الإسلاميّةِ، والرّوايةُ التي ذُكرَت في مصادرِ مدرسةِ الخلفاءِ هيَ ما جاءَ في البُخاري في كتابِ الإيمانِ، بَابُ المَعَاصِي مِن أَمر الجَاهِلِيَّةِ، عَنِ المَعرُور بنِ سُوَيدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلتُهُ عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبتُ رَجُلًا فَعَيَّرتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخوَانُكُم خَوَلُكُم، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحتَ أَيدِيكُم، فَمَن كَانَ أَخُوهُ تَحتَ يَدِهِ، فَليُطعِمهُ مِمَّا يَأكُلُ، وَليُلبِسهُ مِمَّا يَلبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُم مَا يَغلِبُهُم، فَإِن كَلَّفتُمُوهُم فَأَعِينُوهُم". وفي رواية لمسلم كتاب الأيمان والنذور عَنِ المَعرُورِ بنِ سُوَيدٍ، قَالَ: مَرَرنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيهِ بُردٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثله، فَقُلنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَو جَمَعتَ بَينَهُمَا كَانَت حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَينِي وَبَينَ رَجُلٍ مِن إِخوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَت أُمُّهُ أَعجَمِيَّةً، فَعَيَّرتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة»، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَن سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرّ، إِنَّكَ امرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُم إِخوَانُكُم، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحتَ أَيدِيكُم، فَأَطعِمُوهُم مِمَّا تَأكلون، وَأَلبِسُوهُم مِمَّا تَلبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُم مَا يَغلِبُهُم، فَإِن كَلَّفتُمُوهُم فَأَعِينُوهُم». 

ولم يأتِ في هذهِ الرّوايات ذكرُ بلالٍ، أو قولُ أبو ذرٍّ يا بنَ السّوداءِ، وليسَ فيها أنَّ أبا ذرٍّ وضعَ خدّهُ على التّرابِ، ومعَ ذلكَ نجدُ أنَّ شرّاحَ البُخاريّ قَد أثبتوا أنَّ المقصودَ هوَ بلالٌ، فقالَ إبنُ حجرٍ في فتحِ الباري في شرحِ صحيحِ البُخاري (10/468): "وَأَنَّ الرَّجُلَ المَذكُورَ هُوَ بِلَالٌ المُؤَذِّنُ وَكَانَ اسمُ أُمِّهِ حَمَامَةُ بِفَتحِ المُهمَلَةِ وَتَخفِيفِ المِيمِ". وقالَ العينيّ في «عُمدةِ القاري» (1/208): "قَوله: (ساببت رجلاً) قَالَ النَّوَوِيّ: وَسِيَاق الحَدِيث يشعر أَن المسبوب كَانَ عبداً، وَقَالَ صَاحب (مَنهَج الراغبين) وَالذي نعرفه أَنه بِلال، رَضِي الله عَنه".

ويبدو أنّهم إعتمدوا في ذلكَ على روايةٍ أخرى مُرسلةٍ أشارَ إليها إبنُ بطّالٍ في شرحِه لكتابِ البُخاريّ، حيثُ قالَ: روى الوليدُ بنُ مسلمٍ، عَن أَبِي بَكر بن أَبِي مريم، عَن ضَمرَة بن حَبِيب، قالَ: "كانَ بينَ أبي ذرٍّ وبينَ بلالٍ مُحاورةٌ، فعيّرهُ أبو ذرٍّ بسوادِ أمّهِ، فانطلقَ بلالٌ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلمّ، فشكى إليهِ تعييرَه بذلكَ، فأمرَه رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ أن يدعوهُ، فلمّا جاءَهُ أبو ذرٍّ، قالَ لهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: هَل شتمتَ بلالاً وعيَّرتَهُ بسوادِ أمِّه؟ قالَ: نعَم، قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: ما كنتُ أحسبُ أنّهُ بقيَ في صدركَ مِن كبرِ الجاهليّةِ شيءٌ، فألقى أبو ذرّ نفسَه بالأرضِ، ثمَّ وضعَ خدَّهُ على التّرابِ، وقالَ: "واللهِ لا أرفعُ خدّي منَ التّرابِ حتّى يطأ بلالٌ خدّي بقدمِه، فوطأ خدّهُ بقدمِه".