ما معنى الحديثِ القُدسيّ: رحمتي سبقَت غضبي ؟

: السيد رعد المرسومي

 

السّلامُ عليكُم ورحمةُ الله: 

هذا الحديثُ القُدسيّ لا إشكالَ في صِحّتِه، فقَد أوردَه جمهورُ الفريقينِ في كتبِهم، كالبُخاريّ ومسلم في صحيحيهما ، والتّرمذيُّ وغيرُهم مِن أصحابِ السّننِ والمسانيدِ، وأخرجَه الكلينيّ في كتابِه الكافي (ج2/ص274)، وأخرجَه الصّدوقُ في كُتبِه عللِ الشّرائعِ وكمالِ الدّينِ وعيونِ أخبارِ الرّضا (ع). [ينظر: كتابُ إثباتِ الهُداةِ بالنّصوصِ والمُعجزاتِ للحُرّ العامليّ، ج ٢/ص ٥٥، وكتابِه الجواهرِ السّنيّةِ، ص١٤٩]. 

هذا فضلاً عَن طائفةٍ كبيرةٍ منَ المُفسّرينَ مِن كِلا الفريقينِ قد أخرجوا الحديثَ في كتبِهم. وأمّا معنى الحديثِ فليسَ صحيحاً ما ذهبَ إليه السّائلُ وخصوصاً ما وردَ في ذيلِ سؤاله، إذ إنَّ أهلَ العلمِ بيّنوا أنّ معنى هذا الحديثَ يحتملُ وجوهاً، منها: 

1-أنّ رحمةَ اللهِ تعالى سبقَت غضبَه؛ لأنّ رحمتَه تعالى تُدركُ عبادَه مِن غيرِ حقٍّ سابقٍ لهم، بَل تفضُّلاً منهُ سُبحانَه وتعالى، وأمّا الغضبُ فهيَ صفةٌ لهُ سبحانَه وتعالى، لا يلحقُ أثرُها بالعبادِ إلّا إذا صدرَ منهُم سببُ إستحقاقِ الغضبِ والعقوبةِ، مِن كُفرٍ وعصيانٍ ونحوِهما؛ فلِذا رحمتُه تعالى في هذا الوجودِ سابقةٌ على غضبِه سُبحانَه وتعالى. ويقولُ أحدُ عُلماءِ الجمهورِ وهو إبنُ بطّال في شرحِ صحيحِ البُخاريّ (ج10/ص488): فكانَ مِن رحمتِه تلكَ : أن إبتدأ خلقَه بالنّعمةِ بإخراجِهم منَ العدمِ إلى الوجودِ، وبسطَ لهُم مِن رحمتِه في قلوبِ الأبوينِ على الأبناءِ، منَ الصّبرِ على تربيتِهم، ومباشرةِ أقدارِهم؛ ما إذا تدبّرَهُ مُتدبّرٌ أيقنَ أنّ ذلكَ مِن رحمتِه تعالى، ومِن رحمتِه السّابقةِ أنّه يرزقُ الكُفّارَ ويُنعّمُهم، ويدفعُ عنهُم الآلامَ، ثمّ ربّما أدخلَهُم الإسلامَ رحمةَ منهُ لهم، وقَد بلغوا منَ التّمرّدِ عليه، والخلعِ لربوبيّتِه، غاياتٍ تُغضِبُه، فتغلبُ رحمتَه، ويدخلُهم جنّتَه، ومَن لَم يتُب عليهِ حتّى توفّاه، فقَد رحمَه مُدّةَ عُمرِه بتراخي عقوبتِه عنه، وقَد كانَ لهُ ألّا يُمهلَه بالعقوبةِ ساعةَ كُفرِه به، ومعصيتِه له، لكنّهُ أمهلَه رحمةً له، ومعَ هذا؛ فإنَّ رحمةَ اللهِ السّابقةَ أكثرُ مِن أن يُحيطَ بها الوصف. 

2-ومِن هذهِ الوجوهِ ما ذهبَ إليهِ الشّيخُ محمَّد صالح المازندرانيّ في كتابِه شرحُ أصولِ الكافي (ج9/ص254)، وذلكَ حينَ علّقَ على حديثِ الكلينيّ قائلاً: إذا إشتدّ سببُ الغضبِ وكانَ هناكَ سببُ الرّحمةِ ولو كانَ ضعيفاً تعلّقت الرّحمةُ إن شاءَ اللهُ وهوَ المرادُ بسبقِها ، أو المُرادُ بهِ أنّه تعالى خلقَ الإنسانَ برحمتِه لإدراجِهم في ظِلّها ، والغضبُ إنّما نشأ مِن سوءِ أعمالِهم وقُبحِ أفعالِهم، ولذلكَ لا يتعاظمُ عندَه غُفرانُ ذنوبِهم إن بقيَت علاقةُ المغفرةِ في الجُملةِ ، وفيه ترغيبٌ في التّوبةِ والرّجوعِ عنِ المعصيةِ ووعدٌ بقبولِها ووعيدٌ عنِ القنوطِ مِن رحمتِه بسببِ معصيتِه وإن عظُمَت. 

3- ومِن هذهِ الوجوهِ ما ذهبَ إليها العلّامةُ المجلسيّ في كتابِه البحار (ج70/ص342)، إذ أوردَ وجهينِ آخرينِ لمعنى الحديثِ، أحدُها: أن يكونَ المُرادُ بهِ السّبقُ المعنويّ أيضاً على وجهٍ آخر ، فإنَّ أسبابَ الرّحمةِ مِن إقامةِ دلائلِ الرّبوبيّةِ في الآفاقِ والأنفسِ ، وبعثةِ الأنبياءِ والأوصياءِ ، وإنزالِ الكُتبِ ، وخلقِ الملائكةِ ، وبعثِهم لهدايةِ الخلقِ ، وإرشادِهم ودفعِ وساوسِ الشّياطينِ، وغيرِ ذلكَ مِن أسبابِ التّوفيقِ ، أكثر مِن أسبابِ الضّلالةِ منَ القوى الشّهوانيّةِ والغضبيّةِ ، وخلقِ الشّياطينِ ، وعدمِ دفعِ أئمّةِ الضّلالةِ ، وأشباهِ ذلكَ مِن أسبابِ الخذلان. 

والثاني: أن يُرادَ بهِ السّبقُ الزّمانيُّ فإنَّ تقديرَ وجودِ الإنسانِ وإيجادِه وإعطاءِ الجوارحِ والسّمعِ والبصرِ ، وسائرِ القوى ، ونصبِ الدّلائلِ والحُججِ ، وغيرِ ذلكَ ، كلّها قبلَ التّكليفِ ، والتّكليفُ مُقدّمٌ على الغضبِ والعقابِ ، ويمكنُ إرادةُ الجميعِ بَل هوَ الأظهر.

إذن: يُستفادُ مِن هذهِ الوجوهِ المُتقدّمةِ أنّ العبادَ سبقَت إليهم رحمةُ اللهِ تعالى الدّينيّةِ والدّنيويّةِ، ولا يلحقهم غضبُه سبحانَه إلّا إذا تمادوا في عدمِ شكرِ هذه الرّحمةِ، ولم يتوبوا مِن هذا التّمادي، فإن تابوا رُفعَت عنهُم آثارُ الغضب. ويُؤيّدُ ذلكَ ما جاءَ في عدّةِ آياتٍ تُبيّنُ أنّ غضبَ اللهِ تعالى على العبادِ يقعُ بعدَ البيانِ والإنذار، ومِن هذهِ الآياتِ قولُه تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَلَا تَطغَوا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبِي وَمَن يَحلِل عَلَيهِ غَضَبِي فَقَد هوى) [طه:81]، وقولُه تعالى :( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولًا) [الإسراءُ:15]. إذَن: لا يحلُّ عليهم الغضبُ بسببِ كفرانِ النّعمِ، إلّا بعدَ سبقِ رحمةِ الإنذارِ والبيانِ، فإذا تابوا وأصلحوا النّيّةَ والعملَ رُفِعَ عنهُم العذابُ. قالَ تعالى: (وإنّي لغفّارٌ لمَن تابَ وآمنَ وعملَ صالِحاً ثمَّ إهتدى) [طه:82]. ودمتُم سالِمين.