مَن الذي لقّبَ الإمامَ الكاظمَ (عليه السّلام) براهبِ بني هاشم ، والرّسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يقولُ : لا رهبانيّةَ في الإسلامِ ، أم لهُ معنىً ثانٍ ؟   

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

أولاً : هذا اللّقبُ أطلقَهُ هارونُ العبّاسيّ على الإمامِ الكاظمِ (ع) وذلكَ عندَما إطّلعَ على عبادتِه وإجتهادِه في السّجنِ ، روى الصّدوقُ بسندِه عن الثّوباني قالَ : كانَت لأبي الحسنِ موسى بنِ جعفرٍ عليهما السّلام بضعُ عشرةَ سنةٍ كلَّ يومٍ سجدةٌ بعدَ إنقضاضِ الشّمسِ إلى وقتِ الزّوالِ فكانَ هارونُ رُبّما صعدَ سطحاً يشرفُ منهُ على الحبسِ الذي حبسَ أبو الحسنِ عليه السّلام فكانَ يرى أبا الحسنِ عليه السّلام ساجداً فقالَ للرّبيعِ : يا ربيعُ ما ذاكَ الثّوبُ الذي أراهُ كلَّ يومٍ في ذلكَ الموضعِ ؟! فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ ما ذاكَ بثوبٍ وإنّما هوَ موسى بنُ جعفرٍ عليهما السّلام لهُ كلُّ يومٍ سجدةٌ بعدَ طلوعِ الشّمسِ إلى وقتِ الزّوالِ قالَ الرّبيعُ : فقالَ لي هارونُ : أما إنَّ هذا مِن رهبانِ بني هاشم! قلتُ : فمالكَ قَد ضيّقتَ عليهِ الحبسَ قالَ : هيهاتِ لا بُدَّ مِن ذلك ! . (عيونُ أخبارِ الرّضا للصّدوق : 1 / 89) . 

 

ثانياً : إنّ المُرادَ مِن هذا اللقبِ هوَ الكنايةُ عَن شدّةِ العبادةِ وكثرتِها ، والزّهدِ والخوفِ الشّديدِ منَ اللهِ ، وليسَ المُرادُ منها الرّهبانيّةُ التي إبتدعَتها النّصارى منَ الإنعزالِ عنِ المُجتمعِ ، وتركِ الزّواجِ ، والتّملّصِ منَ المسؤوليّاتِ ، وإتّخاذِ الأديرةِ والصّوامعِ محلّاً للسّكنِ والعبادةِ ، قالَ تعالى : { وَقَفَّينَا بِعِيسَى ابنِ مَريَمَ وَآَتَينَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحمَةً وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم ..} [الحديدُ 27] . 

فالإمامُ الكاظمُ (ع) بعيدٌ كلَّ البعدِ عَن رهبنةِ النّصارى المُبتدعةِ ، فإنّهُ كانَ يعيشُ في قلبِ العالمِ الإسلاميّ ، ويمارسُ دورَه الإجتماعيَّ والتّبليغيَّ في المجتمعِ الإسلاميّ على أتمّ وجهٍ وبأعلى صورِها ، وكانَ لهُ منَ النّساءِ والجواري الكثيرُ ، بحيثُ أولدَ منهنَّ سبعاً وثلاثينَ ولداً ذكراً وأنثى ، ويديرُ التّشيّعَ في العالمِ ، حتّى وصلَ الأمرُ بهارونَ العبّاسيَّ أن يسجنَهُ أكثرَ مِن مرّةٍ ، إلى أن قامَ بدسِّ السّمِّ إليه في المرّةِ الأخيرة . 

فإنّ الرّهبانيّةَ مُشتقّة منَ الرّهبةِ ، وهيَ بمعنى الخوفِ منَ اللهِ ، أو الخوفِ الممزوجِ بالزّهدِ والإضطرابِ والتّرهّبُ يعني : التّعبّدَ والعبادةَ، والرّهبانيّةَ بمعنى : شدّةِ التّعبّد . 

وهذا المعنى للرّهبانيّةِ ممدوحٌ ، فقَد وردَ في الحديثِ عنِ النّبيّ (ص) في صفاتِ المؤمنينَ : رُهبَانٌ بِاللَّيلِ أُسُدٌ بِالنَّهَارِ صَائِمُونَ النَّهَارَ قَائِمُونَ اللَّيلَ . (الكافي للكُليني : 2 / 232) . ومعناها : أنّهُ منشغلٌ بالعبادةِ – كالصّلاةِ - في الليلِ بسببِ إستيلاءِ الخوفِ على سِرّه . 

ولكنَّ النّصارى تغالوا فيها وأخرجوها عَن معناها الممدوحِ إلى معنىً مذمومٍ وهوَ تركُ الزّواجِ والتّملّصُ منَ المسؤوليّاتِ والإنعزالُ عنِ المُجتمعِ ، فإنّ جميعَ ذلكَ إنحرافٌ وإبتداعٌ في الدّينِ ما أنزلَ اللهُ بها مِن سلطانٍ . 

 

وعليهِ : لا بأسَ بإطلاقِ هذا اللّقبِ بالمعنى اللّغويّ للرّهبنةِ وهو شدّةُ وكثرةُ العبادةِ والزّهدِ في الدّنيا والإعراضِ عنها ، ولا يصحُّ إطلاقُه بالمعنى الإصطلاحيّ وهوَ المعنى الذي يُطلقُ على رهبانِ النّصارى ، فأئمّتُنا (ع) أبعدُ ما يكونونَ عنهم . 

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين .