هَل عائشةُ خرجَت في الجملِ للإصلاح؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

حتّى لا تكونَ الإجابةُ مُجرّدَ رؤيةٍ شخصيّةٍ تسعى للإنسجامِ معَ الموقعِ المذهبيّ الذي نتبنّاهُ، لابدَّ مِن رسمِ الصّورةِ العامّةِ التي تستوعبُ الواقعَ السّياسيَّ والفكريَّ والإجتماعيَّ الذي وُجدَت فيهِ هذهِ المعركةُ، أي لا بدَّ مِن دراستِها كفعلٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ بحسبِ المُعطياتِ الموضوعيّةِ في تلكَ الفترةِ التّاريخيّة.  

وما يُؤسفُ لهُ أنَّ الكثيرَ منَ المُسلمينَ ينظرونَ للتّاريخِ الإسلاميّ وكأنّهُ أحداثٌ مثاليّةٌ تُحرّكُها شخصيّاتٌ مُقدّسةٌ، ويتمُّ إهمالُ البُعدِ النّفسيّ والسّياسيّ والإجتماعيّ لشخصيّاتِ تلكَ الأحداثِ، فعندَما يرتكزُ الباحثُ على رؤيةٍ تمنحُ إنسانَ التّاريخِ وصفاً يخرجُه عنِ الإطار الطّبيعيّ للإنسان، حينَها يفتقدُ كلَّ الشّروطِ الموضوعيّةِ التي تُمكّنُه مِن فهمِ حقيقةِ ما وقعَ في التّاريخِ، صحيحٌ أنَّ الإسلامَ أحدثَ تغييراً كبيراً في إنسانِ الجزيرةِ العربيّةِ، ولكنّهُ ليسَ التّغييرَ الذي يسمحُ لنا بإسقاطِ بشريّتِه عندَما نحاولُ فهمَه، فالإنسانُ هو ذاتُه الإنسانُ الذي يعيشُ اليومَ أو عاشَ في ذلكَ الظّرفِ التّاريخيّ، لهُ ميوله ورغباتُه ومصالحُه وبالتالي مُتفاعلٌ سلباً أو إيجاباً معَ المُحيطِ الذي فيه، وقَد لا نجدُ مَن يختلفُ معنا في هذا التّصوّرِ على المُستوى النّظريّ، إلاّ أنَّه على المستوى العمليّ نجدُ الأكثرَ يتملصُ مِن تطبيقِ هذا التّصوّرِ على تاريخِ الصّحابة.  

صحيحٌ أنَّ عائشةَ هيَ زوجةُ النّبيّ إلّا أنَّ ذلكَ لا يمنعُنا مِن تقييمِ ما قامَت بهِ مِن فعلٍ سياسيّ وعسكريّ، فالدّراسةُ الموضوعيّةُ لمعركةِ الجملِ يجبُ أن تبحثَ عنِ الدّوافعِ والأهدافِ التي حرّكَت عائشةَ، ولا علاقةَ لذلكَ بكونِها كانَت زوجاً للنّبيّ، لأنَّ زواجَها لم يكُن السّببَ المُحرّكَ لخروجِها على الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام)، فالخطأ الذي يقعُ فيهِ البعضُ عندَما تناقشُه في ما فعلَته عائشة في الجملِ يقومُ بإظهارِ ما لعائشةَ مِن فضلٍ وما جاءَ في حقِّها مِن نصوصٍ، كأنّما هذهِ الفضائلُ هيَ صكُّ ضمانٍ لكلِّ ما تقومُ بهِ مِن أفعال مُستقبليّةٍ، فلو سلّمنا ما لعائشةَ مِن درجةٍ رفيعةٍ إلاّ أنَّ ذلكَ لا يجعلنا نُسلّمُ بأنَّ خروجَها كانَ صحيحاً أو ليسَ مُداناً، وإذا صحَّ ما نقولُ حينَها يجبُ معرفةُ الأسبابِ التي قادَتها لذلكَ الخروجِ، ومنَ الواضحِ أنَّ تقييمَ العملِ العسكريّ داخلَ المجتمعِ الإسلاميّ لا يكونُ إلّا سياسيّاً، فلا وجودَ لمُبرّر دينيٍّ يُبرّرُ قتالَ المُسلمِ لأخيهِ المُسلم، وعليهِ لابدَّ مِن دراسةِ معركةِ الجملِ ضمنَ الدّوافعِ السّياسيّةِ وليسَت الدّوافعَ الدّينيّةَ، فمُجرّدُ الحربِ هيَ فعلٌ سياسيٌّ وما يترتّبُ عليها هو سياسيٌّ أيضاً، فعندَما حاربَت عائشةُ الإمامَ علي كانَت تسعى لقتلِه، أو على الأقلِّ حتّى تُنحّيهِ عنِ الخلافةِ، وإذا أسقطت خلافتَه لابدَّ أن يكونَ لها بديلٌ مُقترحٌ ينوبُ عنه، وكلُّ ذلكَ كما هوَ واضحٌ سياسيٌّ بامتياز لا دينَ فيه، ومِن هُنا لا يمكنُ أن نجزمَ بأنَّ خروجَها كانَ في رضى الله، لأنَّ اللهَ لم يأمُرها بذلكَ بَل على العكسِ عندَما قالَ لها (وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، فلم يسمَح لها بمُغادرةِ البيتِ إلاّ لضرورةٍ شرعيّةٍ، وخروجُها على الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) ليسَ فيهِ ضرورةٌ شرعيّةٌ، بَل لا يوجدُ حتّى شبهةٌ يمكنُ أن تقودَنا إلى تصوّرِ خروجِها كونَه في رضا اللهِ، فهيَ بالقطعِ ليسَت في رضا اللهِ طالما حكمنا بكونِها كانَت خاطئةً في خيار الحربِ، وبالتّالي فهيَ مسؤولةٌ شرعاً وقانوناً وأخلاقيّاً عنِ الدّماءِ التي سُفكَت، وعَن عدمِ الإستقرار الذي أحدثَته في الدّولةِ الإسلاميّةِ، وعَن كلِّ الأموالِ التي هُدرَت بسببِ الحربِ، وعنِ الأيتامِ والأراملِ والعوائلِ التي شُرّدَت وفقدَت مصدرَ رزقِها، وتستمرُّ المسؤوليّةُ للآثار بعيدةِ المدى التي تُلازمُ الجرحى مِن إعاقاتٍ وأمراضٍ نفسيّةٍ، والمسؤوليّةُ الكُبرى هيَ ما حدثَ مِن إنحرافاتٍ ثقافيّةٍ ودينيّةٍ تسبّبَت في إنقسامِ المُسلمينَ وتمذهبِهم وتشتّتِهم إلى اليوم. فهَل كلُّ هذا يُهملُ ويُستبعدُ لا لشيءٍ سِوى لكونِها زوجةَ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؟

فالمُجتمعُ الذي وُجدَت فيهِ السّيّدةُ عائشة أنصاراً يخرجونَ معها ويقاتلونَ بينَ يديها، وكذلكَ وجدَ فيهِ الإمامُ عليٌّ ومعاويةُ مَن يصطفُّ معَه ويقفُ في صفِّه، لا يمكنُ أنَّ يُتصوّرَ كونُه مُجتمعاً ذا ميولٍ واحدةٍ وتوجّهاتٍ ثقافيّةٍ ودينيّةٍ متساويةٍ، بَل يدلُّ بشكلٍ قاطعٍ بأنَّ تلكَ الإصطفافاتِ السّياسيّةِ كانَ المؤثّرُ فيها مجموعةٌ منَ العواملِ السّياسيّةِ والقبليّةِ والمصلحيّةِ، حتّى الذينَ وقفوا معَ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) لا يمكنُ الجزمُ بأنَّهم على مستوىً واحدٍ منَ النّضجِ الرّساليّ، بَل كانَ فيهم مَن حملَتهُ الظّروفُ القبليّةُ والسّياسيّةُ والمصلحيّةُ على الوقوفِ معَ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام)، وبالتّالي هوَ مجتمعٌ مُتقلبٌ يميلُ معَ كلِّ ناعقٍ كما يقولُ الإمامُ الحُسينُ (عليهِ السّلام): (إنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنيَا، وَالدِّينُ لَعقٌ عَلَى أَلسِنَتِهِم‏ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّت مَعَايِشُهُم فَإِذَا مُحِّصُوا بِالبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانونَ)( ) (بحارُ الأنوارِ، ج 44، ص 382). والنّخبةُ الرّساليّةُ في ذلكَ المُجتمعِ هيَ القليلةُ التي يجبُ البحثُ عنها وتصيّدُها مِن بينِ الجموعِ الغفيرةِ، وهذا الأمرُ خلافاً للتّصوّرِ الشّائعِ الذي يعتقدُ بأنَّ ذلكَ المُجتمعَ كله نخبةٌ والهمجُ فيهِ ما قلَّ وندرَ، وبسببِ هذهِ الرّؤيةِ غيرِ الواقعيّةِ لم نتمكّن مِن فهمِ التّاريخِ كما ينبغي.

يقولُ الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) واصفاً أقسامَ المُجتمعِ الإسلاميّ والمعاييرَ التي يجبُ أن تتحكّمَ فيه، وما وقعَ فيهِ مِن أمراضٍ، في حديثٍ معَ كُميلٍ بنِ زياد حيثُ يقولُ فيه: (أَخَذَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الجَبَّان، فَلَمَّا أَصحَرنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيلُ بنَ زِيَادٍ القُلُوبُ أَوعِيَةٌ فَخَيرُهَا أَوعَاهَا، وَاحفَظ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّاني، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَم يَستَضِيئُوا بِنُورِ العِلمِ، وَلَم يَلجَئُوا إِلَى رُكنٍ وَثِيقٍ.. إلى أن يقول: يَستَعمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنيَا، يَستَظهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَو مُنقَاداً لِأهل الحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحيَائِهِ، يَقتَدِحُ الشَّكَّ فِي قَلبِهِ، بِأول عَارِضٍ مِن شُبهَةٍ، لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَو مَنهُوَمٌ بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ القِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَو مُغرىً بِجَمعِ الأَموَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيسَا مِن دُعَاةِ الدِّينِ، أقرب شَبَهاً بِهِمَا الأنعَام السَّائِمَة، كَذَلِكَ يَمُوتُ العِلمُ بِمَوتِ حَامِلِيهِ، اللهُمَّ بَلَى لَا تَخلُو الأَرضُ مِن قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، لِئَلَّا تَبطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ، أولئِكَ هُمُ الأقلونَ عَدَداً، الأَعظَمُونَ عِندَ اللهِ قَدراً، بِهِم يَدفَعُ اللهُ عَن حُجَجِهِ، حَتَّى يَؤُدُوهَا إِلَى نُظَرَائِهِم، وَيَزرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشبَاهِهِم، هَجَمَ بِهِمُ العِلمُ عَلَى حَقِيقَةِ الأمر فَاستَلانوا مَا استَوعَرَ مِنهُ المُترَفُونَ، وَأَنِسُوا مِمَّا استَوحَشَ مِنهُ الجاهلونَ، صَحِبُوا الدُّنيَا بِأَبدَانٍ أَروَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَنظَرِ الأَعلَى، أولئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي بِلَادِهِ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ. هَاه هَاه شَوقًا إِلَى رُؤيَتِهِم، وَأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكَ، إِذَا شِئتَ فَقُم( (حليةُ الأولياءِ أبو نعيمٍ الأصبهانيّ، ص 80) 

  وهُنا يتحدّثُ أميرُ المؤمنينَ عنِ المجتمعِ الذي عايشَه، وكيفَ أصبحَ النّاسُ فيهِ بعيدينَ عنِ الدّينِ، مُنكبّينَ على الدّنيا وملذّاتها، لا يهتمّونَ بالعلمِ ولا يبحثونَ عنِ الحقّ، كلُّ همِّهم وحرصِهم جمعُ المال وإدّخارُ الحُطامِ، فكانَ يشكو حزنَه لكميلٍ ويتحسّرُ على هذا الواقعِ الذي آلَ إليهِ أمرُ المسلمينَ، ومعَ كلِّ هذا الإحباطِ إلاّ أنَّه يؤكّدُ على وجودِ القلّةِ القليلةِ منَ النّخبةِ المؤمنةِ الذينَ صحبوا الدّنيا بأبدانِهم وأرواحُهم مُعلّقةٌ بالمنظرِ الأعلى، ثمَّ يختمُ بأنَّ أولئكَ خلفاءُ اللهِ في بلادِه ودعاتُه إلى دينه.  

فالذي يجبُ التّأكيدُ عليه هوَ أنَّ المُجتمعَ الإسلاميَّ قَد تغيّرَ كثيراً، أخلاقيّاً وفكريّاً وإقتصاديّاً وسياسيّاً، ومنَ الطّبيعيّ حدوثُ مثلِ هذا التّغيّر؛ لأنَّ الإنسانَ لهُ قدرةٌ على التّكيّفِ معَ الوقائعِ المُتجدّدةِ، فكلُّ مرحلةٍ لها إستعداداتُها النّفسيّةُ والثقافيّةُ والتي بدورِها تُساهمُ في تكوينِ رؤيةِ الإنسانِ في تحديدِ خياراتِه الحياتيّةِ، فدراسةُ الإنسانِ ضمنَ المُحيطِ التّاريخيّ الذي وُجدَ فيه تُقرّبُنا مِن معرفةِ توجّهاتِه السّياسيّةِ والعواملِ المؤثّرةِ فيها، وعليهِ إذا إنسجمَت هذهِ الرّؤيةُ معَ الطّبيعةِ البشريّةِ فمنَ الضّروريّ التّوقّفُ عندَ الدّوافعِ الأساسيّةِ التي حرّكتِ الأحداثَ السّياسيّةَ في التّاريخِ، وهَل هيَ دوافعُ دينيّةٌ بحتةٌ أم هيَ دوافعُ أملَتها الظّروفُ الحاكمةُ على طبيعةِ المصالحِ في تلكَ الفترةِ، فالذينَ ثاروا على عثمانَ مثلاً هَل يخرجونَ عليهِ لو كانَ لهُم نصيبٌ مِن عطايا عثمان؟ إنَّ ملاحقةَ الأحداثِ التّاريخيّةَ بمثلِ هذهِ الأسئلةِ سوفَ يكشفُ لنا النّوايا الحقيقيّةِ لكلِّ ما حدث.

وعندَما بُويعَ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام) للخلافةِ بُويعَ بقرار ثوريّ مِن عامّةِ النّاسِ الذينَ خرجوا على عُثمان، ولو لم يكُن القرارُ ثوريّاً يتناسبُ معَ الظّرفِ الثّوريّ الذي أطاحَ بالحكومةِ السّابقةِ لما آلَت الأمورُ للإمامِ عليّ البتّة، فالنّخبةُ السّياسيّةُ وقياداتُ الصّفِّ الأوّلِ هيَ في العادةِ مَن تتحكّمُ في الخياراتِ السّياسيّةِ الكُبرى، ولو سنحَت لها الفرصةُ وإتّسعَ لها الوقتُ لكانَت وجّهَت الجماهيرَ التي تدافعَت على الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) إلى وجهةٍ أخرى، وعندَما وُضعَت هذهِ القياداتُ أمامَ الأمر الواقعِ بايعوا ولكِن سريعاً ما نكثوا بيعتَهم ثمَّ ألّبوا الجموعَ البعيدةَ وساروا بها إلى حربِه في الجملِ وصفّين، فأميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) أصبحَ خليفةً عندَما كانَت المبادرةُ في يدِ عامّةِ النّاس، وعندَما كانَت المبادرةُ في يدِ قياداتِ قُريش نجدُ أنَّهم حرموهُ منها ثلاثَ مرّاتٍ ولو إستمرَّ لهُم الأمرُ لمنعوها إيّاه إلى الأبد.

كمَا أنَّ القرارَ الذي لجأ إليهِ الثّوّارُ بمُبايعةِ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) لم يكُن قراراً بدافعٍ دينيّ بحت، أي أنَّهم لم يبايعوا عليّاً بوصفِه إماماً مُفترضَ الطّاعةِ، وإنَّما بوصفِه الرّجلَ الذي لا يمكنُ أن يتعرّضوا للظّلمِ تحتَ ظلِّه، فقد هربوا منَ المظالمِ التي كانَت في عهدِ عثمانَ إلى مَن يوفّرُ لهم العدلَ والمساواةَ، أمّا الإمامُ عليّ (عليه السّلام) الذي وصّى الرّسولُ (صلّى اللهُ عليه وآله) بإتّباعِه وإجتمعَ النّاسُ لمُبايعتِه في غديرِ خمٍّ كانوا أوّلَ مَن خذلوهُ إلّا القلّةَ القليلةَ وعندَما دارَت بهِم الدّوائرُ جاؤوا إليهِ يهرعون. 

وقد وصفَ أميرُ المؤمنينَ إجتماعَ النّاسِ لبيعتِه بقولِه: (فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرفِ الضَّبُعِ اليَّ يَنثَالُونَ عَلَيَّ مِن كُلِّ جانب حَتَّى لَقَد وُطِئَ الحَسَنَان وَشُقَّ عِطفَايَ مُجتَمِعِينَ حَولِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضتُ بِالأمر نَكَثَت طَائِفَةٌ وَمَرَقَت أُخرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كأنهُم لَم يَسمَعُوا الله سبحانه يَقُولُ تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ بَلَى وَالله لَقَد سَمِعُوهَا وَوَعَوهَا وَلَكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيَا فِي أَعيُنِهِم وَرَاقَهُم زِبرِجُهَا أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَو لَا حُضُورُ الحَاضِرِ وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ الله عَلَى العُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظلُومٍ لَأَلقَيتُ حَبلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيتُ آخِرَهَا بِكَأسِ أولهَا وَلَأَلفَيتُم دُنيَاكُم هَذِهِ أَزهَدَ عِندِي مِن عَفطَةِ عَنز ((نهجُ البلاغةِ خطبة رقم 47) 

ومِن هذهِ الزّاويةِ نفهمُ رفضَ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) لبيعتِهم أوّلَ الأمر، عندَما قالَ دعوني وإلتمسوا غيري، حتّى لا تكونَ بيعتُه مُجرّدَ عاطفةٍ عابرةٍ، فأعطاهُم بذلكَ فرصةً كافيةً للتّفكّرِ والتّأمّلِ فإذا عزموا أمرَهم وعقدوا لهُ البيعةَ لا يكونُ لهُم مُبرّرٌ للتّراجعِ، وبذلكَ يكشفُ عَن مدى إستعدادِهم لتحمّلِ وعورةِ الحقِّ المُتمّثلِ في المنهجِ الإسلاميّ الصّحيحِ في الحُكمِ، حيثُ قالَ لهُم: (دعوني وإلتمسوا غيري، فإنّا مُستقبلونَ أمراً لهُ وجوهاً وألواناً، لا تقومُ لهُ القلوبُ، ولا تثبتُ عليه العقولُ، وإنَّ الآفاقَ قَد أغامَت، والمحجّةَ قد تنكّرَت، وإعلموا أنّي إن أجبتُكم ركبتُ بكُم ما أعلمُ، ولم أصغِ إلى قولِ القائلِ وعتبِ العاتبِ، وإن تركتموني فأنا كأحدِكم ولعليٍّ أسمعُكم وأطوعُكم لمَن ولّيتموهُ أمرَكم) (نهجُ البلاغةِ خطبة 164) 

  وبرفضِه البيعةَ ودعوتِه لهُم بأن يلتمسوا غيرَه يكونُ قد كشفَ عنِ النّوايا التي لم تطلُب عليّاً لوجهِ اللهِ وإنَّما طلبتُه لرفعِ الحيفِ عنهُم، والبعضُ منهُم رغبوا في عليٍّ وكانَ يحدوهم الطّمعُ أن يكونَ لهُم معَ عليٍّ ما كانَ لبني أميّةَ معَ عثمان، فما إن نهضَ بالأمرِ حتّى نكثَت طائفةٌ ومرقَت أخرى، فهربوا مرّةً أخرى مِن عليٍّ إلى معاويةَ، فعليٌّ عندَه الآخرةَ معَ شغفِ العيشِ، ومعاويةُ كانَت عندَه الدّنيا معَ دينٍ دُجِّنَ لصالحِ الدّنيا. 

يقولُ إبنُ أبي الحديد: وروى أبو عثمانَ الجاحظ، قالَ: أرسلَ طلحةُ والزّبيرُ إلى عليٍّ (عليه السّلام) قبلَ خروجِهما إلى مكّةَ مع محمّدٍ بنِ طلحةَ وقالا: لا تقُل لهُ يا أميرَ المؤمنينَ وقُل لهُ: يا أبا الحسنِ لقَد قالَ فيكَ رأيَنا وخابَ ظنُّنا أصلحنا لكَ الأمرَ ووطّدنا لكَ الإمرةَ وأجلبنا على عثمانَ حتّى قُتلَ فلمّا طلبكَ النّاسُ لأمرهم جئناكَ وأسرعنا إليكَ وبايعناكَ وقُدنا إليكَ أعناقَ العربِ ووطئ المهاجرونَ والأنصارُ أعقابَنا في بيعتِك حتّى إذا ملكَت عنانَك إستبددتَ برأيِك عنّا ورفضتَنا رفضَ التّريكةِ وملّكتَ أمرَك الأشترَ وحكيماً بنَ جبلةَ وغيرَهما منَ الأعرابِ ونزاعَ الأمصار) (إبنُ أبي الحديدِ، شرحُ نهجِ البلاغة ج 3 ص 576) 

والإمامُ عليٌّ لم يكُن رجلَ سياسةٍ بالمعنى المُتعارفِ، وإنَّما كانَ إمامَ حقٍّ يهدي النّاسَ إلى سبلِ السّلام، فلم يكُن في قاموسِه المُداهنةُ على حسابِ الحقِّ أو المجاملةُ في الدّينِ، ولم يكُن في أدبيّاتِه السّياسيّةِ تقديمُ المُغرياتِ لمَن يُشكّلُ خطراً على خلافتِه، وهوَ الذي كانَ يقولُ واللهِ ما معاويةُ بأدهى منّي لكنّهُ يمكر ويقدرُ ولولا مخافةُ اللهِ لكنتُ أدهى العرب. 

ولما بُويعَ الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) كتبَ إلى معاويةَ: أمّا بعدُ فإنَّ النّاسَ قتلوا عثمانَ عَن غيرِ مشورةٍ منّي وبايعوني عَن مشورةٍ منهُم وإجتماعٍ فإذا أتاكَ كتابي فبايِع لي وأوفِد إليَّ أشرافَ أهلِ الشّامِ قبلَك .

فلمّا قدمَ رسوله على معاويةَ وقرأ كتابَه بعثَ رجلاً مِن بني عبسَ وكتبَ معهُ كتاباً إلى الزّبيرِ بنِ العوّامِ وفيه: بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم لعبدِ اللهِ الزّبيرِ أميرِ المؤمنينَ مِن معاويةَ بنِ أبي سفيان سلامٌ عليكَ أمّا بعدُ فإنّي قد بايعتُ لكَ أهلَ الشّامِ فأجابوا وإستوثقوا الحلفَ فدونكَ الكوفةُ والبصرةُ لا يسبقنّكَ لها إبنُ أبي طالبٍ فإنَّه لا شيءَ بعدَ هذينِ المِصرينِ وقد بايعتُ لطلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ مِن بعدِك فأظهرا الطّلبَ بدمِ عثمانَ ودعوا النّاسَ إلى ذلكَ وليكُن منكُما الجدّ والتّشمير أظهرَكما اللهُ وخذلَ مناوئكُما .

فلمّا وصلَ هذا الكتابُ إلى الزّبيرِ سُرَّ بهِ وأعلمَ بهِ طلحةَ وأقرأهُ إيّاهُ فلَم يشُكّا في النّصحِ لهُما مِن قِبلِ معاويةَ وأجمعا عندَ ذلكَ على خلافِ عليّ.  

قالَ: وجاءَ الزّبيرُ وطلحةُ إلى عليّ (عليه السّلام) بعدَ البيعةِ لهُ بأيّام فقالا لهُ: يا أميرَ المؤمنين قد رأيتَ ما كُنّا فيهِ منَ الجفوة في ولايةِ عثمان كلّها وعلمتَ [ أنَّ ] رأيَ عثمان كانَ في بني أميّةَ وقَد ولّاكَ اللهُ الخلافةَ مِن بعدِه فولِّنا بعضَ أعمالِك. 

فقالَ لهُما: إرضيا بقسمِ اللهِ لكُما حتّى أرى رأيي واعلما أنّي لما أشركُ في أمانتي إلاّ مَن أرضى بدينِه وأمانتِه مِن أصحابي ومَن قَد عرفتُ دخيله. 

فانصرفا عنهُ وقد دخلَهما اليأسُ فاستأذناهُ في العُمرة. 

ورويَ أنَّهُما طلبا منهُ أن يوليّهما المصرينِ البصرةَ والكوفةَ فقالَ: حتّى أنظر. 

ثمَّ لَم يولِّهما فأتياهُ فاستأذناهُ للعُمرةِ فقالَ: ما العُمرةَ تريدانِ، فحلفا لهُ باللهِ ما الخلافَ عليهِ ولا نكثَ بيعتِه يريدانِ وما رأيُهما غيرَ العمرةِ قالَ لهُما: فأعيدا البيعةَ لي ثانياً فأعاداها بأشدّ ما يكونُ منَ الإيمانِ والمواثيقِ فأذنَ لهُما . 

فلمّا خرجا مِن عندِه قالَ لمَن كانَ حاضِراً: واللهِ لا ترونَها إلاّ في فئةٍ يقتتلانِ فيها . 

قالوا: يا أميرَ المؤمنين فمُر بردِّهما عليكَ قالَ: ليقضي اللهُ أمراً كانَ مفعولاً. 

فلمّا خرجا إلى مكّةَ لم يلقيا أحداً إلاّ وقالا لهُ: ليسَ لعليٍّ في أعناقِنا بيعةٌ وإنَّما بايعناهُ مُكرهين. 

فبلغَ عليّاً قولَهما فقالَ: أبعدَهما اللهُ وأغربَ دارَهما أما واللهِ لقد علمتُ أنَّهُما سيقتلانِ أنفسَهما أخبثَ مقتلٍ ويأتيانِ مَن وردا عليهِ بأشأمِ يومٍ واللهِ ما العمرةَ يريدانِ ولقد أتيأني بوجهي فاجرينِ ورجعا بوجهي غادرينِ ناكثينِ واللهِ لا يلقيانني بعدَ اليومِ إلاّ في كتيبةٍ خشناء يقتلانِ فيها أنفسَهما فبُعداً لهُما وسُحقاً) (إبنُ أبي الحديدِ، شرحُ نهجِ البلاغة ج 1 ص 230) 

وفي تاريخِ الطّبريّ عندَما علمَت عائشةُ بمقتلِ عثمان ومبايعةِ النّاسِ للإمامِ عليّ (عليه السّلام)، قالَت لعبدِ اللهِ بنِ أمِّ كلاب: (واللهِ ليتَ أنَّ هذهِ إنطبقَت على هذهِ إن تمَّ الأمرُ لصاحبِك، ردّوني ردّوني، فانصرفَت إلى مكّةَ وهيَ تقولُ: قُتلَ واللهِ عُثمانُ مظلوماً، واللهِ لأطلبنَّ بدمِه، فقالَ لها إبنُ أمِّ كلاب: ولمَ؟ فواللهِ إنَّ أوّلَ مَن أمالَ حرفَه لأنت! ولقَد كنتِ تقوليَن: اقتلوا نعثلاً فقَد كفر، قالَت: إنَّهم إستتابوهُ ثمَّ قتلوه، وقَد قلتُ وقالوا، وقولي الأخيرُ خيرٌ مِن قولي الأوّلِ، فقالَ لها إبنُ أمِّ كلاب: 

فمنكِ البداءُ ومنكِ الغيرُ * ومنكِ الرّياحُ ومنكِ المطر 

وأنتِ أمرتِ بقتلِ الإمامِ * وقلتِ لنا أنَّه قد كفر 

فهبنا أطعناكِ في قتلِه * وقاتله عندَنا مَن أمر... إلخ 

فانَّصرفَت إلى مكّةَ، فنزلَت على بابِ المسجدِ، فقصدت للحجرِ، فسيّرَت واجتمعَ إليها النّاسُ، فقالَت: يا أيّها النّاسُ، إنَّ عثمانَ قُتلَ مظلوماً، وواللهِ لأطلبنَّ بدمِه) (تاريخُ الطّبري، ج 4 ص 459)

وقد ساعدَت سياساتُ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) الحازمةُ النّفوسَ الضّعيفةَ على الهروبِ مِن مُعسكرِه واللّحوقِ بمعسكرِ أصحابِ الجملِ ومِن بعدِها صفّين، إذ كيفَ يصبرونَ معهُ وهُم يسمعونَه يقولُ: (أيّها النّاسُ، إنَّما أنا رجلٌ منكم، لي ما لكُم وعليَّ ما عليكُم... ألا إنَّ كلَّ قطيعةٍ أقتطعَها عثمانُ، وكلَّ مالٍ أعطاهُ مِن مالِ اللهِ، فهوَ مردودٌ في بيتِ المالِ فإنَّ الحقَّ القديمَ لا يبطلهُ شيءٌ، ولو وجدتُه قد تزوّجَ بهِ النّساءُ وملكَ بهِ الإماءُ وفرّقَ في البلدانِ لرددتُه. فإنَّ في العدلِ سعة، ومَن ضاقَ عليهِ العدلُ فالجورُ عليهِ أضيقُ أيّها النّاسُ، ألا يقولنَ رجالٌ منكُم غداً قد غمرَتهُم الدّنيا فامتلكوا العقارَ وفجّروا الأنهارَ وركبوا الخيلَ وإتّخذوا الوصائفَ المُرقّقةَ، فصارَ ذلكَ عليهم عاراً وشناراً إذا ما منعتُهم ما كانوا يخوضونَ فيهِ وأصرتُهم إلى حقوقِهم التي يعلمونَ فينقمونَ ذلكَ ويستنكرونَ ويقولونَ: حرمَنا إبنُ أبي طالب حقوقَنا. ألا وأيّما رجلٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ يرى أنَّ الفضلَ لهُ على مَن سواهُ لصُحبتِه فإنَّ له الفضلَ النّيّرَ غداً عندَ اللهِ وثوابه وأجرُه على الله. وأيّما رجلٍ إستجابَ للهِ وللرّسولِ فصدّقَ ملّتنا ودخلَ في دينِنا واستقبلَ قبلتَنا فقَد إستوجبَ حقوقَ الإسلامِ وحدودَه. فأنتُم عبادُ اللهِ والمالُ مالُ اللهِ يُقسمُ بينَكم بالسّويّةِ لا فضلَ فيهِ لأحدٍ على أحدٍ وللمُتّقينَ عندَ اللهِ غداً أحسنُ الجزاءِ وأفضلُ الثّوابِ لم يجعلِ اللهُ الدّنيا للمُتّقينَ أجراً ولا ثواباً وما عندَ اللهِ خيرٌ للأبرارِ. وفي خبرٍ آخر: ثمَّ قالَ: يا معشرَ المُهاجرينَ والأنصارِ أتمنّونَ على اللهِ ورسولِه بإسلامِكم بلِ اللهُ يمنُّ عليكُم أنَّ هداكُم للإيمانِ إن كنتُم صادقينَ، ثمَّ قالَ: ألا إنَّ هذهِ الدّنيا التي أصبحتُم تتمنّونها وترغبونَ فيها وأصبحَت تغضبُكم وترضيكُم ليسَت بدارِكم ولا منزلِكم الذي خُلقتُم لهُ فلا تغرنّكُم فقَد حُذّرتموها واستتمّوا نعمَ اللهِ عليكُم بالصّبرِ لأنفسِكم على طاعةِ اللهِ والذّلِّ لحُكمِه جلَّ ثناؤه .فأمّا هذا الفيءُ فليسَ لأحدٍ على أحدٍ فيهِ أثرةٌ فقَد فرغَ اللهُ مِن قسمتِه فهوَ مالُ اللهِ وأنتُم عبادُ اللهِ المسلمونَ وهذا كتابُ اللهِ بهِ أقررنا ولهُ أسلمنا وعهدُ نبيّنا بينَ أظهرِنا فمَن لم يرضَ بهِ فليتولَّ كيفَ شاءَ فإنَّ العاملَ بطاعةِ اللهِ والحاكمَ بحُكمِ اللهِ لا وحشةَ عليه) (إبنُ أبي الحديد، شرحُ نهجِ البلاغة ج 1 ص 230)

إنَّ جوهرَ المشكلةِ بينَ الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) وبينَ مَن عاصرَهم، هيَ ذاتُها جوهرُ المشكلةِ بينَ الدّنيا والآخرةِ، فقَد كانَ الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) يريدُ الدّينَ، وكانَ القومُ يريدونَ الدّنيا، وما وقعَ بينَهم مِن صراعٍ لابدَّ أن يُفهمَ بوصفِه صراعاً بينَ الإسلامِ كما أرادَهُ اللهُ، وبينَ الإسلامِ كما أرادوه أن يكونَ، فكانَ الإمامُ يسعى ليذوبَ هوَ ومَن معهُ في الإسلامِ، وكانَ الآخرونَ يريدونَ أن يذوبَ الإسلامُ فيهم، وما وقعَ في التّاريخِ مِن أحداثٍ هوَ مُجرّدُ إنعكاسٍ لهذهِ التّوجّهاتِ، فبمُجرّدِ إنتقالِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) إلى الرّفيقِ الأعلى وقبلَ أن يُدفنَ، تسارعَ القومُ لتسخيرِ السّابقيّةِ والهجرةِ وحتّى القُرشيّةِ مِن أجلِ الإختصامِ السّياسيّ في السّقيفةِ، فكانَت هيَ بدايةَ جعلِ الدّينِ مطيّةً لمصالحَ سياسيّةٍ، وإلاّ مَن يستطيعُ الإدّعاءَ بأنَّ الإسلامَ أرادَ منهُم السّقيفةَ، أو أرادَهم أن يُقدّموا المُهاجرينَ على الأنصارِ، أو قُريشاً على بقيّةِ العرب؟ وفي حقيقةِ الأمرِ هُم الذينَ أرادوا بأن تكونَ لهجرتِهم ثمنٌ ولقُرشيّتِهم مزيّةٌ ولسابقيّتِهم منزلةٌ، وهكذا سُخّرَ الإسلامُ مِن أجلِ توسعةِ النّفوذِ وبسطِ الهيمنةِ وإمتلاكِ الأموالِ والجواري، وما فعلَهُ عثمانُ معَ بني أميّةَ مثالٌ واضحٌ لتسخيرِ عرشِ الخلافةِ مِن أجلِ جماعةٍ كانَ كلُّ هدفِها تحقيقُ أطماعِها، وإستمرَّ الأمرُ حتّى أصبحَ الإسلامُ مطيّةَ بني أميّةَ ومِن بعدِهم بني العبّاس، ومِن هُنا وقفَ الإمامُ عليّ (عليه السّلام) أمامَ كلِّ هذهِ المحاولاتِ التّضليليّةِ حتّى يكونَ للإسلامِ وجودٌ، فأرادوا أن يعيبوا عليهِ بأنَّهُ لا خبرةَ لهُ في السّياسةِ، إلاّ أنَّه قَد عابَ عليهم بأنَّهم لا خبرةَ لهُم في الإسلامِ، وبرغمِ ما قامَ بهِ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام) مِن جهودٍ جبّارةٍ إلاّ أنَّ مُغرياتِ الدّنيا كانَت أعظم. 

وعليهِ قَد مهّدَت عائشةُ للأمويّينَ عندَما تستّرَت في حربِها على الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) بدمِ عُثمان، فقَد كانَت ترجو الخلافةَ للزّبيريّينَ، ولذا حرّضَت على قتلِ عثمان، ولكنَّ النّاسَ إجتمعوا على أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) بعد مقتلِه، فخرجَت عليهِ من دونِ أيّ مبرّرٍ دينيٍّ في معركةٍ طاحنةٍ راحَ ضحيّتُها الآلافُ منَ الصّحابةِ، فمكّنَت بذلكَ الأمويّينَ مِن إيجادِ المُبرّرِ الذي يسمحُ لهُم بمواجهةِ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) فلو جازَ لزوجةِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) الخروجَ على الإمامِ عليٍّ بحجّةِ عُثمان فأولادُ عمومتِه أولى بذلكَ الخروجِ، وقد كانَ دهاءُ الأمويّينَ يستوجبُ الإنتظارَ حتّى يروا نتيجةَ حربِ الجملِ وبعدَها يتحرّكونَ، فحربُ صفّينَ هيَ النّتيجةُ الطّبيعيّةُ لحربِ الجملِ، ولو إنتصرَت عائشةُ وقُتلَ أميرُ المؤمنينَ لكانَت صفّينُ بينَ معاويةَ وعائشةَ، أو لكانَ هناكَ معركةُ جملٍ ثانيةٍ، فالحربُ لم تكُن بدافعٍ دينيّ ولم تكُن بسببِ الثّأرِ لدمِ عُثمان حتّى تنتهي بتحقيقِ ذلكَ، وإنَّما كانَت سياسيّةً بامتياز.