ما هو الدّورُ السّياسيُّ للإمامِ عليّ في عهدِ الخُلفاء ؟

ما هوَ دورُ الإمامِ عليٍّ عليهِ السّلام عندَما سُلبَ منهُ الخلافة؟ وهَل مارسَ العملَ السّياسيّ في زمنِهم وتدخّلَ بشؤونِ الحُكم؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

لكي نفهمَ الدّورَ السّياسيَّ الذي قامَ بهِ الإمامُ علي (عليهِ السّلام) في عهدِ الخُلفاءِ، لا بدَّ أن نقفَ على المشهدِ السّياسيّ في مُجملِه مِن أجلِ التّعرّفِ على المساحاتِ المُمكنةِ لأيّ عملٍ سياسيٍّ معارضٍ، وفهمُ ذلكَ يتمُّ بملاحظةِ ثلاثِ أبعادٍ، البُعدُ الأوّلُ: ما هوَ المسارُ السّياسيُّ الذي كانَ يجبُ أن تسيرَ عليه الدّولةُ الإسلاميّة؟ والبعدُ الثّاني: ما هوَ المسارُ السّياسيّ الذي حدثَ بالفعل؟ والبعدُ الثّالث: ما هيَ الحدودُ الدّينيّةُ والشّرعيّةُ التي تُحدّدُ الخياراتِ السياسيّةَ للإمامِ عليّ (عليهِ السّلام)؟ 

 ويمكنُ أن نُجملَ الكلامَ في هذهِ الأبعادِ الثّلاثةِ لأنَّ التّفصيلَ فيها يبعدُنا عنِ السّؤال. 

منَ الواضحِ أنَّ حقيقةَ الخلافِ في الإمامةِ بينَ السّنّةِ والشّيعةِ يتّسعُ باتّساعِ المسافةِ الفاصلةِ بينَ الإسلامِ كدينٍ ينطلقُ منَ الوحي، وبينَ الإسلامِ كتجربةٍ ساهمَ في تكوينِها الظّرفُ التّاريخيُّ والبُعدُ النّفسيّ والإجتماعي، وعليهِ منَ الصّعبِ العثورُ على قواسمَ مُشتركةٍ تُقرّبُ مفهومَ الإمامةِ بينَ الطّرفينِ، فالمفهومُ الشّيعيُّ للإمامةِ يتأسّسُ على حالةٍ منَ القطيعةِ معَ واقعِ التّجربةِ التّاريخيّةِ، بعكسِ المدارسِ الأخرى التي إستلهمَت وعيَها مِن واقعِ تلكَ التّجربةِ، وهذا التّباينُ يقودُنا للوقوفِ على مُنعطفاتٍ تاريخيّةٍ تكشفُ عَن مدى الأزمةِ في الخطابِ السّياسيّ الإسلاميّ، فمنذُ وفاةِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله) وإنتقالِه إلى الرّفيقِ الأعلى، بدأ تباينٌ حادٌّ على مستوى الحُكمِ والإدارةِ، ليشملَ التّباينُ تفاصيلَ العملِ السّياسيّ، في تحديدِ هويّةِ الحاكمِ، وإنتمائِه القبليّ، وهل هوَ محصورٌ في المُهاجرينَ والأنصارِ أم أنَّ الإسلامَ يسمحُ بفتحِ الطّريقِ أمامَ الأقلّيّاتِ حتّى وإن كانَت بعيدةً عَن جزيرةِ العربِ منَ الحبشةِ والفرسِ والرّومِ وغيرِها منَ البلاد؟ وهَل هناكَ معاييرُ بيَّنَها الإسلامُ لتحديدِ شخصيّةِ الحاكمِ، أم أنَّ كلَّ واحدٍ منَ الصّحابةِ يصلحُ أن يكونَ خليفةَ المُسلمين؟ وكيفَ يمكنُ الوصولُ إليه؟ هل عبرَ أهلِ الحلِّ والعقدِ، أم بالشّورى المُطلقةِ، أم الشّرعيّة لمَن غلبَ؟

كلُّ هذهِ الأسئلةِ يكتنفُها الكثيرُ منَ الغموضِ في التّاريخِ السّياسيّ لأهلِ السّنّةِ الذين رجّحوا مشروعَ الشّورى على مشروعِ الإمامةِ، ممّا يعني أنَّ المسارَ السّياسيّ عندَهم لم يكُن يسيرُ وفقاً لخُططٍ أرسَت معالمَها الرّسالةُ، وإنّما كانَت خطواتٍ مُرتجلةً تمليها الظّروفُ التّاريخيّةُ، فإن كانَت الشّورى هيَ الطّريقُ لإختيارِ الحاكمِ وإعتبَرنا السّقيفةَ هيَ أوّلَ تجربةٍ للشّورى، كيفَ يمكنُ أن نفهمَ إختيارَ الخليفةِ الثّاني؟ وإن تجاوزنا المرحلةَ الأولى لندخلَ إلى النّظامِ الملكيّ الذي أسّسَ له بنو أميّةَ وبنو العبّاسِ تتزاحمُ حينَها الأسئلةُ والإشكالاتُ، وهكذا لا يمكنُ أن نضعَ اليدَ على تصوّرٍ واضحٍ ومُنضبطٍ لنظامِ الحُكمِ في الإسلامِ، ومعَ ذلكَ نجدُهم قد أصبغوا حالةً منَ القداسةِ على ما وقعَ وأصبحَ هوَ المرجعَ لأيّ عملٍ سياسيٍّ إسلامي، وفي مقابلِ ذلكَ نجدُ الرّؤيةَ السّياسيّةَ للشّيعةِ تسيرُ عكسَ ما وقعَ تاريخيّاً، وقدّموا تصوّرَهم الذي ينطلقُ مِن فكرةِ الإمامةِ القائمةِ على النّصِّ والتّعيينِ، والبُعدُ العقديّ لهذهِ الفكرةِ هوَ أنَّه لا يمكنُ صناعةُ نظامٍ للحُكمِ ومِن ثمَّ فرضه بوصفِه تعبيراً عَن إرادةِ اللهِ طالما لم يكُن بأمرِ اللهِ وتعيينِه، ومِن هُنا يعتقدُ الشّيعةُ أنَّ إمامةَ أهلِ البيتِ التي أشارَ إليها القرآنُ ونصَّ عليها الرّسولُ هيَ الإمتدادُ الحقيقيّ لحاكميّةِ الإسلامِ، وبالتّالي يمكنُنا القولُ أنَّ الرّؤيةَ السّياسيّةَ عندَ الشّيعةِ كانَت سابقةً لِما حدثَ وأُنجزَ في الواقعِ التّاريخيّ مِن نظامٍ سياسيٍّ، بَل إنطلقَت منَ النّصِّ لفهمِ المسارِ السّياسيّ للرّسالةِ، فضمنَ حدودِ هذهِ الرّؤيةِ إنفتحَت على الواقعِ التّاريخيّ ببصيرةٍ نقديّةٍ حاكمَت كلَّ التّجاربِ التي قد تتصادمُ معَ هذهِ الرّؤيةِ، ومِن أجلِ ذلكَ لم يتساهَل التّشيّعُ معَ سقيفةِ بني ساعدةَ كخيارٍ سياسيٍّ يتحكّمُ في مسيرِ الرّسالةِ، وجاهرَ أئمّةُ الشّيعةِ برفضِهم لتلكَ الخلافةِ، فامتنعَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) عَن بيعةِ الخليفةِ الأوّلِ أبي بكرٍ نحوَ ستّةِ أشهرٍ بحسبِ روايةِ البُخاريّ ومُسلمٍ، وعندَما جاءَتهُ الفرصةُ الأولى، وعرضَ عليهِ عبدُ الرّحمنِ بنُ عوفٍ الخلافةَ، بشرطِ أن يسيرَ بسيرةِ الشّيخينِ أبي بكرٍ وعُمر، لم يقبَل ولو ظاهريّاً ومجاملةً، وأعلنَ رفضَه المُدوّي بقولِه: كتابُ اللهِ وسنّةُ الرّسولِ نعَم، أمّا سيرةُ الشّيخينِ فلا.

ومِن هُنا يتّضحُ لنا طبيعةُ الدّورِ السّياسيّ للإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام)، بناءً على الخيارِ السّياسيّ للرّسالةِ المُتمثّلِ في الإمامةِ، وما حدثَ بالفعلِ مِن خياراتٍ تُعدُّ إنقلاباً على خيارِ الرّسالةِ، فالإمامةُ كخيارٍ سياسيٍّ تستوجبُ قبولَ الأمّةِ ورضوخَها لها، ولا تفرضُ نفسَها بالقوّةِ أو تسعى إلى الحُكمِ بأيّ وسيلةٍ كانَت، فاللهُ أوجبَ على الأمّةِ طاعةَ الإمامِ ولم يُوجِب على الإمامِ أن يُكرهَ النّاسَ حتّى يتّبعوهُ، وعليهِ لم تكُن الخياراتُ السّياسيّةُ كلّها متاحةً أمامَ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام)، وإنّما دورُه كانَ محكوماً بشرطِ قبولِ النّاسِ وتقديمِهم لهُ، وفي هذهِ الحالةِ ليسَ أمامَ الإمامِ إلّا بيانُ حقّهِ للنّاسِ وإقامةُ الحجّةِ عليهم، وكونهُ صاحبَ الحقِّ لا يعني أن يمارسَ السّياسةَ بكلِّ ما فيها مِن دسائسَ ومؤامراتٍ، فإذا كانَ للسّياسةِ قيمُها الخاصّةُ فإنَّ الإسلامَ لهُ قيمُه أيضاً ولا يجوزُ تقديمُ قيمِ السّياسةِ على قيمِ الدّينِ، ومِن هُنا كانَ دورُه محكوماً بضرورةِ الحفاظِ على الإسلامِ وضمانِ مسيرتِه المُستقبليّةِ، ممّا يوجبُ عليهِ نوعاً منَ العملِ السّياسيّ لا يؤدّي إلى زعزعةِ الإسلامِ في النّفوسِ كما لا يؤدّي إلى تضعيفِ قوّةِ المُسلمينَ في قبالِ مَن يتربّصُ بهم الدّوائرَ، ومِن هذا البُعدِ نتفهّمُ وصيّةَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) التي أمرَ فيها الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) بالصّبرِ إذا لم يجِد ناصِراً لمقاومةِ الإنحرافِ الذي حدثَ بعدَ السّقيفةِ، والمقصودُ بالنّاصرِ أن يكونَ هناكَ تيّارٌ مستوعبٌ لحقيقةِ الإمامةِ مؤمنٌ بدورِها في قيادةِ الأمّةِ، وقد وردَت هذه الوصيّةُ في أحاديثَ كثيرةٍ، مِنها أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بكى في حادثةٍ فقالَ لهُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام): (ما يبكيكَ يا رسولَ اللهِ، قالَ: ضغائنُ في صدورِ قومٍ لا يبدونَها لكَ حتّى يفقدوني فقالَ: يا رسولَ اللهِ أفلا أضعُ سيفي على عاتقي فأبيدَ خضراءهم؟ قالَ: بل تصبرُ. قالَ: فإن صبرتُ؟ قالَ: تلاقي جهداً. قالَ: أفي سلامةٍ مِن ديني؟ قالَ: نعَم قالَ: فإذاً لا أبالي) ( البحارُ ج34، ص339) 

وبذلكَ إنحصرَ المسارُ السّياسيُّ لأميرِ المؤمنينَ بالمُعارضةِ السّلميّةِ للسّلطةِ التي تحكّمَت على الأمرِ في المدينةِ، وقد نقلَ لنا التّاريخُ الكثيرَ منَ المواقفِ التي عبّرَ فيها الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) عَن إحتجاجِه ورفضِه، فلم يدَع فرصةً في طولِ فترةِ الخلفاءِ الثّلاثةِ إلّا وأقامَ الحجّةَ على الجميعِ بأنّه أولى بالخلافةِ مِن غيرِه، ومِن بينِ إحتجاجاتِه قوله: (يا مَعاشِرَ المُهاجِرينَ والأنصار ، اللهُ الله ، لا تَنسوا عَهدَ نبيِّكُم إليكُم في أمري ، ولا تُخرجوا سُلطانَ مُحَمَّدٍ من دارِه وقعرِ بيتِه إلى دُورِكم وقَعرِ بيوتِكم ، ولا تدفعوا أهله عَن حَقِّه ومقامِه في النّاس . فَوَ الله مَعاشرَ الجمعِ، إنَّ اللهَ قَضَى وحَكَم ، ونبيُّه أعلم ، وأنتُم تعلمونَ بأنَّا أهلُ البيتِ أحَقُّ بهذا الأمرِ منكُم . أمَا كان القارئُ مِنكُم لكتابِ اللهِ ، الفقيهُ في دينِ الله ، المُضطَلِع بأمرِ الرَّعيَّة ، واللهِ إنّه لَفِينَا لا فيُكم ، فلا تَتبَعوا الهوى فتزدَادُوا منَ الحَقِّ بُعداً ، وتُفسِدوا قَديمَكم بشرٍّ مِن حَديثِكم) ( الإحتجاج ج1 ص89) 

وزيادةً في إقامةِ الحجّةِ، كانَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) يأخذُ الزّهراءَ (عليها السّلام) والحسنين (عليهم السّلام)، ويدورُ على بيوتِ الأنصارِ ويذكّرُهم بوصايا النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فيهِ وفي أهلِ بيتِه (عليهم السّلام)، كما عنِ الإمامِ الباقرِ (عليهِ السّلام): أنَّ عليّاً حملَ فاطمةَ صلواتُ اللهِ عليها على حمارٍ، وسارَ بها ليلاً إلى بيوتِ الأنصارِ يسألُهم النّصرةَ، وتسألُهم فاطمةُ الإنتصارَ له، فكانوا يقولونَ يا بنتَ رسولِ اللهِ قد مضَت بيعتُنا لهذا الرّجلِ، لو كانَ إبنُ عمِّك سبقَ إلينا أبا بكرٍ ما عدلناهُ بهِ، فقالَ عليٌّ (عليهِ السّلام): أكنتُ أتركُ رسولَ اللهِ ميتاً في بيتِه لا أجهّزُه وأخرجُ إلى النّاسِ أنازعُهم في سلطانِه؟ وقالت فاطمةُ: ما صنعَ أبو الحسنِ إلّا ما كانَ ينبغي لهُ، وصنعوا هُم ما اللهُ حسيبُهم عليه) (البحارُ ج28 ص252).

وقد شكّلَت هذهِ المُعارضةُ تهديداً حقيقيّاً للسلطةِ السياسيّةِ، الأمرُ الذي إضطرَّ الخلفاءَ لمحاولةِ كسبِ رضاهُ إلّا أنّهم لم يلقوا منهُ تجاوباً، فقد روى الصّدوقُ في الخصالِ عنِ الإمامِ السّجّادِ (عليه السّلام) أنّهُ قالَ: (لمّا كانَ من أمرِ أبي بكرٍ وبيعةِ النّاسِ له وفعلِهم بعليٍّ بنِ أبي طالبَ (عليهِ السّلام) ما كانَ، لم يزَل أبو بكرٍ يُظهرُ له الإنبساطَ ويرى منهُ إنقباضاً) (خصالُ الصّدوقِ، ص549)، وهكذا كانَ الخليفةُ الثّاني خائِفاً مِن تحرّكاتِ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) فلمّا دخلَ عليهِ عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ قالَ عمرُ: مِن أينَ جئتَ يا عبدَ اللهِ؟ قلتُ: منَ المسجدِ، قالَ: كيفَ خلّفتَ إبنَ عمّك؟ فظننتُه يعني عبدَ اللهِ بنَ جعفرٍ، قلتُ: خلفتُه يلعبُ معَ أترابِه، قالَ: لم أعنِ ذلكَ إنّما عنيتُ عظيمَكم أهلَ البيتِ، قلتُ: خلفتُه يمتحُ بالغربِ على نخيلاتٍ مِن فلانٍ ويقرأ القرآنَ، قالَ: يا عبدَ اللهِ عليكَ دماءُ البدنِ إن كتمتنيها هَل بقيَ في نفسِه شيءٌ مِن أمرِ الخلافةِ؟ قلتُ: نعَم، قالَ: أيزعمُ أنَّ رسولَ اللهِ (ص) نصَّ عليهِ؟ قلتُ: نَعم وأزيدُك سألتُ أبي عمّا يدّعيهِ فقالَ: صدقَ...» (شرحُ النّهجِ لابنِ أبي الحديد ج12 ص21).

وهكذا الحالُ في خلافةِ عثمانَ حيثُ قالَ للإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) (إنّكَ إن تربّصتَ بي فقد تربّصتَ بمَن هوَ خيرٌ منّي ومنكَ، قالَ: ومَن هوَ خيرٌ منّي؟ قالَ: أبو بكرٍ وعُمر! فقالَ: كذبتَ أنا خيرٌ منكَ ومنهُما، عبدتُ اللهَ قبلَكم وعبدتُه بعدَكم) (البحارُ ج38، ص228). 

وهكذا كاَن يُظهرُ الإمامُ (عليه السّلام) إحتجاجَه عندَ مُبايعةِ كلِّ خليفةٍ منَ الخلفاءِ، وعندَما أرادَ القومُ مُبايعةَ عثمانٍ خطبَ فيهم قائِلاً: (أيُّها النّاسُ: أنصتوا لِما أقولُ رحمَكُم اللهُ، إنَّ النّاسَ بايعوا أبا بكرٍ وعُمر وأنا واللهِ أولى منهُما بوصيّةِ رسول اللهِ، وأنتُم اليومَ تريدونَ أن تُبايعوا عثمانَ، فإن فعلتُم واللهِ ما تجهلونَ محلّي، ولا جهلَ مَن كانَ قبلكُم ولولا ذلكَ قلتُ ما لا تطيقونَ دفعَه. فقالَ الزّبيرُ: ما تقولُ يا أبا الحسنِ؟ فقالَ عليٌّ (عليهِ السّلام) أنشدُكم باللهِ: هَل فيكُم أحدٌ وحّدَ اللهَ وصلّى معَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) قبلي؟ أم هَل فيكُم أحدٌ أعظمُ عندَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مكاناً منّي؟ أم هَل فيكُم مَن كانَ يأخذُ ثلاثةَ أسهمٍ: سهمُ القرابةِ، وسهمُ الخاصّةِ، وسهمُ الهجرةِ أحدٌ غيري؟ وهكذا عدّدَ مناقبَه..... قالَ: فعندَ ذلكَ قامَ الزّبيرُ وقالَ: صحّ مقالتُك ولا ننكرُ منهُ شيئاً، ولكنَّ النّاسَ بايعوا الشّيخينِ، ولم يُخالفوا الإجماعَ، فلمّا سمعَ ذلكَ، نزلَ وهوَ يقولُ: (وَما كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً) (الرّوضةُ في فضائلِ أميرِ المؤمنينَ- لشاذانَ إبنِ جبريل القمّي، ص119) 

ومعَ ذلكَ نجدُ الإمامَ (عليه السّلام) في الوقتِ الذي كانَ يعارضُ فيه الخلفاءَ بوصفِهم لا يمثّلونَ الإسلامَ، نجدُه يدافعُ عَن دولةِ الإسلامِ وسلطانِ المسلمينَ، فلم يكُن ينظرُ للأمرِ بالنّظرةِ الشّخصيّةِ فيضعُ العراقيلَ أمامَ قدراتِ الدّولةِ وهيبةِ المُسلمينَ؛ لأنّه كانَ يعلمُ أنَّ سقوطَ حكومةِ المسلمينَ وسلطانِهم يعني وقوعَهم فريسةً في قبضةِ الإمبراطوريّةِ الرّومانيّةِ أو الفارسيّةِ اللتين تتحيّنانِ الفُرصَ للإنقضاضِ على الدّولةِ الوليدةِ، كما كانَ يعلمُ بوجودِ تيّارٍ منَ المُنافقينَ والموتورينَ مِن قبائلِ العربِ الذينَ يتصيّدونَ في المياهِ العكرةِ، ولِذا لم يكُن يتردّدُ في تقديمِ المشورةِ والنّصحِ للخلفاءِ سياسيّاً ودينيّاً، ومِن ذلكَ ما رواهُ المُفيدُ في الإرشادِ، (إنَّ الأعاجمَ مِن أهلِ همدانَ وأهلِ الرّيّ وأهلِ أصفهانَ وقومس ونهاوند تكاتبَت، وأرسلَ بعضُهم إلى بعضٍ، وإتّفقوا على مهاجمةِ المُسلمينَ، فلمّا وصلَ الخبرُ إلى عُمر فزعَ فزعاً شديداً، فصعدَ المنبرَ وأخبرَ المُهاجرينَ والأنصارَ، وإستشارَهم في الأمرِ، فقامَ طلحةُ وتكلّمَ ثمَّ عثمانُ، ثمَّ قامَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) فقالَ: الحمدُ للهِ - حتّى تمَّ التّحميد والثناء على اللهِ والصّلاة على رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) - ثمَّ قالَ: أمّا بعد، فإنّك إن أشخصتَ أهلَ الشامِ مِن شامِهم، سارَت الرّومُ إلى ذراريهم، وإن أشخصتَ أهلَ اليمنِ مِن يمنِهم، سارَت الحبشةُ إلى ذراريهم، وإن أشخصتَ مَن بهذينِ الحرمينِ، إنتقضَت العربُ عليكَ مِن أطرافِها وأكنافِها، حتّى يكونُ ما تدعُ وراءَ ظهرِك مِن عيالاتِ العربِ أهمّ إليكَ ممّا بينَ يديكَ. وأمّا ذكرُك كثرةَ العجمِ ورهبتَك مِن جموعِهم، فإنّا لم نكُن نقاتلُ على عهدِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) بالكثرةِ، وإنّما كُنّا نقاتلُ بالنّصرِ، وأمّا ما بلغكَ مِن إجتماعِهم على المسيرِ إلى المُسلمينَ، فإنَّ اللهُ لمسيرِهم أكرهُ منكَ لذلكَ، وهوَ أولى بتغييرِ ما يكرَه، وإنَّ الأعاجمَ إذا نظروا إليكَ قالوا: هذا رجلُ العربِ، فإن قطعتموهُ فقَد قطعتُم العربَ، فكانَ أشدَّ لكلبِهم، وكنتَ قَد ألّبتَهم على نفسِك، وأمدّهم مَن لم يكُن يُمدّهم. ولكنّي أرى أن تقرّ هؤلاءِ في أمصارِهم، وتكتبَ إلى أهلِ البصرةِ فليتفرّقوا على ثلاثِ فرقٍ: فلتقُم فرقةٌ منهُم على ذراريهم حرساً لهم، ولتقم فرقةٌ في أهلِ عهدِهم لئلّا ينتقضوا، ولتسِر فرقةٌ منهُم إلى إخوانِهم مدداً لهم، فقالَ عُمر: أجَلْ هذا الرّأي، وقَد كنتُ أحبُّ أن أتابعَ عليهِ. وجعلَ يُكرّرُ قولَ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) وينسّقُه إعجاباً بهِ وإختياراً له) (الإرشادُ للمُفيد، ج1، ص207). 

ويبدو أنَّ هذهِ المواقفَ هيَ التي جعلَت البعضَ يعتقدُ أنَّ العلاقةَ بينَ أميرِ المؤمنينَ والخلفاءِ كانَت جيّدةً، حيثُ لم يفهموا مواقفَ الإمامِ (عليه السّلام) التي تفرّقُ بينَ مُطالبتِه بحقِّه في الخلافةِ وبينَ موقفِه الدّينيّ والأخلاقيّ الذي يحتّمُ عليهِ تقديمَ العونِ والنّصحِ والمشورةِ حفاظاً على بيضةِ الإسلام.