لماذا صرّحَ القرآنُ بأنَّ النّصارى أقربُ إلى المسلمينَ منَ اليهود ؟

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  :   

قالَ اللهُ تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسِّيسِينَ وَرُهبَانًا وَأَنَّهُم لَا يَستَكبِرُونَ ،  وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَمَا لَنَا لَا نُؤمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطمَعُ أَن يُدخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَومِ الصَّالِحِينَ ، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحسِنِينَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَحِيمِ . } [المائدةُ82 - 86] 

 

قالَ الشّيخُ ناصِر مكارم :  

 

حقدُ اليهودِ ومودّةُ النّصارى : 

تقارنُ هذهِ الآياتُ بينَ اليهودِ والنّصارى الذينَ عاصروا رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) . 

في الآيةِ الأولى وُضعَ اليهودُ والمشركونَ في طرفٍ واحدٍ والمسيحيّونَ في طرفٍ آخر : { لتجدنَّ أشدَّ النّاسِ عداوةً للذينَ آمنوا اليهودَ والذينَ أشركوا ، ولتجدنَّ أقربَهُم مودّةً للذينَ آمنوا الذينَ قالوا إنّا نصارى .}  

يشهدُ تاريخُ الإسلامِ بجلاءٍ على هذهِ الحقيقةِ ، ففي كثيرٍ منَ الحروبِ التي أُثيرَت ضدَّ المُسلمينَ كانَ لليهودِ ضلعٌ فيها ، بصورةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ، ولم يتورّعوا عنِ التّوسّلِ بأيّةِ وسيلةٍ للتّآمرِ ، وقليلٌ منهُم إعتنقَ الإسلامَ ، ولكنّنا قلّما نجدُ المُسلمينَ يواجهونَ المسيحيّينَ في غزواتِهم ، كما أنَّ الكثيرينَ منهُم إلتحقوا بصفوفِ المُسلمين . 

ثمَّ يعزو القرآنُ هذا الإختلافَ في السّلوكِ الفرديّ والإجتماعيّ إلى وجودِ خصائصَ في المسيحيّينَ المُعاصرينَ لرسولِ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ) لم تكُن موجودةً في اليهودِ : فأوّلاً كانَ بينَهم نفرٌ منَ العلماءِ لم يسعوا - كما فعلَ علماءُ اليهودِ - إلى إخفاءِ الحقائقِ { ذلكَ بأنَّ منهُم قسّيسينَ .}  

ثمَّ كانَ منهُم جمعٌ منَ الزّهّادِ الذينَ تركوا الدّنيا ، وهيَ النّقطةُ المُناقضةُ لِما كانَ يفعله بخلاءُ اليهودِ الجشعون .  

وعلى الرّغمِ مِن كلِّ إنحرافاتِهم كانوا على مستوىً أرفعَ بكثيرٍ مِن مستوى اليهودِ : { ورهباناً } . 

وكثيرٌ منهُم كانوا يخضعونَ للحقِّ ، ولم يتكبّروا ، في حينِ كانَ معظمُ اليهودِ يرونَ أنّهم عنصرٌ أرفعُ ، فرفضوا قبولَ الإسلامِ الذي لم يأتِ على يدِ عنصرٍ يهوديّ : { وأنّهم لا يستكبرونَ .} 

ثمَّ إنَّ نفراً منهُم كانوا إذا إستمعوا لآياتٍ منَ القرآنِ تنحدرُ دموعُهم مثلَ مَن صحبَ جعفراً منَ الأحباشِ لأنّهم يعرفونَ الحقَّ إذا سمعوهُ : { وإذا سمعوا ما أُنزلَ إلى الرّسولِ ترى أعينهَم تفيضُ منَ الدّمعِ ممّا عرفوا منَ الحقِّ .} فكانوا ينادونَ بكلِّ صراحةٍ وشجاعةٍ ، { ويقولونَ ربّنا آمنّا فاكتُبنا معَ الشّاهدين .} 

لقد كانَ تأثّرُهم بالآياتِ القرآنيّةِ منَ الشّدّةِ بحيثُ أنّهم كانوا يقولونَ : { وما لنا لا نؤمنُ باللهِ وما جاءنا منَ الحقِّ ونطمعُ أن يُدخلَنا ربُّنا معَ القومِ الصّالحين . } 

سبقَ أن قُلنا إنَّ هذهِ المُقارنةَ كانَت بينَ اليهودِ والنّصارى المُعاصرينَ لرسولِ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ) ، فاليهودُ - وإن كانوا مِن أصحابِ الكتبِ السّماويّةِ - بلغَت شدّةُ تعلّقِهم بالمادّةِ وحبُّهم لها أن إنخرطوا في سلكِ المُشركينَ الذينَ لم يكُن يربطهم بهِم أيُّ وجهِ شبهٍ مُشترك ، معَ أنَّ اليهودَ في البدايةِ كانوا منَ المُبشّرينَ بمجيئِ الإسلامِ ولم تكُن قد دخلَتهم إنحرافاتٌ كالتّثليثِ والغلوِّ اللذينِ كانا عندَ المسيحيّينَ ، غيرَ أنَّ حبَّهم للدّنيا حبُّ عبادةٍ قد أبعدَهم عنِ الحقِّ ، بينَما معاصروهم المسيحيّونَ لم يكونوا على هذهِ الشّاكلة . 

إلّا أنَّ التّأريخَ القديمَ والمُعاصرَ يقولُ لنا : أنَّ المسيحيّينَ في القرونِ التي أعقبَت ذلكَ قد إرتكبوا بحقِّ الإسلامِ والمُسلمينَ جرائمَ لا تقلُّ عمّا فعلَه اليهودُ في هذا المجال .

إنَّ الحروبَ الصّليبيّةَ الطويلةَ والدّمويّةَ في القرونِ الماضيةِ ، والإستفزازاتِ الكثيرةَ التي يقومُ بها الإستعمارُ ضدَّ الإسلامِ والمسلمينَ اليومَ غيرُ خافيةٍ على أحدٍ ، لذلكَ ليسَ لنا أن نأخذَ الآياتِ المذكورةَ مأخذَ قانونٍ عامٍّ بالنّسبةِ لجميعِ المسيحيّينَ ، بَل إنَّ الآيةَ : إذا سمعوا ما أنزلَ إلى الرّسولِ . . . وما بعدَها دليلٌ على أنّها نزلَت بحقِّ جمعٍ منَ المسيحيّينَ الذينَ كانوا يُعاصرونَ رسولَ اللهِ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ) . 

الآيتانِ الأخيرتانِ فيهما إشارةٌ إلى مصيرِ هاتينِ الطائفتينِ وإلى عقابِهما وثوابِهما ، أولئكَ الذينَ أظهروا المودّةَ للمؤمنينَ وخضعوا لآياتِ اللهِ وأظهروا إيمانَهم بكلِّ شجاعةٍ وصراحةٍ : { فأثابَهم اللهُ بما قالوا جنّاتٍ تجري مِن تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وذلكَ جزاءُ المُحسنين .}  

وأمّا أولئكَ الذينَ ساروا في طريقِ العداءِ والعنادِ فتقولُ الآيةُ عنهم : { والذينَ كفروا وكذّبوا بآياتِنا أولئكَ أصحابُ الجحيم .}  

الأمثلُ في تفسيرِ كتابِ اللهِ المُنزل ج ٤ ص ١٢٨