ما هوَ تفسيرُ الآيةِ مِن كُتبِ الشيعة. قالَ تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا} [يونس: 36]؟  

: السيد رعد المرسومي

السلامُ عليكُم ورحمة الله، 

يذهبُ جمهورُ المُفسّرينَ إلى أنّ هذهِ الآيةَ جاءَت عقبَ آياتٍ مُرتبطةٍ بالمبدأ والمعاد، والتي مِن خلالِ التدبّرِ فيها يتبيّنُ الحقُّ منَ الباطل، إذ بدأت هذهِ الآياتُ بقولِه تعالى: {قُل هَل مِن شُرَكَائِكُم مَن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ} [يونس: 34]. ثمّ بخطابٍ آخر: {قُل هَل مِن شُرَكَائِكُم مَن يَهدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهدِي لِلحَقِّ أَفَمَن يَهدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهدَى فَمَا لَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ} [يونس: 35]. إلى أن وصلت إلى هذا الموضعِ مِن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا} [يونس: 36]؟  

فلاحِظ أنّ الآياتِ وإن كانَت تخاطبُ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلم) بهذهِ الأسئلة، لكنَّ المقصودَ بها مُشركو قريشٍ وكفّارَهم كما لا يخفى، إذ بدأت بهذا السؤال: قُل هل مِن شركائِكم مَن يبدأ الخلقَ ثمَّ يعيدُه؟ ثمَّ يأتي الجوابُ بعدَ هذا الخطابِ مُتّصلاً: قُل اللهُ يبدأ الخلقَ ثمَّ يعيدُه فأنّى تؤفكون. أي أيّها المُشركونَ لماذا تصرفونَ وجوهَكم عن الحقِّ وتتّجهونَ نحوَ الضلال؟ وها هُنا سؤالان:  

أحدُهما: أنّ المشركينَ غالباً لا يعتقدونَ بالمعاد، وخصوصاً بالصورةِ التي يذكرُها القرآن، وإذا كانَ هذا حالهم فكيفَ يطلبُ القرآنُ منهُم الاعترافَ به؟  

والآخرُ: في الآيةِ السابقةِ كانَ الكلامُ عن اعترافِ المُشركينَ وإقرارِهم، إلّا أنَّ هذهِ الآيةَ تأمرُ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أن يُقرَّ هوَ بهذهِ الحقيقةِ، فلماذا هذا الاختلافُ في التعبير؟  

فالجوابُ عن ذلك، بأنّ المشركينَ بالرغمِ مِن عدمِ اعتقادِهم بالمعاد الجسمانيّ، إلّا أنَّ ذلكَ القدرَ الذي آمنوا به مِن أنَّ بدايةَ الخلقِ كانَت منَ الله كافيةً لتقبّل ِالمعادِ والاعتقادِ به، لأنَّ كلَّ مَن عملَ عملاً في البدايةِ قادرٌ على إعادتِه، وبناءً على هذا فإنَّ الاعتقادَ بالمبدأ إذا ما اقترنَ بشيءٍ منَ الدقّةِ كافٍ لإثباتِ المعاد. ومِن هُنا يتّضحُ لماذا أقرَّ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلم) بهذهِ الحقيقةِ بدلاً منَ المُشركين، فإنّه بالرغمِ مِن كونِ الإيمانِ بالمعادِ مِن لوازمِ الإيمانِ بالمبدأ، إلّا أنَّ هؤلاءِ لمّا لم يتوجّهوا إلى هذهِ المُلازمة، اختلفَ طرازُ التعبيرِ وأقرَّ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مكانَهم. ثمَّ تأمرُ الآيةُ الأخرى النبيّ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ) مرّةً أخرى : قل هل مِن شركائِكم مَن يهدي إلى الحقِّ، لأنَّ المعبودَ يجبُ أن يكونَ هادياً ومُرشِداً لعبادِه ، خصوصاً أنّها هدايةٌ نحوَ الحق ، في حينِ أنَّ آلهةَ المُشركين ، أعمُّ منَ الجماداتِ أو الأحياء ، غيرُ قادرةٍ أن تهدي أحداً إلى الحقّ مِن دونِ الهدايةِ الإلهيّة ، لأنَّ الهدايةَ إلى الحقِّ تحتاجُ إلى منزلةِ العصمةِ والصيانةِ منَ الخطأ والاشتباه ، وهذا لا يمكنُ مِن دونِ هدايةِ اللهِ سُبحانَه وتسديده ، ولذلكَ فإنّها تضيفُ مباشرةً : قل اللهُ يهدي للحقِّ وإذا كانَ الحالُ كذلكَ أفمَن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتّبعَ أم مَن لا يهدّي إلّا أن يُهدى.  

وتقولُ الآيةُ في النهايةِ بلهجةِ التوبيخِ والتقريعِ والملامة: فما لكم كيفَ تحكمون؟  

وفي آخرِ الآيةِ إشارةٌ إلى المصدرِ الأساسِ والعاملِ الأصلِ لهذه الانحرافاتِ التي وقعَ فيها المشركونَ والكُفّار، وهوَ الأوهامُ والظنونُ وما يتّبعُ أكثرُهم إلّا ظنّاً إنَّ الظنَّ لا يُغني منَ الحقِّ شيئاً.  

إذا عرفتَ ما تقدّمَ فقد بقيَت بعضُ الملاحظاتِ الجديرةِ بالتنبيهِ عليها، منها:  

1 - قرأنا في الآياتِ أعلاه أنَّ اللهَ سُبحانَه وحدُه الذي يهدي إلى الحق، وهذا الحصرُ إمّا لأنَّ المقصودَ منَ الهدايةِ ليسَ هوَ إراءةَ الطريقِ وحسب، بل هوَ الإيصالُ إلى المقصد، وهذا الأمرُ بيدِ اللهِ تعالى فقط، أو لأنَّ إراءةَ الطريقِ والدلالةَ عليه هوَ أيضاً مِن عملِ اللهِ تعالى في الدرجةِ الأولى، وأمّا غيرُه منَ الأنبياءِ والمُرشدينَ والمُصلحينَ الإلهيّينَ فإنّهم يطّلعونَ على طريقِ الهدايةِ عَن طريقِه وهدايتِه، ويُصبحونَ عُلماءَ بتعليمِه.  

2 - أنَّ ما نقرأهُ في الآياتِ أعلاه مِن أنَّ آلهةَ المُشركينَ لا تستطيعُ أن تهدي أحداً، بل هيَ بذاتِها مُحتاجةٌ إلى الهدايةِ الإلهيّة، وإن كانَ لا يصدقُ على الأصنامِ الحجريّةِ والخشبيّة، لأنّها لا تملكُ العقلَ والشعورَ مُطلقاً، إلّا أنّهُ يصدقُ تماماً في حقِّ الآلهةِ التي لها شعورٌ كالملائكةِ والبشرِ الذينَ أصبحوا معبودين. ويحتملُ أيضاً أن تكونَ الجملةُ المذكورةُ بمعنى القضيّةِ الشرطيّة، أي على فرضِ أنَّ للأصنامِ عقلاً وشعوراً، فإنّها لا تستطيعُ أن تجدَ الطريقَ مِن دونِ الهدايةِ الإلهيّة لنفسِها، فكيفَ ستقدرُ على هدايةِ الآخرين؟ وعلى كلِّ حال، فإنَّ الآياتِ أعلاه تُبيّنُ - بوضوح - أنَّ مِن برامجِ اللهِ الأصليّةِ لعبادِه أن يهديهم إلى الحقِّ، ويتمُّ ذلكَ عن طريقِ منحِ العقل، وإعطاءِ الدروسِ المُختلفةِ عن طريقِ الفِطرة، وإرادةِ وإظهارِ آياتِه في عالمِ الخلقة، وكذلكَ عن طريقِ إرسالِ الأنبياءِ والكتبِ السماويّة.

3 - طالعنا في آخرِ آيةٍ مِن هذهِ الآياتِ أنَّ أكثرَ المُشركينَ وعبدةَ الأصنامِ يتّبعونَ ظنونَهم وأوهامَهم، وهُنا يأتي سؤال، وهو: لماذا لم يقُل اللهُ سبحانَه: وما يتّبعُ كلّهم بدلَ أكثرُهم، لأنّا نعلمُ أنَّ جميعَ المُشركينَ شركاءُ في هذا الظنِّ الباطل، إذ يعتقدونَ أنَّ الأصنامَ آلهةٌ بحق، وتملكُ النفعَ والضررَ وتشفعُ عندَ الله، ولهذا فإنَّ البعضَ اضطرَّ إلى تفسيرِ كلمةِ أكثرُهم بأنّها تعني جميعَهم، وذهبَ إلى أنَّ هذهِ الكلمةَ جاءَت أحياناً بهذا المعنى. إلّا أنَّ هذا الجوابَ غيرُ وجيه، والأفضلُ أن نقول: إنَّ المُشركينَ صِنفان: صنفٌ يُشكّلُ الأكثريّة، وهُم الأفرادُ الخرافيّونَ الجُهلاء الذينَ وقعوا تحتَ تأثيرِ الأفكارِ الخاطئة، واختاروا الأصنامَ لعبادتِها. وصنفٌ ثانٍ: وهُم الأقليّة، المُتمثّلةُ بالزعماءِ وأئمّةِ الكُفرِ الواعونَ لحقيقةِ الأمر، والمُطّلعونَ على عدمِ صحّةِ عبادةِ الأصنامِ وأنّها لا أساسَ لها، وهم يدعونَ الناسَ لعبادتِها حفظاً لمصالحِهم، ولهذا السببِ فإنَّ اللهَ يجيبُ الصنفَ الأوّلَ فقط، لأنّهم مؤهّلونَ للهداية، أمّا الصنفُ الثاني فلم يعبأ بهم مُطلقاً لأنّهم سلكوا هذا الطريقَ عَن علمٍ ووعي.  

4 - يذهبُ جماعةٌ مِن علماءِ الأصولِ إلى أنّ هذهِ الآيةَ وأمثالَها تدلُّ على أنَّ الظنَّ لا يمكنُ أن يكونَ حُجّةً وسنداً بأي وجهٍ منَ الوجوه، وأنَّ الأدلّةَ القطعيّةَ هيَ الوحيدةُ التي يمكنُ الاعتمادُ عليها. إلّا أنَّ جماعةً أخرى يذهبونَ إلى القول: أنّنا نلاحظُ بينَ الأدلّةِ الفقهيّةِ أدلّةً ظنيّةً كثيرة، كحُجيّةِ ظواهرِ الألفاظ، وشهادةِ الشاهدينِ العدلين، أو خبرِ الواحدِ الثقةِ وأمثالِ ذلك، ولذلكَ فإنَّ الآيةَ المذكورةَ دليلٌ على أنَّ القاعدةَ الأصليّةَ في مسألةِ الظنّ هيَ عدمُ حُجّيّتِه، إلا أن تثبُتَ حُجيّتُه بالدليلِ القطعي كالأمثلةِ أعلاه.  

والحقُّ: هو أنَّ الآيةَ أعلاه تتحدّثُ عن الظنونِ والأوهامِ التي لا أساسَ لها، كظنونِ وأوهامِ عبدةِ الأصنامِ فقط، ولا علاقةَ لها بالظنِّ الذي يمكنُ الاعتمادُ عليه والموجودُ بين العقلاء، وبناءً على هذا فإنَّ هذهِ الآيةَ وأمثالَها لا يمكنُ الاستنادُ إليها بأيّ وجهٍ في مسألةِ عدمِ حُجّيّةِ الظن. فتدبّر جيّداً. [ينظر: الأمثلُ في تفسيرِ كتابِ اللهِ المُنزل، للشيخِ ناصِر مكارم الشيرازيّ (ج6/ص ٣٥٢ وما بعدَها)]. ودمتُم سالمين.