ما هيَ أقسامُ التوحيدِ عندَ الفلاسفة؟  

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

علمُ الكلامِ الإسلاميّ هوَ الفرعُ العلميُّ الذي اهتمَّ بإيجادِ تقسيماتٍ للتوحيدِ مثلَ توحيدِ الذاتِ وتوحيدِ الصفاتِ وتوحيدِ العبادةِ وغيرِ ذلكَ منَ الأقسام، أمّا الفلسفةُ فقد كانَ اهتمامُها مُنصبّاً على الوجودِ بما هوَ وجود، وبذلكَ كانَ التعرّضُ لواجبِ الوجودِ مِن صميمِ بحثِهم الفلسفي، وقد زوّدَت الفلسفةُ علمَ الكلامِ بالكثيرِ منَ الأدلّةِ والبراهينِ فيما يتعلّقُ بإثباتِ واجبِ الوجود.   

وعليهِ يمكنُ القولُ أنَّ هناكَ تدرّجاً في التفكيرِ الفلسفيّ للوصولِ إلى إثباتِ واجبِ الوجود، ولعلَّ السائلَ يقصدُ بسؤالِه هذهِ الأقسامَ أو هذهِ المستويات.   

حيثُ يبدأ التفكيرُ الفلسفيُّ بإثباتِ الواقعيّةِ للأشياءِ، بمعنى أنَّ الموجوداتِ لها حقيقةٌ وواقعٌ خارجَ الذهنِ الإنسانيّ سواءٌ تعرّفَ عليها أم لم يتعرّف، وبذلك خالفوا السفسطائيّينَ الذينَ أنكروا حقيقةَ الأشياء.   

وبعدَ مرحلةِ إثباتِ الواقعيّةِ للأشياءِ يأتي السؤالُ عَن نسبةِ الوجودِ لها، أي هل الوجودُ بالنسبةِ لهذه الأشياءِ ممكنٌ أم واجبٌ أم مُمتنعٌ؟ ويُسمّى ذلك ببرهانِ الإمكانِ الماهوي، فعندَما ننسبُ شيئاً لشيء، تنحصرُ تلكَ النسبةُ في ثلاثةِ خيارات، فإمّا أن يكونَ ذلكَ الشيءُ بالنسبةِ لها أصيلٌ، أو عارضٌ عليها، أو ممتنعٌ نسبتُه لها، فمثلاً نسألُ عن نسبةِ البياضِ للجدار؟ فهذه النسبةُ تُتصوّرُ في ثلاثةِ احتمالات، فإمّا أن يكونَ البياضُ ضروريّاً للجدار بحيثُ لا ينفكُّ عنه، وإما أن يكونَ مُمتنِعاً بالنسبةِ له، وإمّا أن يكونَ مُمكناً بمعنى لا هوَ ضروريٌّ للجدارِ ولا هوَ مُمتنع، والأمرُ نفسُه ينطبقُ على نسبةِ الوجودِ للأشياء، فالوجودُ بالنسبةِ لها إمّا واجبٌ، وإمّا ممتنعٌ، وإمّا ممكنٌ، فإن كانَ وجودُها واجباً فهيَ غيرُ مُحتاجةٍ إلى علّةٍ لإيجادِها؛ لكونِها عينَ الوجودِ وأصله وبتعبيرِ الفلاسفةِ واجبةَ الوجودِ، وإذا كانَ وجودُها مُمكناً فوجودُها مُعلّقٌ على العلّةِ المانحةِ لهذا الوجود، وإذا كانَت مُمتنعةً فيستحيلُ عليها الوجود.   

وبذلكَ يثبتُ أنَّ الموجوداتِ إمّا واجبةُ الوجودِ وإمّا مُحتاجةٌ للواجبِ، وإذا تمَّ ثبوتُ الواجبِ تمَّ إثباتُ التوحيدِ بالطريقِ الفلسفي، ومَن اعترفَ بالموجودِ المُمكنِ دونَ الواجبِ فعليهِ تقديمُ تفسيرٍ لوجودِ المُمكن، وهذا لا يمكنُ إلّا بالانتهاءِ للواجب.   

ثمَّ تأتي مرتبةٌ أخرى مِن مراتبِ التوحيدِ الفلسفي وذلكَ بالنظرِ إلى واجبِ الوجود، فإنَّ ذلكَ الواجبَ لابدَّ أن يكونَ بسيطاً لا تركيبَ فيه، فكلُّ ما هوَ مُركّبٌ مُحتاجٌ إلى أجزائِه، والواجبُ لا يمكنُ أن يكونَ مُحتاجاً فهوَ غنيٌّ بنفسِه عن غيرِه، ومِن هُنا قالوا بأنَّ الواجبَ لابدَّ أن يكونَ بسيطاً، فنتجَ عن ذلكَ مقولةُ أنَّ (بسيطَ الوجودِ كلُّ الأشياءِ وليسَ بشيءٍ منها)، وبذلكَ يصبحُ عندَنا معنىً آخر للتوحيدِ الفلسفيّ المُسمّى بوحدةِ الوجودِ، أي ليسَ هناكَ موجودٌ على الحقيقةِ إلّا الواجبُ وما دونَه هوَ تجلٍّ لذلكَ الواجب.  

ويتواصلُ البحثُ الفلسفيُّ في الوجودِ، حتّى الوصولِ إلى نظريّةِ أصالةِ الوجودِ واعتباريّةِ الماهيّة، أي أنَّ الوجودَ هوَ الأصلُ في الأشياء، أمّا حدودُ الأشياءِ وماهيّاتُها فهيَ ليسَت إلّا أموراً اعتباريّةً ليسَ لها وجودٌ حقيقيّ، فالماهيّاتُ بما هيَ هيَ لا وجودَ ولا عدم، وبذلكَ يُصبحُ الوجودُ هوَ منشأ الآثارِ وهوَ الحقيقةُ الواقعيّةُ التي تملأ الخارجَ أوّلاً وبالذاتِ، ومِن ثمَّ منها يتمُّ استخلاصُ الماهيّاتِ المُختلفة، فعندَهم الوجودُ مقولةٌ مُشكّكة، أي أنَّ لهُ مراتبَ يتدرّجُ فيها مِن أعلاها مرتبةً وهيَ مرتبةُ الواجبِ إلى أدنى مرتبةٍ وهيَ مرتبةُ المُمكن، وقد اِعتُبرَ هذا المبحثُ مِن ابداعاتِ صدرِ الدينِ الشيرازي صاحبِ مدرسةِ الحِكمةِ المُتعالية، وقد أصبحَ عُمدةَ البحوثِ التوحيديّةِ في إثباتِ واجبِ الوجودِ عبرَ بُرهانِ الصدّيقينَ، كما أصبحَ أيضاً الأساسَ في إثباتِ توحيدِ الصفاتِ وتوحيدِ الأفعالِ فلسفيّاً.  

 وقد اختارَ ملّا صدرا مِن معاني وحدةِ الوجود، الوحدةُ التي تجعلُ الوجودَ والموجودَ جميعاً في عينِ كثرتِهما، ويقولُ في أسفارِه: (وسنقيمُ البرهان القطعيَّ على أنَّ الوجوداتِ وإن تكثّرَت وتمايزَت إلّا أنّها مِن مراتبِ تعيُّناتِ الحقِّ الأوّلِ وظهوراتِ نورِه وشؤوناتِ ذاتِه لا أنّها أمورٌ مُستقلّةٌ وذواتٌ مُنفصلة) ومنَ المؤكّدِ أنَّ هناكَ بحوثاً مُفصّلةً ومُعقّدةً في هذا الشأنِ كما أنَّ هناكَ اختلافاتٍ وتبايناتٍ بينَ أهلِ النظرِ والفلسفةِ، والطريقُ الأسلمُ لمعرفةِ الصحيح منها ماكان مطابقاً  للقرآنِ ورواياتِ المعصومينَ (عليهم السّلام).