(إنّا كفيناكَ المُستهزئين)، فهَل معناهُ أنَّ اللهَ تعالى لا يسمحُ بوقوعِ الاستهزاءِ بالنبيّ (ص)

(إنّا كفيناكَ المُستهزئين)، فهَل معناهُ أنَّ اللهَ تعالى لا يسمحُ بوقوعِ الاستهزاءِ بالنبيّ (ص)، فكيفَ نصنعُ بما حصلَ معَه (ص) في حياتِه مِن مُشركي مكّة، وكيفَ نصنعُ بما يفعلهُ مُشركو اليوم مِن رسومٍ كاريكاتوريّةٍ بحقّه صلواتُ ربّي عليه؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  كفايةُ اللهِ لنبيّهِ منَ الاستهزاءِ يُتصوّرُ في بُعدين، الأوّلُ: إهلاكُ المُستهزئين، والثاني: إبطالُ تأثيرِه سواءٌ على شخصِ النبيّ أو على مشروعِه الرّسالي. وهلاكُ المُستهزئينَ يُتصوّرُ أيضاً على نحوين، الأوّلُ: أن يكونَ الهلاكُ مُباشرةً بعدَ صدورِ الاستهزاءِ، والثاني: أن تكونَ العاقبةُ هيَ الهلاكُ والخسران. أمّا الهلاكُ المُباشرُ فهوَ مُستبعدٌ لكونِه مُخالفاً لسنّةِ اللهِ معَ المُستهزئين والمُكذّبين، حيثُ جرَت سُنّتُه على أن تكونَ عاقبتُهم هيَ الخُسران والبوار، قالَ تعالى: (قُل سِيرُوا فِي الأَرضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ)، وعليهِ فإنَّ الهلاكَ بمعنى العاقبةِ السيّئةِ والخسرانِ أمرٌ مُؤكّدٌ لكلِّ مَن كذّبَ واستهزءَ بالأنبياءِ، قالَ تعالى: (وَهُم يَنهَونَ عَنهُ وَيَنأَونَ عَنهُ ۖ وَإِن يُهلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ) أي يهلكونَ أنفسَهم ويحكمونَ عليها بالخسرانِ لمُجرّدِ مُخالفتِهم للأنبياءِ، والهلاكُ بهذا المعنى قد حصلَ بالفعلِ معَ مَن استهزأ بالأنبياءِ السابقين، قالَ تعالى: (وَلَقَدِ استُهزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبلِكَ فَأَملَيتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذتُهُم ۖ فَكَيفَ كَانَ عِقَابِ) أي هناكَ هلاكٌ مؤكّدٌ ولكِن بعدَ الإملاءِ والإرجاءِ، فاللهُ يُمهلُ ولا يُهمِل، وفي آيةٍ أخرى تجعلُ الاستهزاءَ بالرسلِ لهُ مردودٌ عكسيٌّ على المُستهزئين، قالَ تعالى: (وَلَقَدِ استُهزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ)، أي أنَّ استهزاءَهم عادَ عليهم بالهلاكِ والخُسران.  وإن كانَ هذا المعنى صحيحاً إلّا أنَّ كفايةَ اللهِ للنبيّ منَ المُستهزئينَ تُفهمُ على نحوٍ آخر، وهذا ما نشيرُ إليه في الخيارِ الثاني. الخيارُ الثاني: كفايةُ الاستهزاءِ بمعنى إبطالِ تأثيرِه سواءٌ على شخصِ النّبي أو على مشروعِه الرسالي، وهوَ الخيارُ الذي يتناسبُ معَ سياقِ الآيةِ كما يتناسبُ معَ الفلسفةِ العامّةِ للقرآنِ الكريم.فإذا نظرنا إلى الغايةِ والهدفِ مِن استهزاءِ المُستهزئينَ سوفَ نجدُها تتمثّلُ في منعِه مِن إكمالِ مُهمّتِه إمّا بإحباطِه نفسيّاً أو مِن خلالِ منعِ دعوتِه منَ الانتشارِ، وعليهِ إذا أرادَ اللهُ كفايتَه فإنّهُ يكفيهِ في كِلا البُعدين، ويتّضحُ ذلكَ إذا رجعنا لسياقِ الآياتِ التي جاءَت فيها هذهِ الآيةُ وهيَ قولهُ تعالى: (فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوفَ يَعلَمُونَ (96) وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) فقد جاءَت كفايةُ اللهِ لهُ منَ المُستهزئينَ في نفسِ السياقِ الذي أمرَهُ فيه بأن يصدعَ بدعوتِه، كما أمرَه بأن يُعرضَ ولا يلتفتَ إلى المناوئينَ له منَ المُشركينَ، وبذلكَ تكونُ الآيةُ قد استهدفَت خُطّةَ المُستهزئينَ في مقتل، ففي الوقتِ الذي يسعونَ فيهِ إلى تحجيمِ دعوتِه جاءَ الخِطابُ يأمرُه بأن يُظهرَ دعوتَه ويجهرَ بها دونَ خوفٍ أو وجل، فانتصارُ الدعوةِ وظهورُ الحقِّ يُعدُّ نتيجةً طبيعيّةً لكفايةِ اللهِ له مِن غاياتِ المُستهزئين، وأبرزُ مصداقٍ لذلكَ هوَ قولهُ تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ) فالمُستهزئونَ يريدونَ بالفعلِ أن يُطفئوا نورَ اللهِ، إلّا أنَّ اللهَ وعدَ بأن يُتمَّ نورَه خلافَ ما يريدون، وهذا مِصداقٌ عمليٌّ لقولِه تعالى: (إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ). أمّا هدفُهم الآخرُ وهوَ استهدافُ نفسيّةِ النبيّ والتأثيرِ عليها سلبيّاً، فقد أشارَت لها الآياتُ التي جاءَت بعدَها حيثُ قالَ تعالى: (وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)، فمنَ الطبيعيّ أن يكونَ الاستهزاءُ مؤذياً للنبيّ، فالرسولُ يغضبُ للهِ وللحق، إلّا أنَّ ذلكَ لا يكونُ عاملَ إحباطٍ أو تراجع، وإنّما يُكسِبُه مزيداً منَ العزيمةِ والإصرار، ولذا جاءَت الآيةُ التي بعدَها بتوصيةِ الرسولِ بالمُواصلةِ في حمدِ اللهِ وتسبيحِه والسّجودِ له وتعظيمِه، قالَ تعالى: (فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)وبذلكَ يتّضحُ أنَّ كفايةَ الاستهزاءِ لا تعني منعَ وقوعِ الاستهزاءِ منَ الأساس، لكونِه واقعاً بالفعل منَ المُنافقينَ والكافرينَ والمُشركين، كما لا تعني أنَّ اللهَ سيهلكُهم بمُجرّدِ صدورِ الاستهزاءِ، معَ أنَّ هلاكَهم مُحقّقٌ في عاقبتِهم السيّئة، وإنّما معناها إبطالُ كلِّ أهدافِهم وغاياتِهم ومقاصدِهم، والمصداقُ العمليُّ لذلكَ هوَ قولهُ تعالى: (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وعليهِ فإنَّ إساءاتِهم وافتراءاتِهم باطلةُ المفعولِ لا تؤثّرُ على النبيّ ولا على دعوتِه ورسالتِه، فكلمةُ اللهِ هيَ العُليا وكلمةُ الذينَ كفروا هيَ السُّفلى، وفوقَ ذلكَ فإنَّ مصيرَ المُستهزئينَ اللعنُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة، وقالَ تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُهِينًا)