كيفَ يمكنُ التوفيقُ بينَ الرّضا بقضاءِ اللهِ تعالى والسعي الذي على الإنسانِ القيامُ به؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يتصوّرُ البعضُ وجودَ تعارضٍ بينَ الاعتقادِ بالقضاءِ والقدرِ وبينَ أن يكونَ الإنسانُ حرّاً فيما يختار، وما يؤسفُ له أنَّ الكثيرَ منَ المذاهبِ الإسلاميّة قد تورّطَت في تأصيلِ هذا المفهومِ الخاطئ، فقد دلّت كلُّ مرويّاتِ أهلِ السنّةِ والجماعةِ في بابِ القضاءِ والقدرِ على أنَّ الإنسانَ يمضي في الحياةِ على ما قُدّرَ له، ولا تكادُ تجدُ حتّى روايةً واحدةً على خلافِ ذلك، فمثلاً هناكَ روايةٌ في صحيحِ مُسلمٍ تتضمّنُ نفسَ السؤالِ الذي سألَه السائلُ، حيثُ جاءَ فيها: (أرأيتَ ما يعملُ النّاسُ اليومَ ويكدحونَ فيه؟ أشيءٌ قُضيَ عليهِم ومضى عليهِم مِن قدَرٍ قد سبقَ، أو فيما يستقبلونَ بهِ، مِمّا أتاهُم به نبيُّهم وثبتَت الحُجّةُ عليهم؟، فقلتُ: بَل شيءٌ قُضيَ عليهم ومضى، قالَ: أفلا يكونُ ظُلماً، قالَ: ففزعتُ مِن ذلكَ فزعاً شديداً وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلقُ اللهِ ومُلكُ يدِه، فلا يُسألُ عمّا يفعلُ وهُم يُسألونَ...) وفي روايةِ التّرمذيّ عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمر، قالَ: قالَ عُمر: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ ما نعملُ فيهِ أمرٌ مُبتدَعٌ أو مُبتدأٌ أو فيما قد فُرغَ منهُ؟ فقالَ: بَل فيما قَد فُرغَ منهُ يا بنَ الخطّابِ، وكلٌّ مُيسَّرٌ، أمَّا مَن كانَ مِن أهلِ السّعادةِ، فإنّهُ يعملُ للسّعادةِ، أمّا مَن كانَ مِن أهلِ الشّقاءِ فإنّهُ يعملُ للشّقاءِ)، وفي كتابِ القدرِ لابنِ وهبٍ، أخبرَني عُمرُ بنُ محمّدٍ أنَّ سُليمانَ بنِ مهرانَ حدّثَهُ قالَ: قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: إنَّ أوّلَ شيءٍ خلقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن خلقِه القلمُ، فقالَ لهُ: اكتُب، فكتبَ كلَّ شيءٍ يكونُ في الدّنيا إلى يومِ القيامةِ، فيُجمعُ بينَ الكتابِ الأوّلِ وبينَ أعمالِ العبادِ فلا يُخالِفُ ألفٌ ولا واوٌ ولا ميمٌ منهما)، وهكذا عملَت هذهِ المرويّاتُ على تشويهِ عقيدةِ القضاءِ والقدر، وهوَ الأمرُ الذي عارضَه الأئمّةُ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، ففي الروايةِ أنَّ رجُلاً سألَ جعفرَ بنَ محمّدٍ الصّادقِ عليهِ السّلام عنِ القضاءِ والقدرِ فقالَ: (ما استطعتَ أن تلومَ العبدَ عليهِ فهوَ منهُ، وما لم تستطِع أن تلومَ العبدَ عليهِ فهوَ مِن فعلِ اللهِ، يقولُ اللهُ تعالى للعبدِ: لمَ عصيتَ؟ لمَ فسقتَ؟ لمَ شربتَ الخمرَ؟ لمَ زنيتَ؟ فهذا فعلُ العبدِ، ولا يقولُ لهُ: لمَ مرضتَ؟ لمَ قَصُرتَ؟ لمَ ابيضضتَ؟ لمَ اسوددتَ؟ لأنّهُ مِن فعلِ اللهِ تعالى) فقد ميّزَت الروايةُ بوضوحٍ الفرقَ بينَ فعلِ العبدِ وفعلِ الربِّ سبحانَه وتعالى، فكلُّ ما يقعُ ضمنَ إرادةِ الإنسانِ فهوَ فعلهُ وهوَ المسؤولُ عنه، فالإنسانُ لا يمضي في الحياة ِعلى خطِّ سيرٍ واحدٍ كما هو حالُ القطار، وإنّما أمامُه طرقٌ مُتعدّدةٌ هوَ الذي يختارُ مِن بينِها ما يشاء، بل حتّى الأمورُ التي تصيبُ الإنسانَ وهيَ خارجةٌ عن إرادتِه مثلَ المرضِ والموتِ وغيرِ ذلكَ فإنّها قابلةٌ أيضاً للتغييرِ والتبديل، فما قدّرَ على الإنسانِ مِن أقدارٍ ليسَ قدراً على اللهِ لا يمكنُه تغييرُه، فاللهُ يغيّرُ ويبدّلُ، ويعلّقُ ذلكَ بفعلِ العبدِ، فاللهُ لا يغيّرُ واقعَ قومٍ مِن حالٍ إلى حال أحسن، إلّا إذا هُم غيَّروا ما بأنفسِهم، فمثلاً سيّدُنا أيّوب (عليهِ السلام) لم يكُن اللهُ ليكشفَ عنهُ السوءَ والمرضَ لو لم يدعُ الله، والدعاءُ هوَ فعلُ العبد وهوَ سببٌ في كشفِ السوء، وكذلكَ زكريّا ما رُزق الولدَ إلّا بدعائِه وطلبِه وإلحاحِه على الله، وقد فسّرَ الإمامُ الصادقُ (عليهِ السلام) قولَه تعالى ﴿يَمحُو اللهُ مَا يَشَآءُ وَيُثبِتُ﴾ بقولِه: (وهل يمحو اللهُ إلاّ ما كان؟ وهل يثبتُ إلاّ ما لم يكُن؟).  وقد جاءَ في الرواياتِ أنَّ صلةَ الرحمِ مثلاً تزيدُ في العُمر، (صلةُ الأرحامِ تُزكّي الأعمالَ وتنمّي الأموالَ وترفعُ البلوى وتيسّرُ الحسابَ وتُنسي في الآجال) بمعنى أنَّ اللهَ يُقدّرُ للإنسانِ منَ العُمرِ أربعينَ عاماً مثلاً، ولكنّه يصلُ رحمَهُ فيكتبُ اللهُ له مرّةً أخرى مدّةً جديدةً أطول..، حسبَ حِكمتِه البالغة، وقد جاءَ الحديثُ: (ما بعثَ اللهُ - عزّ وجلّ- نبيّاً حتّى أخذَ عليهِ ثلاثَ خصالٍ: الإقرارُ بالعبوديّةِ، وخلعُ الأندادِ، وأنَّ اللهَ يقدّمُ ما يشاءُ ويؤخّرُ ما يشاء). وهذا هوَ أساسُ عقيدةِ البداءِ التي يعتقدُ بها أتباعُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) أي أنَّ اللهَ فاعلٌ مُختارٌ، يقدّمُ ما يشاءُ ويؤخِّر، وليسَ معناهُ تغيُّر علمِ اللهِ سبحانَه، أو نسبة الجهلِ إليه، تعالى عَن ذلكَ علوّاً كبيراً، يقولُ الإمامُ الصادقِ عليهِ السلام: (إنَّ اللهَ لم يَبدُ له مِن جهلٍ).فقصّةُ النبي يونس (عليهِ السلام) معَ قومِه تأكيدٌ لحقيقةِ البَداء، وهيَ قدرةُ اللهِ على الفعلِ والإرادةِ متى يشاءُ وكيفَ يشاء، إذ أمرَه اللهُ تعالى بمُغادرِة المدينةِ لأنَّ العذابَ سينزلُ على قومِه، فامتثلَ لهذا الأمرِ وخرجَ، ولمّا عادَ بعدَ مدّة، وجدَهم على ما تركَهم عليه، لم يُصبهم شيءٌ، فسألَ ربَّه مُتعجّباً عن سرِّ ذلك، فأنبأهُ اللهُ بأنَّ قومَه قد آمنوا قبيلَ وقوعِ العذاب، فانتفَت حكمةُ العقابِ، قالَ سبحانَه: ﴿ فَلَولا كانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَومَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفنا عَنهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعناهُم إِلى حِينٍ﴾، فإيمانُ قومِ يونس نفعَهم وصرفَ عنهم العذابَ الحتميَّ ودفعَ عنهم القدر، حتّى سيّدنا يونس (عليهِ السلام)، لولا تسبيحُه واستغفاره، للبثَ في بطنِ الحوتِ إلى يومِ يبعثون.  فلو قدّرَ اللهُ على إنسانٍ أن يكونَ شقيّاً، بسببِ شقاءِ والديه، أو بسببِ جريمةٍ ارتكبَها، أو بسببِ الظروفِ المُحيطةِ به، فرغمَ ذلكَ القدر، يبقى أمامَه الأملُ مُشرِقاً، إذ يمكنُ أن يغيّرَ اللهُ ذلكَ الشقاء، ويستبدلَ تلكَ الحياةِ بحياةٍ سعيدة، بقدرتِه اللامُتناهيةِ، ولكِن بشرطِ أن يُقبلَ إليهِ مُتضرّعاً تائباً، مُقدِّماً بينَ يديه العملُ الصالح. مثلُ هذا النوعِ منَ التفكير، يرتكزُ على حقيقةٍ وجدانيّةٍ وحالةٍ فطريّة، تعايشَ الناسُ معَها وتفاعلوا بها في شتّى ضروبِ الحياة، فلو لم يكُن هناكَ بَداء، وكانَ اللهُ عاجزاً عن محوِ ما كانَ ثابتاً، وتثبيتِ ما لم يكُن، فكيفَ إذن والحالُ هذا أن يُكلِّفَ اللهُ العبادَ؟، فمِن خطلِ الرأي القولُ، أنَّ اللهَ أوجبَ على الناسِ أن يعبدوهُ وأن يعملوا صالحاً، في حينِ أنّه قد قدّرَ لهُم مقاديرَهم ومصائرَهم بشكلٍ حتميٍّ ونهائي، وهذا عينُ التناقضِ، فلو كانَ قد قدّرَ لنا أن نكونَ سُعداءَ أو أشقياء ونحنُ في بطونِ أمّهاتِنا - ولا محيصَ عَن تغييرِ ذلك-، فما معنى أن يأمرَنا- جميعاً- بالسعي نحوَ السعادةِ والخيرِ، وينهانا عن الوقوعِ في مهاوي الشقاء ؟!.  إنّه لا يستقيمُ للعبادةِ والدعاءِ معنىً إلّا بالبَداء، فكيفَ يعبدُ الإنسانُ أو يرجو اللهَ بالدّعاء، وكلُّ شيءٍ قد رُسمَ سلفاً، وانتهى تقديرُه، وما معنى أن يأمرَنا بأن ندعوه، وأنّه قريبٌ مجيب؟ فإذا نفينا الاعتقادَ بمبدأ البَداءِ وتملّصنا عنه، يكونُ لِزاماً علينا أن نتركَ العبادة، والعملَ الصالحَ، وأن نقفَ مكتوفي الأيدي، بانتظارِ مصيرِنا المحتومِ وقدرِنا المكتوب، وكأنّما هذه الحياة مسرحيّةٌ قد اكتملَت فصولُها ويتمُّ عرضُها، أو لوحةٌ تمَّ رسمُها وجفَّت ألوانُها.  ومِن هُنا كانَ تأكيدُ أهلِ البيتِ عليهم السّلام على عقيدةِ البَداء؛ إذ لا تستقيمُ للبشرِ عقيدةٌ ولا حياةٌ مِن دونِها، فلا يستغربُ الإنسانُ عندَما يقفُ أمامَ حديثِ الإمامِ الصّادقِ (ع) وهوَ يقولُ: (ما عُبدَ اللهُ بمثلِ البَداء)، فمَن يعبدُ إلهاً ميتاً، وعاجزاً، ومحدوداً، ومغلولَ اليدين، فإنّه لم يعرِفه ولم يعبُده حتماً، أمّا مَن اعتقدَ بأنَّ اللهَ فعّالٌ لِما يشاء، لهُ الأمرُ مِن قبلُ ومِن بعد، - مِن قبلِ أن يقدِّرَ ومِن بعدِ ما قدَّر-، فإنّه يمارسُ دورَه في إطارِ هذهِ الصّفة، بالدعاءِ والحيويّة والنشاطِ والإقبالِ إلى الله، فهوَ قد عبدَ اللهَ أحسنَ العبادة. ومِن هُنا يصبحُ البَداءُ أساسَ دعوةِ الأنبياء، لأنّهُ مفتاحُ معرفتِه تعالى، والسبيلُ إلى الاعترافِ بتوحيدِه، وجوهرِ عبادتِه، يقولُ الإمامُ الصّادقِ (ع): (ما بعثَ اللهُ نبيّاً قط، حتّى يأخذَ عليه ثلاثاً: الإقرارَ للهِ بالعبوديّةِ وخلعَ الأندادِ وأنَّ اللهَ يمحو ما يشاءُ ويثبتُ ما يشاء). وفي روايةٍ أخرى يقولُ (عليهِ السلام): (لو علمَ الناسُ ما في القولِ بالبَداءِ منَ الأجرِ ما فتروا عن الكلامِ فيه) ، ويقولُ: (ادعُ ولا تقُل إنَّ الأمرَ قد فُرغَ منه، إنَّ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ منزلةً لا تُنال إلاّ بمسألة) .  وعن الإمامِ الكاظمِ (عليهِ السلام) أنّه قال: (عليكُم بالدعاءِ، فإنَّ الدعاءَ للهِ، والطلبَ إلى اللهِ يردُّ القضاءَ وقد قُدِّرَ وقُضيَ ولم يبقَ إلاّ إمضاؤه، فإذا دُعيَ اللهُ عزّ وجلّ وسُئلَ، صرفَ البلاء صِرفةً). فالقولُ بالبَداءِ يفتحُ للإنسانِ آفاقَ الدّنيا والآخرة، فهوَ سبيلٌ إلى نيلِ فضلِ اللهِ وكرمِه، والاستزادةِ مِن نعمِه وآلائِه، وإنَّ مشكلةَ الإنسانِ وعُقدتَه الكُبرى في الحياةِ، تكمنُ في أنّه قليلاً ما يؤمنُ بأنَّ اللهَ يفعلُ ما يشاءُ، وأنه قادرٌ على تغييرِ حالِه إلى أحسنِ حال، فلا سبيلَ للإحباطِ ولا الاستسلامِ للظروف، فالذي يمكنُ أن يعيقَ حركةَ الإنسانِ وتكاملَه هوَ القنوطُ الذي يحجبُه عن قُدرةِ الله، وهوَ العاملُ المُسبّبُ في جمودِ حركةِ البشريّةِ نحوَ اللهِ تعالى، ولكي تعيدَ البشريّةُ حيويتَها مِن جديد، وتنطلقَ في رحابِ كرمِ الله، لا بدَّ أن ترجعَ إلى أهلِ البيتِ (ع) لكي تتعلّمَ منهم البَداء.ويمكنُنا تلخيصُ ما يمكنُ أن تحقّقَه عقيدةُ البَداء، في واقعِ الإنسانِ المؤمنِ بالبَداء، وما يمكنُ أن يكونَ عليهِ الإنسانُ المُنكرِ للبَداء، ليتّضحَ للقارئِ أنَّ المُسلمينَ عندَما تركوا أهلَ البيت، ابتعدوا بخطواتٍ مُسرعةٍ في الاتّجاهِ المُعاكسِ تماماً لِما أرادَه الله.أوّلاً: إنكارُ البَداءِ يؤدّي إلى الجمودِ المُطبقِ والكاملِ في فهمِ الحياة، فالذي لا يعتقدُ بالبَداءِ يصوِّرُ الحياةَ بمنظارٍ جامدٍ غيرِ مُتحرّكٍ، فطالما الأقدارُ ثابتةٌ وجازمة، وكلُّ شيءٍ يتحرّكُ وِفقاً لِما رُسمَ له سلفاً، وليسَ للهِ بعدَ أن قدَّرَ أن يُغيِّرَ أو يبدِّل، فقلمُ التقديرِ الإلهيّ قد جفَّ نهائيّاً، فلا يرى الإنسانُ الحياةَ حينئذٍ إلّا لوحةً جامدةً، وإن كانَت في ظاهرِها مُتحرّكة.    وهذا النوعُ منَ الاعتقادِ مُخالفٌ لوجدانِ الإنسان، فالذي يعتقدُ أنَّ تطوّرَ الحياةِ قد توقّفَ، وانتهى تقديرُها، فعليهِ حينئذٍ الاستسلامُ والخضوعُ للحوادثِ الطارئةِ والظروفِ القاهرةِ، شاءَ ذلكَ أم أبى، لأنّه ليسَ له حولٌ في تغييرِ ما يجري حولَه، وليسَ لفعلِه تأثيرٌ فيه بأيّ شكلٍ منَ الأشكال.  ولا شكَّ أنَّ هذا الفكرَ إذا خيّمَ على عقولِ البعضِ، تتحوّلُ حياتُهم إلى جحيمٍ، فلا يعدونَ أن يكونوا مجرّدَ موجوداتٍ جامدةٍ وجثثٍ مُتحرّكة، تعصفُ بهم الظروفُ والأقدارُ يُمنةً ويُسرة، فكيفَ يسعى الفقيرُ إلى الغنى، والمريضُ إلى الشفاء، والجاهلُ إلى التعلّم، إذا كانَ قد شملَهم ذلكَ بقدرٍ محتوم، لا هُم قادرونَ على تغييرِه ولا اللهُ بقادرٍ على تبديله.   ولا شكَّ أيضاً أنَّ الطواغيتَ وجبابرةَ البشر، هُم الذينَ أكّدوا على مثلِ هذهِ المقولةِ الباطلةِ، لأنَّ بها دوامَ مُلكِهم وفرضَ سلطانِهم، فلا يحقُّ لمؤمنٍ أن يعترضَ سبيلَهم، خشيةَ الاعتراضِ على أمرِ اللهِ وإرادتِه، طالما أنَّ اللهَ قد قدّرَ ملكَهم ورسمَه منَ الأزل.  ثانياً: حقيقةُ الإنسانِ تكمنُ في كونِه كائِناً مسؤولاً، اختارَه اللهُ لحملِ رسالتِه، وميّزَه بها عن بقيّةِ خلقِه، قالَ تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ﴾، فكيفَ يمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مسؤولاً وهوَ عاجزٌ عن التغييرِ والتبديل؟ وكيفَ يأملُ في الله، وهوَ يعتقدُ أنَّ اللهَ نفسَه ليسَ بقادرٍ على تجاوزِ ما وضعَه مِن قوانين؟ ألا يكونُ ذلكَ تهميشاً واضِحاً لفكرةِ مسؤوليّةِ الإنسان؟ والتملّصِ منَ المسؤوليّةِ أو عدمِ فهمِها ضمنَ عقيدةِ البَداء، يعني تأسيسَ خيارٍ يبتعدُ عن فلسفةِ خلقِ الإنسان، وحِكمةِ إرسالِ الأنبياء.    إنَّ المُناهضينَ لعقيدةِ البَداء يؤكّدونَ - بكلِّ جهلٍ - أنَّ اللهَ قد أكملَ الأمورَ على مستوى الدّنيا، فالفقيرُ فقيرٌ، والحاكمُ حاكم، والمحكومُ محكومٌ لا محال..، أمّا في الآخرةِ فإن أصحابَ الجنّةِ معيّنونَ ومُنتخبونَ، وأصحابَ النارِ مُعيّنونَ ومُنتخبونَ كذلك. ثالثاً: إنَّ الذي ينطلقُ في الحياةِ بوحي البَداء، يكونُ مُتحرّراً مِن كلِّ قيد، متجاوِزاً لكلِّ حتميّة، وكلّما ازدادِ الإنسانِ وعياً بهذهِ العقيدة، كلّما ازدادَ عزماً، ونشاطاً واستقامةً، وكلّما ازدادَ تحديّاً لكلِّ ما يمكنُ أن يكونَ عقبةً في طريقِه. فحياةُ الإنسانِ مليئةٌ بالعقباتِ، التي تحيطُ بواقعِه الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، لا يتجاوزُها الإنسانُ إلّا إذا كانَ مُشبَعاً بالأملِ في الله، مُعتقِداً في قُدرتِه على كلِّ شيء، والإسلامُ هوَ الدينُ الوحيدُ الذي يلهمُ الإنسانَ آليّاتِ تغييرِ الواقع، ببثِّ روحِ المُثابرةِ والإصرارِ في الإنسان، فالذي يتربّى في بيئةٍ مُتخلّفةٍ، أو فقيرةٍ، أو مُستضعفةٍ، يمكنُه التحرّرُ مِنها رغمَ شدّةِ تأثيرها وحضورِها الواضحِ على حياتِه، فليسَ هناكَ ظروفٌ حتميّةٌ وقدرٌ لازم.  لو عرفَ الإنسانُ هذهِ الحقيقةَ، لما وجَدنا الكثيرَ يقبلونَ العيشَ تحتَ ظروفِ الذلِّ، والهوانِ، والفقرِ، والمرضِ..، بحجّةِ أنَّ قدرَهم رسمَ لهم هذا النصيبَ منَ الحياة، لا ينبغي للإنسانِ أن يكونَ يائِساً بائِساً، قانِطاً مِن رحمةِ الله؛ لأنَّ اللهَ يفعلُ ما يشاء، ولأنّه كلَّ يومٍ هوَ في شأن: ﴿إِن أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَها﴾، فالتحرّرُ منَ التراثِ والتاريخِ الخاصِّ لكلِّ إنسانٍ ممكنٌ، عبرَ التطلّعِ الذي تُحقّقهُ عقيدةُ البَداء. وهكذا تتحوّلُ عقيدةُ البَداءِ إلى وقودٍ للتكاملِ في ضميرِ البشر، ونبراسٍ للتطلّعِ والتقدّمِ والحركةِ والحيويّةِ والتطوّرِ، بل هيَ الأملُ في المُلكِ والهيمنةِ، والمُثلِ والأخلاقِ، والنموّ والرفعةِ، والشأنِ والقدرةِ، والعزّةِ والكرامة..وفي المُحصّلةِ حتّى نعرفَ الرّضا بالقضاءِ لابدَّ أن نعرفَ الفرقَ بينَ القضاءِ والقدر، فالقدرُ هوَ الخُططُ المرسومةُ، وبحسبِ تعبيرِ الإمامِ القدرُ هندسةُ الشيء، بينَما القضاءُ وهوَ وقوعُ ما خُططِ وقدّرَ بالفعل، يقولُ الإمامُ الكاظمُ (عليهِ السلام): (القدرُ هوَ تقدیرُ الشيءِ مِن طولِه وعرضِه والقضاءُ هوَ الإمضاءُ الذي لا مردَّ له)، وقالَ الإمامُ الرّضا (عليهِ السلام): (القدرُ هندسةٌ والقضاءُ إبرام). فإذا وقعَ الشيءُ في الخارجِ يُسمّى قضاء، فمثلاً للموتِ أقدارٌ كثيرة، مثلَ شربِ السمِّ، حوادثِ الحركة، إطلاقٍ ناري، إلى غيرِ ذلكَ مِن أقدارٍ، أمّا وقوعُ الموتِ بالفعلِ يُسمّى قضاء، وبذلكَ نفهمُ ضرورةَ الرّضا بالقضاءِ فمثلاً حتّى يحافظَ الإنسانُ على صحّتِه أمامَه أقدارٌ كثيرةٌ مثلَ الأكلِ الصحيّ والرياضةِ وغيرِ ذلكَ فإذا عملَ الإنسانُ على خلافِ ذلكَ وأصابَه المرضُ فلا يحقُّ له الاعتراضُ على اللهِ وإنّما يرضى بما وقعَ عليه.