لماذا تتكرر قصص الانبياء بالقرآن الكريم ؟

:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الغايةُ مِن ذكرِ القصّةِ في القرآنِ الكريم: إنَّ الهدفَ مِن تكرارِ القصّةِ في القرآنِ الكريم، يندرجُ في إطارِ الهدفِ مِن نفسِ القصّةِ القرآنيّة. فإنّنا إذا فهِمنا الهدفَ مِن ذكرِ القصّةِ في القرآنِ الكريم، سنقتربُ مِن فهمِ الغايةِ مِن تكرارِها أيضاً. وبالإمكانِ إجمالُ الجوابِ في نُقطتينِ أساسيّتينِ رعايةً للاختصار. النقطةُ الأولى: أنسُ وميلُ الإنسانِ نحوَ المحسوس. إنَّ الإنسانَ بطبيعتِه المادّيّةِ يأنسُ بالمحسوساتِ والمادّيّاتِ أكثرَ بكثيرٍ ممّا يأنسُه منَ المعنويّاتِ وما لا يُدرَكُ بالحواسِّ والقضايا ذاتِ البُعدِ العِلمي المُعقّد؛ إنّها الطبيعةُ التي طبعَ اللهُ تعالى عليها الإنسانيّةَ جمعاء في جانبِها المادّي. فالقصّةُ القرآنيّةُ تُبيّنُ مَطلباً أخلاقيّاً أو علميّاً بعيداً عن الحواسّ، بأسلوبٍ يلامسُ حواسَّ الإنسانِ وضميرَه ووجدانَه، ممّا يجعلُ المُخاطبَ مُنشدّاً إلى تلكَ الغايةِ التي مِن أجلها سيقَت القصّةُ القرآنيّة، بسببِ ما تضمّنَته القصّةُ مِن عرضِ المعاني الساميةِ بقوالبَ ماديّةٍ محسوسةٍ عندَ المُخاطَب سلسةِ الانقيادِ إلى فهمِه ومُدركاتِه. ومِن بابِ المِثال، نرى كيفَ تناولَ القرآنُ الكريمُ قصّةَ نبيّ اللهِ يوسف عليهِ السلام، فلو أرَدنا أن نأخذَ جانبَ الصبرِ على طاعةِ اللهِ تعالى الذي تضمّنَته القصّةُ، وأردنا أن نُعبّرَ عن فائدةِ الصبرِ على طاعةِ اللهِ بأسلوبٍ علميّ أي بمعزلٍ عن القصّة، لعجزنا عن إيصالِ المعنى المُرادِ مِن جانِب عُمقِه وسعتِه، في حينِ نرى أنَّ القصّةَ القرآنيّةَ قد أجادَتِ التعبيرَ وأحسنَتِ التصويرَ للمعنى المُرادِ نقلهُ للمُتلقّي. الأمرُ الذي يجعلُ المُتلقّي أكثرَ إيماناً بالغايةِ المنشودةِ مِن سردِ القصّة، وذلكَ لوضوحِ الدرسِ المُرادِ إفهامُه إلى المُخاطبِ بأسلوبٍ سلسٍ مؤنس. النقطةُ الثانية: هدايةُ الناس. لا شكَّ أنَّ القرآنَ العظيمَ كتابُ هدايةٍ للناسِ أجمعين، وكلُّ الذي فيهِ منَ الآياتِ مُندرجٌ في هذا الإطار، قالَ تعالى: (يَهدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذنِهِ وَيَهدِيهِم إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ) [المائدة: 16]، وعلى هذا فالقصّةُ القرآنيّةُ مُندرجةٌ لا محالةَ في إطارِ هدايةِ الناس. غيرَ أنَّ تناولَ القرآنِ للقصصِ، يختلفُ عن تناولِ المؤرّخِ والقاصِّ لها؛ فالمؤرّخُ يهتمُّ في توثيقِ القصّةِ ويستغرقُ في بيانِ تفاصيلِ الحدثِ التاريخيّ لينقلَ الحدثَ بما هوَ حدث، والقاصُّ يهتمُّ بالجانبِ الأدبيّ والخيالِ الأدبيّ الذي تتضمّنُه القصّة، أمّا القرآنُ الكريمُ حينَما يتناولُ القصّةَ القرآنيّة، فهو يتناولُها بما هيَ وسيلة إفهامٍ لغرضِه الذي هوَ بصددِ بلوغِه وهو (هدايةُ الناس) وإدراجُهم في سُلّمِ التكاملِ الماديّ والمعنوي. لذلكَ نرى تناولَ القرآنِ للقصّةِ يختلفُ عن تناولِ المؤرّخِ والأديبِ لها، قالَ العلّامةُ الطباطبائيّ رحمَه اللهُ في تفسيرِ الميزانِ ما هذا لفظهُ: (على أنَّ القرآنَ ليسَ بكتابِ تاريخٍ ولا أنّه يريدُ في قِصصِه بيانَ التاريخِ على حدِّ ما يرومُه كتّابُ التاريخِ، وإنّما هوَ كلامٌ إلهيٌّ مُفرّغٌ في قالبِ الوحي يهدي بهِ اللهُ مَن اتّبعَ رضوانَه سبلَ السّلام، ولذلكَ لا تراهُ يقصُّ قصّةً بتمامِ أطرافِها وجهاتِ وقوعِها، وإنّما يأخذُ منَ القصّةِ نكاتٍ مُتفرّقةً يوجبُ الإمعانُ والتأمّلُ فيها حصولَ الغايةِ مِن عِبرةٍ أو حكمةٍ أو موعظةٍ أو غيرِها). (تفسيرُ الميزانِ للعلّامةِ الطباطبائي/ ج 2 / ص 176). والآنَ أصبحَ الجوابُ على السؤالِ (لماذا تكرّرَت القصّةُ في القرآنِ الكريم؟) أكثرَ وضوحاً، وأطوعَ فهماً. فالغايةُ مِن تكرارِ القصّةِ القرآنيّة، هوَ عرضُ هدفٍ وغايةٍ أخرى غير الهدفِ والغايةِ التي سيقَت له القصّةُ في المرحلةِ السابقة. فبعضُ القصصِ في القرآنِ قد تكرّرَت كثيراً، كقصّةِ آدم، وإبراهيم، وموسى، عليهم السلام. ولكِن في كلِّ مرّةٍ يبيّنُ في القصّةِ هدفاً آخرَ غيرَ ما بيّنَ في المرّةِ السابقةِ. فمثلاً: قصّةُ نبيّ اللهِ تعالى آدم عليهِ السلام، نرى أنّها تكرّرَت في القرآنِ الكريمِ ثلاثَ مرّاتٍ، وهيَ في سورةِ البقرة، والأعرافِ، وطه.والغايةُ مِن سوقِ القصّةِ في سورةِ البقرةِ هيَ لبيانِ أفضليّةِ الإنسانِ على جميعِ مَن خلقَ وأنَّ الإنسانَ خليفةُ اللهِ تعالى على أرضِه، قالَ تعالى: (وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاء وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُم صَادِقِينَ. قَالُوا سُبحَانَكَ لاَ عِلمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسمَائِهِم قَالَ أَلَم أَقُل لَّكُم إِنِّي أَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَأَعلَمُ مَا تُبدُونَ وَمَا كُنتُم تَكتُمُونَ. وَإِذ قُلنَا لِلمَلائِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ.[البقرةُ: 30-34] بيدَ أنَّ الغايةَ التي مِن أجلِها سيقَت القصّةُ في سورةِ الأعرافِ هيَ بيانُ مُعاداةِ الشيطانِ للإنسان؛ قالَ تعالى: (قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ. ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ. قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ. وَيَٰـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّلِمِينَ. فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّصِحِينَ. فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ) [الأعرافُ: 16-22].  في حينِ نرى أنَّ الغايةَ مِن تكرارِ ذاتِ القصّةِ في سورةِ طه هيَ لبيانِ النعمِ التي كانَ يتمتّعُ بها آدمُ عليه السلام وزوجُه والتي خسراها بسببِ تلكَ العداوة، قالَ تعالى: (فَقُلنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوجِكَ فَلَا يُخرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَىٰ. وَأَنَّكَ لَا تَظمَأُ فِيهَا وَلَا تَضحَىٰ) [طه: 117-119] وعلى هذا أضحى الجوابُ واضحاً منَ الغايةِ في تكرارِ القصّةِ القرآنيّة، وهيَ لبيانِ جانبٍ آخرَ لم يُذكَر في البيانِ السّابق.