هل يمكنُ معرفةُ مراحلِ كتابةِ رسمِ المِصحَف الشريف وتنقيطِه؟.

:

السلامُ عليكمأخي الكريم، للجوابِ على سؤالِكم لابدَّ مِن تقديمِ مُقدّمتين، سيتّضحُ مِن خلالِهما الجوابُ بإذنِ اللهِ تعالى. المُقدّمةُ الأولى: متى جُمعَ القُرآنُ الكريم؟إنَّ الثابتَ تاريخيّاً، أنَّ القرآنَ الكريم قد كُتبَ وجُمعَ في زمنِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله. وإن اختلفَت رواياتُ العامّةِ في ذلكَ غيرَ أنَّ الصّحيحَ ما قُلناه. قالَ السيّدُ الخُوئي رحمَه الله : (إنَّ هذهِ الروايات-أي الرواياتُ التي تقولُ أنَّ القرآنَ قد جُمعَ في عهدِ أبي بكر، والرواياتُ التي تقولُ أنَّ القرآنَ قد جُمعَ في عهدِ عُمر، والرواياتُ الي تقولُ أنَّ القرآنَ قد جُمعَ في عهدِ عُثمان- مُعارضةٌ بما دلَّ على أنَّ القرآنَ كانَ قد جُمِع ، وكُتبَ على عهدِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فقد روى جماعةٌ ، مِنهم ابنُ أبي شيبةَ وأحمدُ بنُ حنبل ، والترمذيُّ ، والنسائيُّ ، وابنُ حبّان ، والحاكمُ ، والبيهقيُّ ، والضياءُ المقدسي عن ابنِ عبّاس . قالَ : قلتُ لعُثمانَ بنِ عفّان: ما حملَكم على أن عمدُتم إلى الأنفالِ وهيَ منَ المثاني ، وإلى براءة ، وهيَ منَ المئين فقرنتُم بينَهما ولم تكتبوا بينَهما سطرَ : " بسمِ اللهِ الرّحمن الرّحيم " ؟ ووضعتموهما في السبعِ الطِوال ، ما حملَكم على ذلك ؟ فقالَ عُثمان : إنَّ رسولَ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم كانَ ممّا يأتي عليهِ الزمانُ ينزلُ عليهِ السورةُ ذاتُ العدد ، وكانَ إذا نزلَ عليهِ الشيءُ يدعو بعضَ مَن يكتبُ عندَه فيقول : ضعوا هذا في السورةِ التي يذكرُ فيها كذا وكذا ، وتنزلُ عليهِ الآياتُ فيقول : ضعوا هذا في السورةِ التي يذكرُ فيها كذا وكذا ، وكانَت الأنفالُ مِن أوّلِ ما أنزلَ بالمدينة ، وكانَت براءةُ مِن آخرِ القرآنِ نزولاً ، وكانَت قصّتُها شبيهةً بقصّتِها ، فظننتُ أنّها مِنها ، وقُبضَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ولم يُبيّن لنا أنّها مِنها ، فمِن أجلِ ذلكَ قرنتُ بينَهما ، ولم أكتُب بينَهما سطرَ : " بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم " ووضعتُهما في السبعِ الطوالِ                                                                                           البيانُ في تفسيرِ القرآن (ص: 165) وهذا الحديثُ مشهورٌ في مجاميعِهم الروائيّةِ كما ذكرَ السيّدُ الخُوئي رحمَه الله وهو صحيحٌ على شرطِ الشيخينِ (البُخاري ومُسلم) ولم يُخرجاهُ كما صرّحَ بذلكَ الحاكم.                                                               المُستدرَكُ على الصّحيحينِ للحاكم (ج7/ص 2) وهذ الحديثُ صريحٌ بأنَّ القرآنَ قد كُتبَ ودوّنَ وجُمعَ في زمنِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله بالخطِّ الذي كانَ في ذلكَ الزمانِ وهوَ نفسُ الخطِّ القرآنيّ المعروفِ اللآن باستثناءِ التنقيطِ (الحركاتُ الإعرابيّة). المُقدّمةُ الثانية: ماذا يرادُ بالتنقيط؟المُرادُ بالتنقيطِ ليسَ وضعُ النقاطِ على الحروفِ كما يتوهّمُ ذلكَ مِن لفظِ التنقيط، لأنَّ ذلكَ كانَ موجوداً في زمنِ الجاهليّة، بل المُرادُ مِنه هوَ تحريكُ كلماتِ القرآنِ بُنيويّاً وإعرابيّاً، لأنَّ الحركاتِ الإعرابيّةَ والبنيويّةَ لم تكُن موجودةً أصلاً، للفصاحةِ العاليةِ التي كانَ يتمتّعُ بها العربُ آنَذاك. ولكن لمّا دخلَ اللحنُ على اللسانِ العربي، صارَ منَ الضروريّ التفكيرُ بما يصونُ اللسانَ العربي عن اللحن، فابتكروا الحركاتِ، وهذهِ الحركاتُ لا تُشابِهُ بصورتِها ورسمِها في السابقِ رسمَها الآن، بل كانَت على شكلِ نقاطٍ، فيضعونَ نُقطةً واحدةً فوقَ الحرفِ للدّلالةِ على الفتحة، ونقطةً تحتَ الحرفِ للدّلالةِ على الكسرة، ونُقطةً على يسارِ الحرفِ للدّلالةِ على الضمّةِ، ونُقطتينِ فوقَ الحرف، أو تحتَه، أو على يسارِه للدّلالةِ على التنوين، وكانوا يتركونَ الحرفَ الساكنَ خالياً منَ النقاط، لذلكَ سُمّيَ تحريكُ القرآنِ بالتنقيط. والدليلُ على ما أقول، أنَّ سببَ وضعِ قواعدِ اللغةِ العربيّةِ التي أسّسَها أميرُ المؤمنينَ عليٌّ بنُ أبي طالب عليهِ السلام ودفعَها إلى تلميذِه الوفيّ أبي الأسودِ الدّؤليّ رحمَه الله، هوَ أنّهُ عليهِ السلام وجدَ الناسَ يُلحنونُ في كلامِهم، واللحنُ عادةً ما يكونُ في الحركات. قالَ الخليلُ: (واللحنُ: تركُ الصّوابِ في القراءةِ والنشيد).                                                                    كتابُ العينِ للخليلِ بنِ أحمد الفراهيدي (ج 3/ص230)  وقالَ الرّاغبُ: (اللحنُ: صرفُ الكلامِ عن سُننِه الجاري عليه؛ إمّا بإزالةِ الإعرابِ؛ أو التصحيفِ، وهوَ المَذموم، وذلكَ أكثرُ استعمالاً).                                                     مفرداتُ ألفاظِ القرآنِ للرّاغبِ الأصفهاني (ج2/ص335)فعندَما رأى أميرُ المُوحّدينَ عليهِ السلام ذلك، خافَ على القرآنِ مِن أن يدخُلَه اللحنُ، فأسّسَ قواعدَ اللغة، وحركةَ الكلماتِ القرآنيّةِ بتنقيطِها. قالَ السيوطي: (ثمَّ كانَ أوّل مَن رسمَ للنّاسِ النحوَ أبو الأسودِ الدؤلي، وكانَ أبو الأسودِ أخذَ ذلكَ عن أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالب رضيَ اللّهُ عنه، وكانَ أعلمَ الناسِ بكلامِ العرب؛ وزعموا أنّهُ كانَ يجيبُ في كلِّ اللغة.  وأبو الأسودِ أوّلُ مَن نقّطَ المِصحفَ، واختلفَ الناسُ إلى أبي الأسودِ يتعلّمونَ منهُ العربيّة، وفرَّعَ لهم ما كانَ أصلُه، فأخذَ ذلكَ عنهُ جماعةٌ.قالَ أبو حاتمٍ: تعلَّمَ مِنهُ ابنُه عطّاءٌ بنُ أبي الأسود، ثمَّ يحيى بنُ يَعمَرَ العدواني، كانَ حليفَ بني ليث، وكانَ فصيحاً عالِماً بالغريب؛ ثمَّ ميمونُ الأقرن، ثمَّ عَنبسةَ بنُ معدانَ المهري، وهوَ الذي يقالُ له عَنبسةَ الفيل).  المُزهِر في علومِ اللغةِ للسّيوطي (ص: 323). وفيّاتُ الأعيانِ ابنُ خلّكان (ج2/ص535).  نزهةُ الألباءِ ابنُ الأنباري (ص: 6).  يقولُ القفطي إنَّ أوّلَ مَن وضعَ النحوَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ بنُ أبي طالب، قالَ أبو الأسود : دخلتُ على أميرِ المؤمنينَ عليٍّ فرأيتُه مُطرِقاً مُفكّراً ، فقلتُ : فيمَ تُفكّرُ يا أميرَ المؤمنين؟ فقالَ : سمعتُ ببلدِكم لحناً ، فأردتُ أن أضعَ كتاباً في أصولِ اللغةِ العربيّة ، ثمّ أتيتُه بعدَ أيّامٍ ، فألقى إليّ صحيفةً فيها : بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيم ، الكلامُ : اسمٌ وفعلٌ وحرف.                                                                            إنباهُ الرّواةِ على أنباءِ النُّحاة ( ج١/ص٤) . ودمتُم سالِمين.