هل هناك جرح بالتفرد؟

الجواب :

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،

يُعدُّ بابُ التفرّدِ بالحديثِ مِن أهمِّ مباحثِ علمِ الحديثِ والدراية، التي ينبغي للمُحقّقينَ والدارسينَ أن يُعنوا بهِ حقَّ عنايتِه وأن لا تأخذَهم العجلةُ في الحُكمِ على الأحاديثِ التي يعرضونَ لها إلّا بعدَ دراستِها دراسةً مُتأنّيةً مِن جوانبَ عدّة. 

فإذا تبيّنَ ذلكَ، فنقولُ في بادئِ الأمر: نعم، هناكَ جرحٌ بالتفرّدِ بالحديثِ بيّنَه نقّادُ الحديثِ وأهلُ العلمِ في كتبِ علمِ الحديثِ والدراية، في مواضعَ مِن أبوابِه عرضوا لها في مبحثِ الغريبِ أو مِن خلالِ مبحثِ التفرّد. ونحنُ سنذكرُ ما وقَفنا عليهِ مِن أقوالِ الفريقينِ بحسبِ ما يسعُ المقام:

فأمّا الفريقُ الأوّلُ منَ العامّة، فقد ذكرَ الخطيبُ مُصطلحَ الغريبِ في كتابِه (الجامعُ لأخلاقِ الرّاوي 2/126)، ووصفَه بقولِه: وأكثرُ ما يوصفُ بذلكَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ بعضُ الرواةِ بمعنىً فيهِ لا يذكرُه غيرُه إمّا في إسنادِه أو في متنِه.

وقالَ ابنُ الصلاحِ في كتابِه (علومُ الحديث ص 157): الحديثُ الذي يتفرَّدُ فيهِ بعضُهم بأمرٍ لا يذكرُ فيهِ غيرَه.

ثُمَّ اعلَم أنّ أقسامَ التفرّدِ مُتعدّدةٌ، وأهمُّ هذه الأقسامِ قِسمان:

القسمُ الأوّل: التفرّدُ المُطلَق، وهوَ أن يروي الراوي متنَ الحديثِ لا يشاركُه فيهِ غيرُه، فلا يكونُ له إلّا طريقٌ واحد، ويُطلِقُ عليهِ العلماءُ لفظَ الغرابة، فيقولونَ: حديثٌ غريبٌ، أو حديثٌ فرد.

والقسمُ الثاني: التفرّدُ النسبي، وهوَ أن يرويَ الراوي الحديثَ بإسنادٍ لا يشاركُه فيهِ غيرُه، وقد عُرِفَ متنُه عن غيرِ ذلكَ الشيخ. [ينظر: معرفةُ علومِ الحديثِ للحاكم ص 153، محمّدٌ بنُ عبدِ الله الحاكم].

وأمّا الفريقُ الثاني منَ الخاصّة، فقد ذكرَ الشهيدُ الثاني في كتابِه (الرعايةُ في علمِ الدراية) في الحقلِ السادسِ في : المُفرَد، وهوَ: قسمانِ أحدُهما: أن ينفردَ به راويهِ عن جميعِ الرواة، وهوَ : الانفرادُ المُطلَق.

والآخرُ: أن ينفردَ بهِ بالنسبةِ إلى جهةِ: وهوَ الانفرادُ النسبي، كتفرّدِ أهلِ بلدٍ مُعيّن ، كمكّةَ والبصرةِ والكوفة، أو تفرّدِ واحدٍ مِن أهلِها به.

وقد مثّلَ أهلُ العلمِ للفردِ المُطلَق بحديثِ العامّة: (نحنُ معاشرَ الأنبياء ، لا نورّثُ دينارا " ولا درهما " ، ما تركناهُ صدقة ، إذ إنَّ هذا الحديثَ لم يروَ إلّا عن أبي بكر، وأنَّ ذيلَه : ( ما تركناهُ صدقة ) ، هوَ ليسَ منَ الحديث، بل مُضافٌ إليه. [ينظر مكاتيبُ الرسولِ للشيخِ الأحمدي : ص592 وما بعدَها، ففيهِ مناقشةٌ جيّدةٌ وعلميّة].

ومثّلوا له مِن حديثِ الخاصّةِ بما انفردَ بنقلِه أحمدُ بنُ هلال العبرتائي، فإنّ المشهورَ عدمُ العملِ بما ينفردُ بهِ منَ الروايات.

ومثّلوا للفردِ النسبيّ بما رواهُ الفطحيّةُ بالإسنادِ المشهورِ عَنهم: (أحمدُ بنُ الحسن ، بنِ عليٍّ ، بنِ فضّال . ، عن عمرو بنِ سعيد ، عن مصدّقٍ بنِ صدقة ، عن عمّارٍ الساباطي)، وهؤلاءِ كلُّهم منَ الفطحيّة . ، ولذا اشتهرَ حديثُهم : ب‍ ( حديثِ الفطحيّة ).

وأمّا حكمُ التفرّدِ، فوصفُ أئمّةِ النقدِ الحديثَ بالتفرّدِ لا يقتضي تضعيفاً ولا تصحيحاً؛ لأنّهُ يجوزُ أن يكونَ المُتفرّدُ قد ضبطَ الحديث، ويجوزُ أن يكونَ وهمَ فيه، فلا يُحكمُ بضعفِ الحديثِ ولا بصحّتِه ما لم يتّضِح ضبطُ الراوي للحديثِ أو وهمُه فيه.

قالَ الدكتورُ سعيدٌ المري في كتابِه (إعلالُ الحديثِ الغريبِ بالحديثِ المشهور، (ص53 وما بعدَها): والخلاصةُ ممّا تقدّمَ هيَ أنَّ الغرابة عندَ النقّادِ لا تقتضي صحّةً ولا ضعفاً، وإنّما هيَ مُجرّدُ الاستغراب، وأكثرُ ما يطلقونَ الغرابةَ حينَما لا يكونُ لذلكَ التفرّدِ عندَهم علّةٌ تردّه.

وهذا ما يظهرُ مِن صنيعِ أئمّةِ المُصطلَحِ في تقسيمِ الغرائبِ والأفرادِ باعتبارِ الصحّةِ والضعفِ. فقسّمَ الحاكمُ الغريبَ إلى ثلاثةِ أنواع: غرائب الصّحيح، وغرائب الشيوخ، وغريب الإسنادِ والمتن.

وقسّمَ ابنُ الصلاحِ الغريبَ في كتابِه (علومُ الحديثِ ص 157) إلى صحيحٍ وغيرِ صحيح، فقالَ: ثمَّ إنَّ الغريبَ ينقسمُ إلى: صحيحٍ كالأفرادِ المُخرجةِ في الصحيحِ وإلى غيرِ صحيح، وذلكَ هوَ الغالبُ على الغريب.

وهكذا الحالُ عندَ مدرسةِ أهلِ البيت، إذ يقولُ الشهيدُ الثاني: ولا يضعفُ الحديثُ بذلك: مِن حيثُ كونه إفراداً، إلّا أن يلحقَ بالشاذِّ ، فيُردُّ لذلك.

وقالَ الشيخُ حُسين البهائيّ العاملي، في كتابِه (وصولُ الأخيارِ إلى أصولِ الأخبار)، (ص111): ويدخلُ في الغريبِ ما انفردَ روايةً بزيادةٍ في متنِه أو في سندِه، وهوَ قد يكونُ صحيحاً، وقد يكونُ غيرَ صحيح.

ولكن تجدرُ الإشارةُ إلى أمرٍ مُهمٍّ في المقامِ حاصلُه: أنّه شاعَ عندَ كثيرٍ منَ المُتأخّرينَ في حُكمِ التفرّد، أنّ الراوي الثقةَ إذا تفرّدَ بروايةِ شيءٍ يُقبلُ حديثهُ اعتماداً على ثقتِه، وأمّا الراوي الضعيفُ إذا انفردَ بشيءٍ يردُّ حديثهُ استناداً على ضعفِه. كما ذهبَ إلى ذلكَ ابنُ الصلاحِ منَ العامّةِ في كتابِه علومُ الحديث (167)، وغيرُه.

ولكن ما قالَه ابنُ الصلاحِ في حُكمِ التفرِّد لا يصحُّ أن يكونَ حُكماً عامّاً، وإنّما يجري ذلكَ في أغلبِ الرواةِ الذينَ هكذا وصفَهم، إذ إنّ مقياسَ قبولِ التفرّدِ أو ردَّه ليسَ كونَ الراوي ثقةً أو ضعيفاً فحسب، بل هناكَ قرائنُ تصاحبُ التفرّدَ، فيترجّحُ بها جانبُ القبولِ أو جانبُ الردِّ لِما تفرّدَ به الراوي، فإذا ترجّحَ بالقرائنِ جانبُ القبولِ يُحكمُ بصحّةِ الحديثِ حينئذ، وإذا ترجّحَ بالقرائنِ عدمُ ضبطِ الراوي أو عدمُ قبولِ روايتِه، يحكمُ النقّادُ بأنَّ الحديثَ معلول.

وكتبُ عللِ الحديثِ ككتابِ العللِ لابنِ أبي حاتمٍ الرّازي وكتابِ العللِ لأحمدَ بنِ حنبل وكتابِ العللِ للدراقطنيّ وغيرِها خيرُ شاهدٍ على ذلك. [وينظر: كتابُ الموازنةِ بينَ المُتقدّمينَ والمُتأخّرينَ في تصحيحِ الأحاديثِ وتعليلِها للدكتورِ المليباري ص 73].

ثمَّ إنَّ علماءَ العامّةِ ذكروا عدّةَ ضوابطَ لقبولِ التفرّدِ بالحديث، وبضدِّها تعرفُ شروط وضوابط ردِّ الحديثِ الذي ينفردُ بهِ راويه.

الضوابطُ التي تجعلُ التفرّدَ مقبولاً:

الأولى: تقدّمُ الطبقةِ التي وقعَ فيها التفرّد.

الثانية: كونُ المُتفرِّدِ معروفاً بالعدالةِ والاتقان.

الثالثةُ: كونُ المُتفرِّدِ مِن أهلِ الاختصاصِ بشيخِه.

الرابعةُ: احتمالُ أئمّةِ المُحدّثينَ عن المُتفرِّدِ روايتَه.

الخامسةُ: اعتضادُ الراوي المتفرِّدِ بالمُتابعة.

السادسةُ: اعتضادُ الروايةِ التي فيها التفرّدُ بالشاهد.

وأمّا الضوابطُ المُتعلّقةُ بردِّ التفرّدِ في الحديث، فمِنها ما يتعلّقُ بالعدالة، إذ قد يكونُ الراوي كذّاباً أو مُتّهماً بالكذبِ أو الفسقِ أو البدعةِ أو الجهالة، ومِنها ما يتعلّقُ بالضبط، إذ قد يكونُ الرّاوي فاحشَ الغلطِ أو مُغفّلاً أو كثيرَ الوهمِ أو المُخالفةِ أو سيّئَ الحِفظ. 

ومِن خلالِ البحثِ في هذا الموضوع، فإنّكَ تجدُ أنَّ أهمَّ ما يُميّزُ كونَ الحديثِ مردوداً حسبَ ضوابطِ التفرّد، هوَ أن تكونَ هناكَ مُخالفةٌ واضحةٌ منَ الراوي المُتفرّدِ بالحديثِ لغيرِه منَ الرواةِ في روايةِ الحديثِ نفسِه، فربّما جاءَ بعبارةٍ لم تكُن مِن أصلِ الحديثِ أو بالعَكس أو وصلَ ما كانَ مُرسلاً أو أدرجَ فيهِ منَ الألفاظِ ما ليسَ منهُ أو غيرُ ذلك. فمِن هذهِ الناحيةِ يُردُّ حديثُه، وإليكَ مِثالين أحدُهما: ما تفرّدَ بهِ ثقةٌ، والآخرُ: ما تفرّدَ به ضعيف.

فأمّا المثالُ الأوّل: فما رواهُ الصّدوقُ في كتابِه مَن لا يحضرُه الفقيه، (ج ١/ ص ٤١١) حينَ كانَ يتحدّثُ عن صلاةِ الجُمعة، إذ قالَ: والقراءةُ فيها بالجهرِ والغسلُ فيها واجبٌ، وعلى الإمامِ فيها قنوتانِ قنوتٌ في الركعةِ الأولى قبلَ الركوعِ وفي الركعةِ الثانيةِ بعدَ الرّكوع. ومَن صلّاها وحدَه، فعليهِ قنوتٌ واحدٌ في الركعةِ الأولى قبلَ الرّكوع.

وتفرّدَ بهذهِ الروايةِ حريزٌ عَن زُرارة.

والذي استعملَه وأفتى به ومضى عليهِ مشايخي - رحمةُ اللهِ عليهم - هوَ أنَّ القنوتَ في جميعِ الصلواتِ في الجُمعةِ وغيرِها في الركعةِ الثانيةِ بعدَ القراءةِ وقبلَ الركوع.

فلاحِظ أنَّ الصدوقَ حكمَ على روايةِ حريزٍ بالتفرّد، لأنّه خالفَ غيرَه في هذا الموضِع، فلذا لم يأخُذ بها وردّها معَ أنَّ حريزاً ثقةٌ.

وأمّا المثالُ الثاني، فهوَ ما ذكرَه الشيخُ الطوسيّ في الاستبصار: 3 / 28 - ذيلُ الحديث 90 – إذ قالَ ما نصُّه: (لأنَّ راويةَ أحمدَ بنِ هلال، وهوَ ضعيفٌ فاسدُ المَذهب، لا يُلتفتُ إلى حديثِه فيما يختصُّ بنقلِه. وقالَه أيضاً " في ذيلِ الحديث 812 . منَ الجُزءِ التاسعِ منَ التهذيب. وهناكَ أمثلةٌ كثيرةٌ لهذا النوعِ منَ الأحاديثِ تُطلَبُ مِن مَظانِّها في كتبِ الحديثِ المتداولةِ ككتابِ تدريبِ الرّاوي للسيوطيّ وكتابِ مقباسِ الهدايةِ للمَامقاني وغيرِهما.

والمهمُّ ممّا تقدّمَ بيانُه أنَّ التفرّدَ مظِنّةُ العِلّة، فلا يكونُ التفرّدُ مردوداً مُطلقاً، ولا يكونُ مقبولاً مُطلقاً، بل يُنظَرُ إلى القرائنِ التي ترجّحُ جانبَ قبولِه أو ردّه. ودُمتم سالِمين.