تواتر النقل عن النبي (ص) بأن الغسل للقدمين لا المسح عليهما في الوضوء

لجين/ : يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي نقلا متواترا كحديث " ويل للأعقاب من النار " وقد تواتر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) المسح على الخفين ونقل عنه المسح على القدمين في موضع الحاجة مثل أن يكون في قدميه نعلان يشق نزعهما وأما مسح القدمين مع ظهورهما جميعا فلم ينقله أحد عن النبي وهو مخالف للكتاب والسنة أما مخالفته للسنة فظاهر متواتر وأما مخالفته للقرآن فلأن قوله تعالى (( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين )) فيه قراءتان مشهورتان النصب والخفض فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه الرافضة.

: اللجنة العلمية

لا نطيل الكلام هنا ولنذهب مباشرة إِلى القرآن الكريم الذي شرّع لنا هذه الفريضة.. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَينِ)(1).

قال ابن حزم في المحلى: مسألة: وأَمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح. قال الله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)، وسواء قرئ بخفض اللام أَو بفتحها هي على كل حال عطف على الرؤوس: إمّا على اللفظ وأَمّا على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة.

وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح ــ يعني في الرجلين في الوضوءــ وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار، منها أثر من طريق همام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه ــ هو رفاعة بن رافع ــ أنه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إنّها (لا تجوز صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ثمّ يغسل وجهه ويديه إِلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إِلى الكعبين).

وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي_ "كنت أرى باطن القدمين أحقّ بالمسح حتّى رأيت رسول الله يمسح ظاهرهما"))(2).انتهى

إذن فالقرآن الكريم جاء بالمسح لا الغسل... فمن أين جاء الحكم بغسل الرجلين عند القوم يا ترى؟!

قالوا: جاءنا من الروايات، وهنا لا نريد أن نطيل الكلام في مناقشة دلالة هذه الروايات أَو أسانيدها.. بل نريد أن نسأل سؤالاً واحداً فقط.

نقول: هل معنى كلامكم هذا أنّ حكم المسح الذي جاء به القرآن الكريم هو منسوخ عندكم بحكم الغسل الوارد من السنّة التي تروونها أم ماذا؟!

فإن قالوا نعم، هو منسوخ بحكم السنّة التي جاءت بالغسل، فهم بذلك يكونون قد خالفوا ما عليه القرآن الكريم، وأقوال أئمتهم وعلماءهم المتقدّم ذكرهم في هذا الجانب.

فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا)(3).. ومن الواضح جداً أَنّ السنّة لا تساوي القرآن الكريم ولا تكون خيراً منه.

وسئل الإمام أحـمد: تنسخ السنّة شيئاً مِن القرآنِ؟ قـال:" لا يُنْسَخُ القرآنُ إلاّ بالقرآنِ"(4).

وعن الشافعي: ((وأبانَ الله لهم أنّه إنّمَا نسخَ ما نسخَ مِن الكتابِ بالكتابِ، وأنّ السنّة لا ناسخة للكتابِ وإنّمَا هي تَبَعٌ للكتابِ))(5).

وجاء عن ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ((وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أوّلاً؛ لأنّ السنّة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنّة بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه فلا يقدم غير القرآن عليه))(6). انتهى

وهذا الكلام لهؤلاء الأعلام من أَهل السنّة ــ كما تراه ــ لم يفرق في عدم جواز نسخ السنّة للقرآن، سواء كانت أخبار آحاد أَو كانت متواترة، فكلّ ذلك ممنوع عندهم، بل حتّى لو فرض أنّه وجدنا من أَهل السنّة من يقول بجواز نسخ القرآن بالسنّة المتواترةــ كما هو المنقول عن أبي الحسن الأشعري مثلاً ــ فهو مجرد فرضية لم يثبت لها واقع خارجاً كما يصرّح ابن تيمية بذلك..

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ((وبالجملةِ فلَمْ يثبت أنّ شيئاً مِن القرآنِ نُسِخَ بِسُنَّةٍ بلا قرآنٍ))(7). انتهى

هذا فضلاً عن عدم ثبوت التواتر للأخبار المعارضة لحكم المسح في القرآن.. بل هي أخبار آحاد كما شهد به الرازي وغيره.

قال الرازي في (مفاتيح الغيب): ((فثبت أن قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً، ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنّها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز))(8). انتهى

هذا، فضلاً عن معارضة هذه الأخبار الآحاد بأخبار كثيرة من السنّة نفسها ورد فيها لزوم المسح على الرجلين، كالحديث الوارد عن رفاعة بن رافع أنّه كان جالساً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إنّها لا تتمّ صلاة لاحد حتّى يسبغ الوضوء كما أمر الله يغسل وجهه ويديه إِلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إِلى الكعبين(9).

فلاحظ قول النبي (صلى الله عليه وآله) هنا: ((إنّها لا تتمّ صلاة أحد حتّى يسبغ الوضوء كما أمر الله)).. فالمسح على الرجلين هو أمر الله، وبدونه لا تتمّ الصلاة، وهذا يعارض دعوى أنّ الشريعة جاءت بالغسل للرجلين كما يزعم البعض..

وقد علّق الشيخ الألباني في ذيل هذا الحديث على قول المنذري (رواه ابن ماجة باسناد جيد): ((وهذا يوهم أنّه لم يروه من الستة سوى ابن ماجة، وليس كذلك، فقد أخرجه ابو داود والنسائي والدارمي، واسنادهم على شرط البخاري، وصححه الحاكم 1: 241 على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، هؤلاء أخرجوه في حديث المسيء صلاته))(10).

وبالتالي ستتعارض الروايات عند أَهل السنّة أنفسهم؛ (لأنّ بعضها يقول بالغسل وبعضها يقول بالمسح)، وعند التعارض المستقر وعدم إمكان الجمع بين المتعارضين يصار إِلى تساقط المتعارضين معا عن الحجية، وحيث تساقطت الأخبار يكون المرجع هو كتاب الله العزيز الوارد فيه حكم المسح لا الغسل وبذلك يثبت المطلوب، أَيّ يثبت لزوم المسح دون الغسل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة: 6.

(2) المحلى 2: 56.

(3) سورة البقرة: 106.

(4) جامع بيان العلم وفضله 2: 564.

(5) الرسالة للشافعي:106.

(6) مجموع الفتاوى 19: 196.

(7) مجموع فتاوى ابن تيمية 20: 398.

(8) مفاتيح الغيب 11: 161.

(9) صحيح الترغيب والترهيب ــ محمد ناصر الدين الألباني: 208.

(10) صحيح الترغيب والتهذيب: 208.