لماذا لم يَستخدِمْ المعصُومُ وِلَايتَه التَّكوِينيةَ في التَّصدِّي لأعْدائِه؟!!

لماذا لم يَستخدِمْ المعصُومُ الوِلايةَ التَّكوِينيةَ لِنُصرةِ الدينِ كما تَزعُمونَ؟ الخِلَافةُ اغتُصِبتْ، والقُرآنُ أُخفِيَ، وابنَةُ النَّبيِّ (ص) قُتلِتْ، أليس كلُّ هذِه مُدعاةً لاسْتِخدامِها كما اسْتَخدمَ الأنبِياءُ(ع) المعَاجِزَ لإثْباتِ نُبوَّتِهم ونُصرةً للدينِ؟

: اللجنة العلمية

  الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبركَاتُه. 

  في البدءِ عليكَ أنْ تَعرِفَ أنَّ قولَنا بالوِلايةِ التَّكويِنيةِ لأئمَّتِنا (عليهم السلام) هو ليس زَعماً، بل هو أمرٌ ثابِتٌ لهم بنُصوصٍ صَرِيحةٍ تَظافرَ نَقلُها في مجَامِيعِنا الحَدِيثيةِ، وهو ليس أمراً بُدعياً بعدَ ثُبوتِ الولِايةِ التَّكوِينيةِ لرمُوزِ أهلِ السُّنةِ وخُلفَائِهم، بل وثُبوتِها لمطْلقِ الصَّالِحينَ كما يُصرِّحُ بذلِك ابنُ تَيميةَ.

  قَال ابنُ تيَميةَ في كتَابِه "النبوات": 

  ((فإذا كانَ آيةُ نبيٍّ إحياءَ اللهِ الموْتى لم يَمتنِعْ أنْ يُحيِ اللهُ الموتَى لِنبيِّ آخرَ أو لمن يَتبِعُ الأنبِياءَ كما قد أُحيِيَ الميِّتُ لغَيرِ وَاحدٍ منَ الأنبِياءِ ومَن تَبِعَهم، وكانَ ذلك آيةً على نُبوَّةِ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم ونُبوَّةِ مَن قَبلَه إذا كانَ إحياءُ الموتَى مُختصّاً بالأنبِياءِ وأتْباعِهم)).

      وقَال في الكِتابِ نَفسِه: ((فإنَّه لا رَيبَ أنَّ اللهَ خصَّ الأنبِياءَ بخَصائِصَ لا تُوجَدُ لغَيرِهم، ولا رَيبَ أنَّ مِن آياتِهم ما لا يَقدِرُ أنْ يأتيَ به غَيرُ الأنبِياءِ، بل النَّبيُّ الوَاحدُ له آياتٌ لم يأتِ بها غَيرُه مِن الأنبِياءِ، كالعصا واليدِ لموسَى وفرقِ البحرِ، فإنَّ هذا لم يَكنْ لغَيرِ مُوسى، وكانْشِقاقِ القَمرِ والقُرآنِ وتَفجِيرِ الماءِ مِن بينِ الأصَابعِ وغَيرِ ذلك منَ الآياتِ التي لم تَكنْ لغَيرِ مُحمدٍ منَ الأنبِياءِ، وكالنَّاقةِ التي لصَالحٍ فإنَّ تلك الآيةَ لم يَكنْ مِثلُها لغَيرِه وهو خُروجُ نَاقةِ منَ الأرضِ بِخلَافِ إحياءِ الموتَى فإنَّه اشْتركَ فيه كَثِيرٌ منَ الأنبِياءِ، بل ومنَ الصَّالِحينَ)). انتهى [النبوات : 218].

  فهُنا نُلاحِظُ ابنَ تَيميةَ يقرُّ بالوِلايةِ التَّكوِينيةِ للنَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنَّه لا يَمتنِعُ أنَّ ما مَنحَه اللهُ (عزَّ وجل) لغَيرِه منَ الأنبِياءِ أنْ يَمنحَه لنبيِّهِ الأعْظمِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يَمنحُه لأتْباعِه كما في إحياءِ الموتَى.. فقد نَقلَ ابنُ تَيميةَ وكذلِك ابنُ حجرِ العَسقَلانيِّ عن شَيبانَ النَّخعِي أنَّه كانَ له حِمارٌ فماتَ في الطَّريقِ فقَال له أصْحابُه: هلمَّ نَتوزعُ متَاعَكَ على رِحالِنا. فقَال لهم: أمْهلُونِي هُنَيهَة. ثم توضَّأ فأحْسنَ الوُضوءَ وصلَّى رِكعَتينِ ودَعا اللهَ تعالى فأحْيا له حِمارَه فَحملَ عليْه مَتاعَه.[ انظُر:مجمُوعَ الفَتاوى 11: 281، الإصَابةُ في تميِيز الصَّحابةِ 5: 192].

   وأيضاً يَنقلُ أهلُ السُّنةِ في كُتبِهم عن إطَاعةِ العَناصرِ الأرْبعةِ (الماءُ والهواءُ والتُّرابُ والنَّارُ) لعُمرَ بنِ الخطَّابِ، قَال السّخاويُّ في "التحفة اللطيفة" في تَرجمةِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ: ((وتَرجُمتُه تَحتمِلُ مُجلداً ضَخماً، وممن أفرَدهَا الذَّهبيُّ في نعم السمر في سِيرةِ عُمرَ، وقد أطَاعتْه العَناصرُ الأرْبعُ فإنَّه كَتبَ لنِيلِ مِصرَ وقد بَلغَه أنَّ عَادتَه أنْ لا يُوفي إلا بِبنتٍ تَلقَى فيه فَقطعَ اللهُ مِن كِتابِه هذِه العَادةً المذمُومةَ ، والهواءُ حيثُ بلغَ صَوتُه إلى ساريِةَ والتُّرابِ حينَ زُلزِلتْ الأرضُ فَضرَبها بالدُّرةِ فَسكَنتْ، والنَّارُ حيثُ قَال لشَخصٍ أدْرِكْ بيتَك فقد احْترَقَ)). انتهى  [التحفة اللطيفة 2: 337].

   فإذا ثَبتتْ مثلُ هذِه المنَاقبِ والكَراماتِ في حقِّ عُمرَ وغَيرِه منَ الصَّحابةِ والصَّالِحينَ بحَسبِ مَروِياتِ أهلِ السُّنةِ ومَصادِرهِم، فهذا يَعني جوازَ ثُبوتِها في حقِّ أئمَّةِ العِترةِ الطَّاهرةِ وهم سَادةُ المسْلِمينَ وأئمَّةِ الدينِ بشَهادةِ أهلِ السُّنةِ أنفُسِهم، كما هو ثَابتٌ في تَراجِمِهم، وما رَوتْه كُتبُ الشِّيعةِ ومَسانِيدُهم الحَدِيثيةُ من هذِه المنَاقبِ والكرَاماتِ في بَابِ الوِلايةِ التَّكوِينيةِ لا يَتعدَّى ما يَروِيه أهلُ السُّنةِ مِن مَناقِبِ أئمَّتِهم وسَاداتِهم في هذا الجَانبِ؛ فإنَّ حُكمَ الأمْثالِ فيما يَجوزُ ولا يَجوزُ وَاحدٌ من هذِه النَّاحيةِ.

  أما لماذا لم يَستِخدمْ أئمَّةُ أهلِ البيتِ ( عليهم السلام ) هذِه الوِلايةَ التَّكوِينيةَ في رَدعِ أعْدائِهم، فلو كانَ قد اسْتعمَلَها الإمامُ الحُسيْنُ (عليه السلام) مثلاً في وَقعةِ  كَربَلاءِ، لما اسْتطَاعتْ جُيوشُ بنِي أُميةَ مِن قَتلِه، وربَّما تَحقَّقَ له النَّصرُ على جَيشِ عُمرَ بنِ سَعدٍ، وبالتَّالِي يَحكُمُ الكُوفةَ والعِراقَ كلَّه، ويَنعُمُ المسْلِمونَ بحُكمِه العِادلِ الرَّشيدِ؟!!

   الجَوابُ: لو اسْتَعملَ الأئمَّةُ (عليهم السلام) هذِه الولِايةَ التَّكوِينيةَ بِشِكلِها المطْلقِ، أي اسْتعمَالُها في كلِّ ظَرفٍ وابتِلاءٍ يَتعرَّضونَ له، لآمنَ بهم النَّاسُ مَجبُورينَ، وبالتَّالِي يُفقِدُ الإختِيارُ مِصدَاقيَّتَه في تَكلِيفِ النَّاسِ بالشَّريعةِ.

   نعم، هي اسْتُعمِلتْ في حُدودٍ مَحدُودةٍ كما في ردِّ الشَّمسِ لعليٍّ (عليه السلام) أيامَ رسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما أثْبتَه عُلماءُ أهلِ السُّنةِ أنْفسِهم، رغمَ دَعوَى بَعضِهم بالوَضعِ.

   قَال الحَافظُ ابنُ حجرِ العَسقَلانِي في فتحِ البَاري 6 ص 168: ((عن أسَماءَ بنتِ عُمَيسٍ: أنَّه صلى الله عليه وسلم دَعا لما نامَ على رُكبةِ عليٍّ فَفاتتْه صلاةُ العَصرِ، فَرُدَّتِ الشَّمسُ حتى صلى عليٌّ ثم غَربتْ. وهذا أبلغُ في المعْجِزةِ وقد أخْطأَ ابنُ الجَوزِيِّ بإيرادِه له في الموْضُوعاتِ، وهكذا ابنُ تَيميةَ في كِتابِ الردِّ على الرَّوافضِ في زعمِ وَضعهِ، واللهُ أعلمُ)).

   وجاءَ عن الحَافظِ السِّيوطِي المتوفى سنة (911هـ) في (الخصَائِص الكُبرى ج 2 ص 183): ((أوتِيَ يُوشعُ حبسَ الشَّمسِ حينَ قاتلَ الجبَّارِينَ، وقد حُبِستْ لنَبيِّنا صلى الله عليه وسلم في الإسراءِ، وأعْجبُ من ذلك ردُّ الشَّمسِ حينَ فاتَ عصرُ عليٍّ رضي الله عنه)). انتهى.

وقَال ابـو عـبـدِ اللّهِ شَـمسُ الدينِ مُحمدُ بنُ أحمدَ الأنْصاريُّ الأنْدلُسيُّ المتوفى [عام ] 671 قال في (التَّذكِرة بأحوالِ الموتَى وأمُور الآخِرةِ): ((إنَّ اللَّهَ تعالى ردَّ الشَّمسَ على نَبيِّه بعدَ مَغِيبِها حتى صلى عـليٌّ. ذَكرَه الطّحاوي وقَال: إنَّه حَدِيثٌ ثَابِتٌ، فلو لم يَكنْ رُجوعُ الشَّمسِ نَافعاً وإنَّه لا يَتجدَّدُ الوَقتُ لما ردَّها عليه)). انتهى.

   وأيضاً جاءَ في مَرويَّاتِنا أنَّ الشَّمسَ رُدَّتْ لأميرِ المؤْمِنينَ عليٍّ (عليه السلام) أيامَ خِلَافتِه.

   قَال جويرية بنُ مسهر: أقَبلْنا مع أميرِ المؤْمِنينَ عليِّ بنِ أبي طَالبٍ (عليه السلام) مِن قتلِ الخَوارجِ، حتى إذا قَطعْنا في أرضِ بابِلَ حَضرتْ صَلاةُ العَصرِ، فَنزلَ أميرُ المؤْمِنينَ (عليه السلام) ونَزلَ النَّاسُ، فقَال عليٌّ (عليه السلام): أيُّها النَّاسُ، إنَّ هذِه أرضٌ مَلعُونةٌ قد عُذِّبتْ في الدَّهرِ ثلاثَ مرَّاتٍ، وهي إحدَى المؤْتفِكاتِ، وهي أولُ أرضٍ عُبِدَ فيها وثَنٌ، إنّه لا يَحلُّ لِنبيٍّ ولا لِوصيِّ نبيٍّ أن يُصلِّيَ فيها.

فأمرَ النَّاسَ، فمَالُوا عن جَنبَي الطَّريِقِ يُصلُّونَ، ورَكبَ بَغلةَ رسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَمضَى عليْها.

قَال جويرية: فقُلتُ: واللهِ لأتبعنَّ أميرَ المؤْمِنينَ (عليه السلام) ولأقلِّدنَّه صَلاتي اليومَ، فَمَضيتُ خَلفَه، فو اللهِ ما جِزنا جِسر سورا حتّى غَابتِ الشَّمسُ، فَسَببتُه أو هَممتُ أنْ أسبَّه، قَال: فقَال: يا جويرية، أذِّنْ؟

  فقُلتُ: نعم يا أميرَ المؤمِنينَ. قَال: فَنزلَ (عليه السلام) نَاحِيةً، فَتوضّأ ثمّ قَام، فَنطقَ بِكَلامٍ لا أحْسَبُه إلا بالْعِبرانيةِ، ثمّ نادَى بالصَّلاةِ، فَنظرْتُ واللهِ إلى الشَّمسِ قد خَرجَتْ مِن بينِ جَبلَينِ لها صَريرٌ، فصلَّى العَصرَ وصلَّيتُ معه.

  قَال: فلمَّا فَرغْنا مِن صَلَاتِه عادَ اللَّيلُ كما كانَ، فالتَفتَ إليَّ وقَال: يا جويرية بْن مسهر، إنَّ الله (عزّ وجلّ) يَقُول: (فسَبحْ باسْمِ ربِّك العَظيمِ)، فإنِّي سألتُ اللهَ (عزّ وجلّ) باسمِه العَظيمِ، فردَّ عليَّ الشَّمسَ .[بصائر الدرجات: 237] 

   وقد تَقدَّمَ أنَّ ثُبوتَ هذِه الكَراماتِ والوِلايةِ التَّكوِينيةِ للأئمَّةِ (عليهم السلام) ليست بِدعةً لِلقَائِلينَ بها، بعدَ ثُبوتِ نَظيرِها عندَ غَيرِهم مِن رُموزِ أهلِ السُّنةِ وخُلفَائِهم، فحُكمُ الأمْثالِ فيما يَجوزُ ولا يَجوزُ وَاحدٌ مِن هذِه النَّاحِيةِ. 

      ودُمتُم سَالمِينَ.