سلسلة سؤال وجواب حول العدل الإلهي (11)

توضيح نظرية الأمر بين الأمرين

: اللجنة العلمية

إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموما من أوضح أدلة الاختيار، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان وعليه، فإذا كان الإنسان لا يقبل بالاختيار ويعتبر نفسه مجبوراً في أعماله فلماذا إذن:  

1- يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر بها مستقبلا، فإذا لم يكون مختارا، فلماذا الندم؟! 

2- يلام ويوبخ كل من يسئ، فلماذا يلام إن كان مجبورا في فعله؟! 

3- يمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.

4- يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم، ليضمنوا لهم مستقبلا زاهرا، وإذا كانت الأعمال جبرية، فلماذا هذا التعليم؟ 

5 - يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟  

6- يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، أو هل للجبر من توبة؟!  

7- يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟ 

8- يحاكم المجرمون والمنحرفون في كل دول العالم، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟ 

9- تضع جميع الأمم (المؤمنة أو الكافرة) العقوبات للمجرمين؟ 

10- من يقول بالجبر يصرخ متغنيا في وجه المحاكم لمعاقبة من اعتدى عليه؟ 

والخلاصة: إن لم يكن للإنسان اختيار، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟ أمن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهرا؟! ثم لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماما، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية، فلا مفهوم لها بدون الاعتراف أولا بحرية الإنسان... ثم إن كنا قد جُبرّنا على اعمالنا، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولم الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح، والأكثر ظلما معاقبته؟! وكل ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية، وهو ما ينسجم تماما والوجدان البشري العام، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم، وكما قيل في هذا الجانب: (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون)1 .

 مثال لتقريب نظرية الأمر بين الأمرين:

ويمكن تصوير النظريات الثلاث بما ذكره السيد الخوئي: ((لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة, فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه, فإذا وقع السيف وقتل, ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده, ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً, فالأمر على العكس, فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى, ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشاً) غير قادر على الحركة إلا بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة ونشاطاً, بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً, فلو أوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص, فذهب باختياره وقتلَ إنساناً, والرجل يعلم بما فعله, ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما, أمّا إلى المباشر؛ فلأنه قد فعل باختياره وإعمال قدرته, وأمّا إلى الموصل, فلأنه أقدره وأعطاه التمكّن حتى في حال الفعل والإشتغال بالقتل, وكان متمكناً من قطع القوة عنه في كل آنٍ شاء وأراد, فالجبري يمثّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال الأول, حيث أنّ اليد المرتعشة فاقدة للإختيار ومضطرة إلى الإهلاك, كما أنّ التفويض يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني, فهو يصوّر أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً, والعلة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف, كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك فكان الإنسان محتاجاً إلى رجلٍ آخر في أخذ السيف, وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي, والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث, فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه, بحيث لو قطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة, فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء... إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين, إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته, وثانيهما نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كل آنٍ وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل))2 .

فالصحيح هو نظرية الأمر بين الأمرين، بمعنى أنّ أفعال العباد ليست ناشئة مباشرة من إرادة الله تعالى، كي تنقطع علاقة السببية بين الأشياء، ويحصل الجبر الباطل، وليست ناشئة مباشرة من إرادة الإنسان فقط، فيحصل شرك في الفاعلية، ويحصل التفويض الباطل، وإنّما الصحيح، أنّ العباد لديهم اختيار لكن ليس مطلقاً ومستقلاً، وإنّما جميع أفعالهم واقعة تحت مشيئة وإرادته تعالى، فهو سبحانه وتعالى إنْ شاء أمضاها، وإنْ شاء منعها، سواء كانت هذه الأفعال صالحة أم طالحة، فالجميع واقع تحت القدرة والمشيئة والإلهية.  

______________________

 1- أنظر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 19 - ص 364 .

 2- أجود التقريرات,ج1,ص90 .