إسْتِغْلَالُ عُنْوَانِ حُرُوبِ الرِّدَّةِ لِلتَغْطِيَةِ عَلَى قَتْلِ المُسْلِمِيْنَ.

أبُو عَلِيٍّ البَصْرِيِّ: السَّلَامُ عَلَيْكُم .. مَا هِيَ حَقِيْقَةُ مَا يُسَمَّى بِحُرُوبِ الرِّدَّةِ ؟؟

: اللجنة العلمية

الأخُ أبو علي، السَّلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَركاتُهُ 

تُوجَدُ حُرُوبٌ لِلْرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (ص) وَلَا تُوْجَدُ لَدَيْنَا مُشْكِلَةٌ فِيْمَا خَاضَهُ المُسْلِمُوْنَ الأَوَائِلُ ضِدَّ حَرَكَاتِ الإنْقِلَابِ وإدِّعَاءِ النُّبُوَةِ وَمَنْ تَبِعَهُم عَلَى ذَلِكَ كَحَرَكَةِ مُسَيْلَمَةٍ الكَذَّابِ وَالأسْوَدِ العَنْسِيِّ وَسَجاحٍ وَطُلَيْحَةَ وَأَتْبَاعَهُم وَلَكِنَّ المُشْكِلَةَ فِي إسْتِغْلَالِ تِلْكَ الحُرُوبِ لِتَبْرِيْرِ قَتْلِ الصَّحَابَةِ وَالمُسْلِمِيْنَ مِمَّنْ إعْتَرَضَ عَلَى تَخْلِيْفِ وَتَسْلِيْطِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى رِقَابِ المُسْلِمِيْنَ بَدِيْلَاً لِرَسُولِ رَبِّ العَالَمِينِ وَإِزَاحَةِ خِلَافَةِ النَّبِيِّ الأَكْرَمِ عَن أَهْلِ بَيْتِهِ الأَطْهَارِ وَقَتْلِ كُلِّ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ حَقِيْقَةٌ مُغَيَّبَةٌ وَمُهِمَّةٌ لِمَا جَرَى كَمَا قُتِلَ مَالِكُ بنُ نُوَيْرَةٍ صَبْرَاً وأَتْبَاعُهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيْلٌ وَلَّاهُ رَسُولُ اللهِ (ص) عَلَى صَدَقَاتِ قَوْمِهِ!

ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَحْكِي حُرُوبَ الرِّدَّةِ مُتَنَاقِضَةٌ مُضْطَرِبَةٌ تَحْصِرُ تِلْكَ الحُرُوبَ بِمَسْأَلَةِ قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَلَا تَتَكَلَّمُ عَنْ مُدَّعِي النُّبُوَةِ وَالمُرْتَدِّيْنَ عَنِ الإِسْلَامِ فَهَذَا هُوَ العَجِيْبُ فِي الأَمْرِ. 

فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ (8/ 50 و140) ومُسْلِمُ (1/ 38):

أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِيَّ النَّبِيُّ (ص) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ قَالَ عُمَرُ يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُوْلُوا لَا إِلَهَ إلَّا الله فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا الله عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابِهُ عَلَى الله ، قالَ أبُو بَكرٍ وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المالِ وَاللهِ لَو مَنَعُونِي عِنَاقَاً (عِقَالاً) كَانُوا يُؤَدُّونَها إلَى رَسُولِ اللهِ (ص) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.

قَالَ الحَافِظُ إبْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البَارِي(12/ 245): قَالَ الخَطَّابِيُّ: زَعَمَ الرَّوَافِضُ أنَّ حَدِيثَ البَابِ مُتَنَاقِضٌ لأنَّ فِي أَوَّلِهِ أنَّهُم كَفَرُوا وَفِي آَخِرِهِ أَنَّهُم ثَبَتُوا عَلَى الإسْلَامِ إلَّا أَنَّهُمُ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِيْنَ فَكَيْفَ إسْتَحَلَّ قِتَالَهُم وَسَبْيَ ذَرَارِيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارّاً فَكَيْفَ إحْتَجَّ عَلَى عُمَرَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإنَّ فِي جَوَابِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّلَاةِ، قَالَ: وَالجَّوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أنَّ الَّذِيْنَ نُسِبُوا إلَى الرِّدَّةِ كَانُوا صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ رَجَعُوا إلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَصِنْفٌ مَنَعُوا الزَّكَاةَ وتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهُم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فَزَعَمُوا أنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّ غَيْرَهُ لَا يُطَهِرُهُمْ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِم فَكَيْفَ تَكُوْنُ صَلَاتَهُ سَكَنَاً لَهُم... وَإنَّمَا أُطْلِقَ فِي أَوَّلِ القِصَّةِ الكُفْرُ لِيَشْمَلَ الصِّنْفَيْنِ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ جَحَدَ حَقِيقَةٌ وَفِيْ حَقِ الآخَرِيْنَ مَجَازٌ تَغْلِيْبَاً وَإنَّمَا قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيْقُ وَلَمْ يَعْذِرْهُمْ بِالجَّهْلِ لِإنَّهُم نَصَبُوا القِتَالَ فَجَهَّزَ إليَهُم مَنْ دَعَاهُم إلَى الرُّجُوعِ فَلَمَّا أَصَرُّوا قَاتَلَهُم... وقَوْلُهُ (فَإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ) يُشِيْرُ إلَى دَلِيْلِ مَنْعِ التَّفْرِقَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أنَّ حَقَّ النَّفْسِ الصَّلَاةُ وحَقَّ المَالِ الزَّكَاةُ فَمَنْ صَلَّى عَصَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ زَكَّى عَصَمَ مَالَهُ فِإِنْ لَمْ يُصَلِّ قُوْتِلَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَن لَمْ يُزَكِّ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِهِ قَهْرَاً وَإِنْ نَصَبَ الحَرْبَ لِذَلِكَ قُوُتِلَ. أهـ

     وَهَذَا مِنْ أَكْذَبِ الكَذِبِ وَقَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ فَالكُلُّ يَعْلَمُ أنَّ خَالِدَ بنَ الَولِيْدِ قَتَلَ مَالِكَ بنَ نُوَيْرَةَ وَقَوْمَهُ صَبْرَاً وَلَمْ يَكُوْنُوا مُقَاتِلِيْنَ لَهُ بَلْ كَانُوا آَمِنِينَ فِي بِلَادِهُم وَخَالِدٌ هُوَ مَنْ أَغَارَ عَلَيْهِم لِأَجْلِ جَمَالِ زَوْجَةِ مَالِكٍ فَقَتَلَهُ وَمَثَّلَ بِهِ وَنَكَحَ زَوْجَتَهُ مُبَاشَرَةً فَلَا يُمْكِنُهُم إِنْكَارُ هَذِهِ الفَضَائِحِ مَهْمَا حَرَّفُوْا..

وَقَالَ العَلَّامَةُ العَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ القَارِي (8/ 250): وَهَؤُلَاءِ كَانُوا صِنْفَيْنِ؛ صِنْفٌ: إرْتَدُّوا عَنْ الدِّيْنِ وَنَابَذُوا المِلَّةَ وَعَادُوا إلَى كُفْرِهُمُ وَهُمُ الَّذِيْنَ عَنَاهُمُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ 'وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ العَرَبِ' وَهَذِهِ الفِرْقَةُ طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَصْحَابُ مُسَيْلَمَةٍ مِنْ بَنِي حَنِيْفَةَ وَغَيْرُهُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوْهُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَةِ وَأَصْحَابَ الأَسْوَدِ العَنْسِيِّ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُسْتَجِيْبِيْهِ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ وَغَيْرِهُمِ وَهَذِهِ الفِرْقَةُ بِأَسْرِهَا مُنْكِرَةٌ لِنُبُوَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مُدَّعِيةٌ لِلْنُبُوَةِ لِغَيْرِهِ فَقَاتَلَهُم أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قَتَلَ اللهُ مُسَيْلَمَةَ بِاليَمَامَةِ وَالعَنْسِيَّ بِصَنْعَاءَ وانْفَضَّتْ جُمُوعَهُم وهَلَكَ أَكْثَرُهُم وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ فَأنْكَرُوا الشَّرَائِعَ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُمُورِ الدِّيْنِ وَعَادُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الجَّاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ للهِ تَعَالَى فِي بَسِيْطِ الأَرْضِ إلَّا ثَلَاثَةُ مَسَاجِدَ مَسْجِدُ مَكَّةَ وَمَسْجِدُ المَدِيْنَةِ وَمَسْجِدُ عَبْدِ القَيْسِ فِي البَحْرَيْنِ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا "جَوَاثِي". والصِّنْفُ الآخَرُ: هُمُ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ فَأَقَرُّوا بِالصَّلَاةِ وَأَنْكَرُوا فَرْضَ الزَّكَاةِ وَوُجُوبَ أَدَائِهَا إلَى الإمَامِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى الحَقِيْقَةِ أَهْلُ بَغْيٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَدْعُوا بِهَذَا الاسْمِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خُصُوصَاً لِدُخُولِهِم فِي غِمَارِ أَهْلِ الرِّدَةِ فَأُضِيْفَ الاسْمُ فِي الجُّمْلَةِ إلَى الرِّدَّةِ إذْ كَانَتِ أَعْظَمَ الأَمْرَيْنِ وَأَهَمَّهُمَا وَأرَّخَ قِتَالَ أَهْلِ البَغْي فِي زَمَنِ عَلِي بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إِذْ كَانُوا مُنْفَرِدِيْنَ فِي زَمَانِهِ لَمْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ... أهـ

وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الرِّدَةِ الحَقِيْقِيِّةِ وَلَيْسَتِ المُدَّعَاةِ فِي كِتَابِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَالِكٍ الأشْتَرِ وَفِيْهِ: أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدَاً صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَذِيْرَاً لِلْعَالَمِيْنَ وَمُهَيْمِنَاً عَلَى المُرْسَلِيْنَ، فَلَمَّا مَضَى عَلَيْهِ السَّلامُ تَنَازَعَ المُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَواللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رَوْعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ العَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا أَنَّهُم مَنَحُوهُ عَنِّيْ مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إلَّا إنْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِيْ حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَن الإسْلَامِ يَدْعُونَ إلَى مَحْقِ دِيْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ، فَخَشِيْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَىْ فِيْهِ ثُلْمَاً أَوْ هَدْمَاً تَكُوْنُ المُصِيْبةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أو كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَى زَاحَ البَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّيْنُ وَتَنَهْنَهَ...

 ودمتم سالمين