ما هو سَببُ الإختِلَافِ في تَفسِيرِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيمِ؟!!

لو القُرآنُ كَلَامُ اللهِ المُنزَّهُ عن الخَطَأِ لمَاذا نَجِدُ كُلَّ هذِهِ الإختِلَافَاتِ بَينَ المُسلِمِينَ في التَّفاسِيرِ؟ خَاصَّةً ما تَعلَّقَ بالأحكَامِ، فكُلُّ طَائِفةٍ تُقدِّمُ تَفْسِيراً على هَوَاها، وكُلُّ فَرِيقٍ فَرِحَ بمَا لَديْهِ، هل أخْطَأَ اللهُ في صِيَاغةِ الآيَاتِ لأنَّها مُبهَمةٌ مَطَّاطيَّةٌ ولم يَجعَلْ المَعَانِيَ جَليَّةً وَاضِحَةً! وكمِثَالِ آيةِ قَطعِ اليَدِ التي تَقبَلُ أكثَرَ مِن تَفسِيرٍ بَينَ مَن يَقُولُ ببَتْرِ اليَدِ وبَتْرِ الأصَابِعِ، ومَن يَقُولُ: إنَّ القَطعَ ليسَ قَطعاً فِيزْيائِيَّاً، بل مَعنَوِيّاً. هذا مُجرَّدُ مِثَالٍ لمِئَاتِ الإختِلَافَاتِ؟

: اللجنة العلمية

     الأخُ المُحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركَاتُه. 

     أسبَابُ الإختِلَافِ في تَفسِيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ مُتعَدِّدةٌ، مِنْها: أنَّ الآيَاتِ القُرآنِيَّةَ لَيسَتْ كُلُّها على نَمَطٍ وَاحِدٍ، ففِيهَا النَّصُ الَّذي لا يَحتَمِلُ مَعنَىً آخَرَ، كمَا في قَولِهِ تَعَالى: (حُرِّمَتْ علَيكُم أُمَّهَاتُكُم) النِّسَاء: 23، فهذِهِ الآيَةُ نَصٌّ في الحُرمَةِ ولا تَحتَمِلُ أيَّ مَعنَىً آخَرَ يُمكِنُ حَمَلُها عَليْه.

     وفِيْها الظَّاهِرُ، وهو اللَّفظُ الَّذي يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ أو أكثَرَ، ويَستَظهِرُ المُفسِّرُ أو الفَقِيهُ المُستَنبِطُ للْحُكْمِ مِن القُرآنِ أنَّ أحَدَهُما أظهَرُ مِن غَيرِهِ، كقَولِهِ تَعَالى: (أقِيمُوا الصَّلاةَ )الأنْعَام: 72، فهُنا قد يَقُولُ فَقِيهٌ بأنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبةٌ علَيكُم مع أنَّه لا تُوجَدُ كَلِمةُ "أوْجَبْتُ علَيكُم الصَّلَاةَ"، أو "تَجِبُ علَيكُم الصَّلَاةُ" في الآيَةِ الكَرِيمَةِ.. فمِن أينَ اسْتفَادَ الفَقِيهُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مِن هذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؟!!

     اسْتفَادَه مِن ظُهُورِ صِيغَةِ (إفعَلْ) في الوُجُوبِ، والتي جَاءَتْ كَلِمةُ (أقِم) على وِزَانِها، مع احْتِمَالِ أنْ يَستَفِيدَ فَقِيهٌ آخَرُ مِن صِيغَةِ (إفعَلْ) مُطلَقَ الطَّلَبِ (يَعنِي الأعَمَّ مِن الوُجُوبِ والإستِحبَابِ) فلا يَقُولُ بوُجُوبِ الصَّلَاةِ، فيَحتَاجُ إلى دَلِيلٍ آخَرَ للإفتَاءِ بالوُجُوبِ غَيرِ الآيَةِ المَذكُورَةِ.

     فهَذا هو أحَدُ أسبَابِ الإختِلَافِ في تَفسِيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ واسْتفَادَةِ الأحكَامِ منْه وهو بَابُ الظُّهُورَاتِ.

     وهُناكَ بَابٌ آخَرُ هو بَابُ المُحكَمِ والمُتشَابَهِ، فبَعْضُ الآيَاتِ جَاءَتْ وَاضِحةً ومُحكَمَةً ولا تَحتَمِلُ مَعنَىً آخَرَ في بَيَانِها، كقَولِه تَعَالى: (إنَّما إلهُكُم إلَهٌ وَاحِدٌ) الكَهفُ: 110، فهَذا المَعنَى مِن وُجُودِ إلَهٍ وَاحِدٍ مِن الآيَةِ الكَرِيمةِ يَفهَمُه كُلُّ أحَدٍ ولا يَختَلِفُ عَليْه اثْنانِ، ولكنَّ هُناكَ آيَاتٍ تَحتَمِلُ أكثَرَ مِن مَعنَىً في مُرَادِها، نحوَ قَولِه تَعَالى: (يدُ اللهِ فَوقَ أيْدِيهِم) الفَتحُ:10، فبَعْضُ الفِرَقِ الإسْلَاميَّةِ - كالسَّلفِيةِ - قَالُوا بأنَّ المُرَادَ هو الظَّاهِرُ الحَقِيقِيُّ، أي أنَّ لِلهِ يداً حَقِيقةً، وبَعضُهُم - كالإمَاميَّةِ والمُعتَزلَةِ وجَماعَةٍ كَبِيرَةٍ مِن الإشَاعِرَةِ - قَالَ بأنَّ المُرَادَ باليَدِ هُنا القُدرَةُ، أي قُدرَةُ اللهِ فَوقَ قُدرَتِهِم، فذَهَبُوا إلى التَّأوِيلِ والمَجَازِ في بَيَانِ المُرَادِ مِن الآيَةِ حتى لا يَقعُوا في التَّجِسيمِ والتَّشبِيهِ المَنهِيِّ عنْه عَقلاً وشَرْعاً، وغَيرُهُم ذَهبَ إلى التَّوقُّفِ كمَا يُشِيرُ إليْه النَّووِيُّ في شَرْحِه على مُسلِمٍ، وهكَذا.

      تَقُولُ: لمَاذا لم يَجعَلْ اللهُ سُبحانَه كُلَّ آيَاتِه نُصُوصاً مُحكَمَةً وبَيانَاتٍ وَاضِحَةً حتى لا يَحصُلَ الإختِلَافُ ويَنقَطِعُ دَابِرُ النِّزَاعِ؟!!

     الجَوابُ: ليسَ كُلُّ القُرآنِ غَامِضاً ومُستَعصِياً على النَّاسِ فَهْمُه، بل فيْه آيَاتٌ وَاضِحَةٌ جِدّاً وبَيانَاتٌ يَفهَمُها كُلُّ إنسَانٍ يَملِكُ قَدْراً مِن الإحَاطَةِ باللُّغَةِ العَربِيةِ والفَهمِ السَّلِيمِ، والسِّرُّ في جَعلِ المُتشَابَهِ والظُّهُورَاتِ في القُرآنِ الكَرِيمِ هو في المُحافَظَةِ على المَرجِعيَّةِ الدِّينِيَّةِ في الإسْلَامِ وعَدمِ جَعلِهَا بيَدِ كُلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ.  

     فقَد أرشَدَ القُرآنُ الكَرِيمُ في آيَاتٍ وَاضِحَةٍ منْه بلُزُومِ رُجُوعِ الأمَّةِ إلى النَّبيِّ (صلَّى اللهُ علَيه وآلِه وسلَّمَ)  وإلى أهلِ الذِّكْرِ عِندَ عَدمِ العِلْمِ ومَعرِفَةِ المُرَادِ مِن القُرآنِ الكَرِيمِ، وليسَ ذاكَ إلَّا مِن أجلِ تَحدِيدِ الجِهَةِ التي تَقُودُ المُسلِمِينَ وتَأخُذُ بزِمَامِ أمُورِهِم، فالإسْلَامُ ليسَ قُرآناً فقط، بل هو قُرآنٌ وقِيَادةٌ مَعاً، وهو ما نَفهَمُه بكُلِّ وُضُوحٍ مِن حَدِيثِ الثَّقلَينِ الَّذي أمَرَ النَّبيُّ (صلَّى اللهُ علَيه وآلِه وسلَّمَ) الأمَّةَ فيْه بالتَّمسُّكِ بالقُرآنِ والعِترَةِ مَعاً مِن بَعدِهِ كي لا تَضِلَّ أبداً.

     قَالَ النَّبيُّ (صلَّى اللهُ علَيه وآلِه وسلَّمَ): {إنِّي تَارِكٌ فِيكُم ما إنْ تَمسَّكْتُم به لنْ تَضِلُّوا بَعدِي، أحَدُهُما أعظَمُ مِن الآخَرِ: كِتَابَ اللهِ، حَبلٌ مَمدُودٌ مِن السَّماءِ إلى الأرْضِ، وعِترَتِي أهلَ بَيتِي ولنْ يَتفَرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوضَ، فَانْظُرُوا كيفَ تُخلِّفُونَنِي فِيهِما} [مُختَصَرُ صَحِيحِ الجَامعِ الصَّغِيرِ للسُّيوطِي والألبَانِي، رَقمُ الحَدِيثِ 1726- 2458].

     وحِينَ قَالَ (ص): {إنِّي تَارِكٌ فِيكُم خَلِيفَتَينِ: كِتَابَ اللهِ، حَبلٌ مَمدُودٌ ما بَينَ الأرْضِ والسَّماءِ، وعِترَتِي أهلَ بَيتِي، وإنَّهُما لنْ يَتفَرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوْضَ} [صَحِيحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ للألبَانِي 1: 482].

     وفي هذا المَوضِعِ - أي في عَدمِ أخْذِ الدِّينِ وتَفسِيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ مِن المَرْجِعيَّةِ التي حَدَّدَها لنا اللهُ ورَسُولُه (ص) - كبا الكَثِيرُونَ فاخْتلَفُوا وما زَالَ الإختِلَافُ قَائِماً بَينَهُم في كلِّ الأمُورِ.

     ودُمتُم سَالِمينَ.