معنى قولهِ تَعالى: (ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)؟

الحاجُّ اكرم بهجت‏/: السّلامُ عليكُم، حفظكمُ اللهُ. في سورةِ فصّلَتْ الآية 11 (ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). السّؤالُ هُنا، هلِ السّماءُ والأرضُ كانَتا موجودتينَ معَ وجودِ اللهِ أم ماذا؟ وكيفَ يستوي اللهُ مع أو إلى السّماءِ؟ فظاهرُ الآيةِ يوحِي أنَّ السّماءَ وُجِدَتْ معَ وجودِ اللهِ أو قبلهُ وأستغفرُ اللهَ. نرجُو التّوضيحَ ولكُم جزيلُ الشّكرِ. أرجو التّوضيحَ على التّليغرام و الماسنجر.

: اللجنة العلمية

الأخُ الحاجُّ أكرمُ المحترمُ، عليكمُ السّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ 

جاءَ في تفسيرِ "الميزانِ": (قولَهُ تعالى: ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" الإستواءُ - على ما ذكرهُ الرّاغبُ - إذا عُدّيَ بعلى أفادَ معنَى الاستيلاءِ نحوَ "الرّحمنُ على العرشِ استوى"، وإذا عُدّيَ بإلى أفادَ معنى الإنتهاءِ إليهِ.

وأيضاً في المفرداتِ أنَّ الكَرهَ -بفتحِ الكافِ- المشقّةُ التي تنالُ الانسانَ مِن خارجٍ فيمَا يُحمَلُ عليهِ بإكراهٍ، والكُرهُ -بضمِّ الكافِ- ما تنالهُ مِن ذاتهِ وهوَ يَعافهُ.

فقولهُ: "ثمَّ استوى إلى السّماءِ" أي توجّهَ إليهَا وقصدهَا بالخلقِ دونَ القصدِ المكانيّ الذي لا يتمُّ إلّا بانتقالِ القاصدِ مِن مكانٍ إلى مكانٍ ومِن جهةٍ إلى جهةٍ لتنزّههِ تعالى على ذلكَ.

وظاهرُ العطفِ بثمَّ تأخّرُ خلقِ السّماواتِ عنِ الأرضِ لكِن قيلَ: إنَّ "ثمَّ" لإفادةِ التّراخِي بحسبِ الخبرِ لا بحسبِ الوجودِ والتّحقّقِ ويؤيّدهُ قولهُ تعالى: "أمِ السّماء بَناها - إلى أن قالَ - والأرضَ بعدَ ذلكَ دحاها أخرجَ منهَا ماءهَا ومَرعاهَا والجبالَ أرساهَا" النّازعاتُ:32 فإنّهُ يفيدُ تأخّرَ الأرضِ عَنِ السّماءِ خلقاً.

والاعتراضُ عليهِ بأنَّ مفادهُ تأخّرُ دحوِ الأرضِ عَن بناءِ السّماءِ ودحوُهَا غيرُ خلقِهَا مدفوعٌ بأنَّ الأرضَ كرويّةٌ فليسَ دحوُهَا وبسطُها غيرُ تسويتهَا كرةً وهوَ خلقهَا على أنّهُ تعالى أشارَ بعدَ ذِكرِ دحوِ الأرضِ إلى إخراجِ مائها ومرعاهَا وإرساءِ جبالهَا وهذهِ بعينهَا جعلَ الرّواسِي مِن فوقهَا والمباركةِ فيهَا وتقديرِ أقواتهَا التي ذكرهَا في الآياتِ التي نحنُ فيهَا معَ خلقِ الأرضِ وعطفَ عليهَا خلقَ السّماءِ بثمَّ فلا مناصَ عَن حملِ "ثمَّ" على غيرِ التّراخِي الزّمانيّ فإنَّ قولهُ فِي آيةِ النّازعاتِ: "بعدَ ذلكَ" أظهرُ فِي التّراخِي الزّمانيّ مِن لفظةِ "ثُمَّ" فيهِ فِي آيةِ حم السّجدةِ واللهُ أعلمُ.

وقولهُ: "وهيَ دخانٌ" حالٌ منَ السّماءِ أي استوى إلى السّماءِ بالخلقِ حالَ كونِهَا شيئاً سمّاهُ اللهُ دخاناً وهوَ مادّتهَا التي ألبسهَا الصّورةَ وقضاهَا سبعَ سماواتٍ بعدَ مَا لم تكُنْ معدودةً متميّزاً بعضهَا مِن بعضٍ، ولذا أفردَ السّماءَ فقالَ: "استوى إلى السّماءِ".

وقولهُ: "فقالَ لهَا وللأرضِ ائتيا طَوعاً أو كَرهاً" تفريعٌ على استوائهِ إلى السّماءِ والموردُ موردُ التّكوينِ بلا شكٍّ فقولهُ لهَا وللأرضِ: "ائتيا طوعاً أو كرهاً" كلمةُ إيجادٍ وأمرٌ تكوينيٌّ كقولهِ لشيءٍ أرادَ وجودَهُ: كُنْ، قالَ تعالى: "إنّمَا أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كُن" يس: 83.

ومجموعُ قولهِ لهمَا: "ائتيا" الخ وقولهمَا لهُ: "أتينا" إلخ تمثيلٌ لصفةِ الإيجادِ والتّكوينِ على الفهمِ السّاذجِ العرفيّ وحقيقةٌ تحليليّةٌ بناءاً على ما يُستفادُ مِن كلامهِ تَعالى مِن سرايةِ العلمِ في الموجوداتِ وكونِ تكليمِ كلِّ شيءٍ بحسبِ مَا يُناسبُ حالهُ، وقَد أوردنا بعضَ الكلامِ فيهِ فيمَا تقدّمَ منَ المباحثِ، و سيجيءُ شطرٌ منَ الكلامِ فيهِ في تفسيرِ قولهِ:

"قالوا أنطقنَا اللهُ الذي أنطقَ كلَّ شيءٍ". الآيةُ 21 مِنَ السّورةِ إن شاءَ اللهُ.

وقولُ بعضهِم: إنَّ المرادَ بقولهِ: "ائتيا" الخ أمرُهمَا بإظهارِ مَا فيهمَا منَ الآثارِ والمنافعِ دونَ الأمرِ بأن توجدا وتكونَا مدفوعٌ بأنَّ تكوّنَ السّماءِ مذكورٌ فيمَا بعدُ ولا معنَى لتقديمِ الأمرِ بإظهارِ الآثارِ والمنافعِ قبلَ ذكرِ التّكوّنِ.

وفِي قولهِ: "ائتيا طوعاً أو كرهاً" إيجابُ الإتيانِ عليهِمَا وتخييرهمَا بينَ أن تفعلا ذلكَ بطوعٍ أو كرهٍ، ولعلَّ المُرادَ بالطّوعِ والكرهِ - وهمَا بوجهِ قبولِ الفعلِ ونوعِ ملاءمةٍ وعدمهِ - هوَ الاستعدادُ السّابقُ للكونِ وعدمهِ فيكونُ قولهُ: "ائتيا طوعاً أو كرهاً" كنايةً عن وجوبِ إتيانِهمَا بلا مناصٍ وأنّهُ أمرٌ لا يتخلّفُ البتّةَ أرادتا أو كرهتا سألتاهُ أو لم تسألا فأجابتا أنّهمَا يمتثلانِ الأمرَ عَن استعدادٍ سابقٍ وقبولٍ ذاتيّ وسؤالٍ فطريّ إذ قالتا: أتينَا طائعينَ). [الميزانُ في تفسيرِ القُرآنِ 17: 364]. 

ودمتُم سالِمينَ.